أمسكت بيد طفلها، ودخلت غرفة الطبيب والغضب بادٍ على وجهها بشكل استوقف الطبيب، فاستبقها ببعض الكلمات المشجعة:

ما شاء الله .. لقد تحسَّن كثيرًا عما كان منذُ يومين. لقد تحسن قليلاً الحمد الله ، لكنني أرغب في عتاب حضرتك بشدة. خيرٌ إن شاء الله .. تفضلي. البخاخة التي وصفتها له اكتشفت بالأمس مصادفة وأنا أقرأ النشرة الطبية الملحقة بها أنها تحتوي كورتيزون .. لماذا يا دكتور؟ دائمًا ما يحذر الجميع من الكورتيزون، وأنه يعطى تحسنًا كاذبًا، تتدهور بعده الحالة. مع احترامي .. هل (الجميع) هؤلاء أطباء، درسوا الأمراض والأدوية، ودواعي استعمال كل دواء، وآثاره الجانبية؟ لا يا دكتور، لكن دائمًا ما أسمع التحذير من الكورتيزون و …
دعكِ من الكلام المرسل الذي يقوله بعض غير المتخصصين. كل دواء له آثار علاجية مفيدة نريدها، وأخرى جانبية ضارة لا نريدها، لكننا نتحملها إذا كنا نحتاج إلى هذا الدواء، إذا غلبتْ كفة الفائدة كفةَ الضرر على الميزان. -أنا آسفة يا دكتور .. لقد أقلقني ما أسمعه عن الكورتيزون، وكذلك ما رأيته في حالة عمتي التي تورم جسمها، وتغير شكلها بعد أن أُعْطِيَتْ الكورتيزون نتيجة مشاكل في الكلى.

تتكرر مثل القصة السابقة كثيرًا بتنويعات مختلفة. هناك هاجس منتشر من الهلع تجاه الكورتيزون. المشكلة أن هذا الهاجس حقيقي جدًا وزائف جدًا، إذ يندر أن تجد مجموعة دوائية تحمل كل تلك المتناقضات مثل الكورتيزون. سنعرف هذا وغيره من خلال النقاط الأساسية التالية.


الكورتيزون… الهرمون والدواء

الكورتيزون هو هرمون شهير، تفرزه في الجسم قشرة الغدة الكظرية، وتسمى أيضًا – بسبب مكانها بالجسم – بالغدة فوق الكلوية. يزداد إفراز الكورتيزون في الصباح الباكر، ويقل في المساء، إذ أنه من الهرمونات التي تساهم في تنظيم اليقظة والنوم على مدار اليوم، أو ما يسمى «الساعة البيولوجية». لكن ليست هذه الوظيفة هي ما دفعتنا لتحويل الهرمون إلى دواء، وأحدثت ثورة الكورتيزون.

اقرأ أيضًا: نوبل في الطب لمكتشفي آلية عمل الساعة البيولوجية

الالتهاب هو ذلك المزيج من السخونة والاحمرار والتورم الذي يصيب أنسجة الجسم التي تتعرض للمرض أو الإصابة. يتكون النسيج من خلايا، وعندما تتكسر الخلية نتيجة المرض أو الإصابة، يخرج منها بعض المواد غير المعتاد ظهورها في الدم، فتسبب تحفيز جهاز المناعة، فتبدأ خلاياه في الأنسجة في إفراز مواد مثيرة الالتهاب، تسبب اتساع الأوعية الدموية في النسيج، لتحمل مزيدًا من الدم – بما يحتويه من مواد غئائية، وخلايا مناعة، وحرارة .. إلخ لمنطقة الالتهاب، وذلك كجزء من خطة الجسم للتعامل مع المشكلة. هذا التورم في النسيج، مع الكم المكثف من المواد الكيميائية في نفس المكان، يثير نهايات الأعصاب، فنشعر بالألم والسخونة في مكان الالتهاب.

ما علاقة ما سبق بالكورتيزون؟ ببساطة الكورتيزون هو أقوى مضاد التهاب نعرفه حتى الآن. كذلك هو من أهم الهرمونات المنظمة لعمل جهاز المناعة، ولعمليات الأيض داخل الخلية، والتي من خلالها تحرق الخلايا مخزونات المواد الأولية كالجلوكوز والأحماض الدهنية للحصول على الطاقة، أو تحولها من صورة لأخرى.

يمكن تلخيص دور الكورتيزون في الطوارئ، بأنه يقوم بتنظيم رد فعل الجسم الذي وصفناه سابقًا، في حالة الضغط الشديد بسبب الأوضاع الطارئة كالإصابة والعدوى .. إلخ، وبدونه يصبح مبالغًا فيه، وقد يسبب الضرر للجسم أشد من الضرر الأصلى للفعل نفسه.

لكن في المقابل، فتفاعل الالتهاب، والذي ينفذه جهاز المناعة، هو العمود الفقري لخطة طوارئ الجسم للتعامل مع المشاكل المُلحة. الكورتيزون في الوضع الطبيعي، يضمن فقط ألا يصبح علاج المشكلة جزءًا من المشكلة، ولذا يبقي الأمور متوازنة، بالتنسيق مع الهرمونات الأخرى المحفزة للالتهاب. من هذا المنطلق، فالكورتيزون سلاح إستراتيجي باستخدامات محددة غير عشوائية.


إذا لم تعرف السبب .. أعطِ كورتيزون!

هكذا تقول الأسطورة الطبية الشهيرة: if the cause is unknown, give cortisone!

في مقابل الهاجس الكبير من الهلع من الكورتيزون لدى الكثير من المرضى وذويهم، هناك بعض الأطباء المصابين بهاجس عكسي، فيلجأون لاستخدام الكورتيزون في كل شيء، خاصةً إذا حاروا في التشخيص، بل وصل الأمر لاستخدام بعضهم له في علاج أدوار البرد!

اقرأ أيضًا: مجموعة البرد .. هيا نقتل المناعة ونغذي البكتيريا

السبب في ذلك، هو الأسطورة السابقة. بالفعل الكورتيزون مضاد عام للالتهاب بكافة مسبباته، سواء كان عدوى فيروسية أو بكتيرية أو إصابة حوادث أو مرضًا مناعيًا أو سرطانًا خبيثًا أو تسممًا .. إلخ. لذا عند إعطاء جرعات كبيرة من الكورتيزون في أية حالة مرضية، فقد يحدث أولًا تحسن كلي أو جزئي في الأعراض، ولكن ليست الدنيا بهذه السهولة. هذا التحسن المبدئي في غير موضعه، لا يلبث أن يتحول إلى كارثة، وقد يسرع الوصول للوفاة للأسف.

على سبيل المثال، تخيل مريضًا مصابًا بالالتهاب الرئوي البكتيري، يعاني من ارتفاع درجة الحرارة، والسعال، وزيادة كبيرة في الإفرازات التنفسية، وآلام متفرقة بالصدر …إلخ. سنعطي هذا المريض جرعة كبيرة من الكورتيزون، ماذا سيحدث؟

في الساعات الأولى، قد يحدث تحسن مذهل في الأعراض .. لا حمى، لا ألم بالصدر، السعال كاد أن يختفي … إلخ، ثم؟ خلال ساعات تالية، أو أيام، قد يصبح المريض على جهاز التنفس الصناعي، أو في قبره! نعم الكورتيزون خفف تفاعل الالتهاب، من خلال كبح جماح رد الفعل المناعي، فخفَّت الأعراض أولًا، لكن أصبحت البكتيريا بلا رادع في الجهاز التنفسي، بل الجسم كله.

بالفعل قد يقوم الكورتيزون بدور مساعد في علاج إصابة بكتيرية شديدة، عندما تكون البكتيريا شديدة السمية، فتستفز رد فعل مناعي زائد عن الحد، قد يسبب تلف الجسم وهبوط الدورة الدموية. لكن يكون هذا تحت غطاء جيد من المضادات الحيوية، التي هي العلاج الرئيسي للبكتيريا.

إذن بعيدًا عن العشوائية، ما استخدامات الكورتيزون الطبية؟


الكورتيزون كدواء خارق

طيف واسع من الأمراض يحتاج الكورتيزون على رأس قائمة العلاج، ولو كعلاج أولي، بجرعة محددة جدًا. وتمتاز مستحضرات الكورتيزون بتوافرها بكافة أنماط الدواء (حقن للوريد والعضل – أقراص بالفم – بخاخات للتنفس وللأنف – مراهم للجلد – قطرات للعين … إلخ). ومن مستحضرات الكورتيزون ما هو سريع المفعول، وطويل المفعول، وبين ذلك. ولأن الإحاطة بكل استخدامات الكورتيزون يحتاج مجلدات، وليس مقالات.

تستخدم جرعات كبيرة من الكورتيزون الوريدي لكبح التفاقمات الحادة لمعظم أمراض المناعة الذاتية مثل الذئبة الحمراء، والتي يحدث فيها اختلال في جهاز المناعة، يجعله يهاجم أعضاء الجسم المختلفة وعلى رأسها الكلى والمفاصل .. إلخ. كذلك يستخدم في تخفيف الضغط عن المراكز العصبية الحيوية كالنخاع الشوكي في الظهر عند حدوث انضغاط شديد له، نتيجة حادث أو انتشار سرطاني .. إلخ، وبدون ذلك قد يحدث الشلل .. إلخ. يستخدم الكورتيزون أحيانًا كجزء من العلاج الكيماوي لبعض سرطانات الدم، كما يستخدم للسيطرة على انتشار بعض أنواع الإصابات الجلدية الخطيرة كمرض الصدفية. ويستخدم لعلاج بعض الالتهابات الكلوية الحادة مثل المتلازمة الكلوية بأنواعها المختلفة، والتي تسبب تلف الكلى، وفقدان كميات كبيرة من البروتين في البول.

كذلك يستخدم الكورتيزون ضد الحساسية بمختلف درجاتها وأشكالها، وتتحدد الجرعة والطريقة حسب نوعها. يستخدم الكورتيزون كذلك في علاج الربو الشعبي، وهو عبارة عن حساسية زائدة في الجهاز التنفسي تجاه مثيراتٍ عديدة. يستخدم الكورتيزون الموضعي في الحالات البسيطة والمتوسطة، وحتى الجرعات الكبيرة بالفم والوريد، في حالات الربو المستعصية المزمنة والحادة.

يستخدم الكورتيزون كذلك كعلاج مساعد في حالات الهبوط الشديد للدورة الدموية، خاصة الذي يسببه التهاب عام شديد، كتسمم بكتيري واسع، أو حساسية مفرطة .. إلخ، وذلك لأنه يحافظ على ضغط الدم، ويرفعه، ويسيطر على الالتهابات، ويثبط ردود الفعل المناعية المبالَغ فيها. ويستخدم الكورتيزون كذلك لدى المصابين بفشل الغدة الكظرية المسئولة عن إفرازه في الجسم.

يحقن الكورتيزون موضعيًا لعلاج بعض التهابات وأمراض المفاصل. ويستخدم في قطرات العين بمفرده، أو مع المضادات الحيوية والفيروسية لعلاج التهابات العين. ويستخدم في بعض أمراض القلب، كالحمى الروماتيزمية المسببة لالتهاب في أي من أجزاء القلب، والتهاب غشاء التامور المحيط بالقلب.


الوجه الآخر.. من A إلى Z

أي طالب طب مر بمادة علم الأدوية، يعرف تلك الطرفة – الحقيقية جدًا – عن الكورتيزون .. أنه الدواء الذي عدَّ له العلماء أضرارًا جانبية تبدأ أسماؤها بجميع حروف الأبجدية، من A إلى Z.

كلما كان استخدام الكورتيزون موضعيًا لا يصل منه الكثير إلى الدم مثل البخاخات والمراهم، وبالجرعات المحددة، في التوقيت اللازم فقط، كلما كانت الآثار الجانبية في أقل نطاق. لذا تظهر معظم الآثار الجانبية مع تعاطى الجرعات الكبيرة لمدد طويلة بالفم أو الوريد.

من أهم الآثار الجانبية للكورتيزون ارتفاع ضغط الدم، وسكر الدم، وتثبيط خلايا المناعة، مما يزيد من حدة الإصابات البكتيرية والفيروسية. كذلك يسبب الكورتيزون قرح المعدة، وذلك لأنه يتلف البطانة المخاطية الحامية للمعدة، كما قد يسبب التهابات المريء والبنكرياس، ويسبب أيضًا هشاشة العظام لتعارضه مع عمل فيتامين د.

يؤخر الكورتيزون التئام الجروح، وكذلك يسبب ضعف العضلات نتيجة قيامه بتكسير البروتين الذين تتكون منه الأنسجة العضلية. كذلك يسبب الكورتيزون السمنة وزيادة الوزن نتيجة احتباس كميات زائدة من الماء والصوديوم بالجسم، وكذلك نتيجة تدخله في أيض الدهون بالجسم، فيسبب زيادتها في بعض المناطق خاصة الوجه، فيسبب الشكل الشهير للوجه المستدير الذي يشبه القمر.

يسبب الكورتيزون أيضًا آثارًا جانبية على الجهاز العصبي والنفسي مثل الأرق، واضطرابات المزاج، والانفعال، وقد يصل إلى الاكتئاب الشديد. كذلك قد تسبب المستحضرات الموضعية ترقق الجلد، فيصبح أكثر قابلية للتشقق، وللجروح، والكدمات، والنزيف.

الخلاصة: الكورتيزون سلاح ذو حدين، ولابد ألا يوضع في غير مواضعه.