وحدها الصدفةُ يمكن أن تكونَ ذات مغزى. وحدها الصدفة ناطقة.
ميلان كونديرا.

في ثلاثِ حكاياتٍ عن الحب والعلاقات والرغبات الإنسانية، يأخذنا المخرج الياباني «ريوسوكي هاماجوتشي» في عالمٍ تنطلق كافة قصصه عن طريق الصدفةِ، أو بدافعٍ قدري، نجد بطلاتِنا في منتصفه.

تتشارك القصص الثلاث في أن شخصيّاتِها الرئيسية سيداتٌ يركضن في الحياة، وراء الشعور بالسعادة والراحة النفسية. يُصارعن ماضيًا ما يُلقي بظلاله على حاضرهم ويدفعهم نحو الرغبة في إعادة التفكير في قراراتهم السابقة، مما قد يُفضي بهم إلى الشعور بالندم وأحيانًا تُسيطر عليهم هواجس إنهاء حياتهم.

يصيغ هاماجوتشي عالمه الخاص بدقةٍ ونضج، يُجرِّد أبطاله من مُلهيات حاضرهم ويورّطهم في أقدارٍ تحثّهم على إعادة النظر في ماضيهم، يُلقيهم مباشرةً أمام ذواتهم من أجل مساءلتها والحُكم عليها.

شخصياتٌ حبيسة في واقعٍ مؤلم

عجلة الحظ والخيال
من الفيلم الياباني «عجلة الحظ والخيال»

لا يوجد ترابطٌ قصصي بين الحكايات الثلاث، لكن تتشابه بطلاتُنا إلى حدٍ كبير من الناحية النفسية. نبدأ بقصة مييكو وصديقتها غومي تشان. تُفتتح تلك الحكاية بكادرٍ مُتّسع تظهر فيه شجرتان إحداهما ذابلة والأُخرى يانعةٌ بالأوراق.

يعكس الكادر الأول الحالة النفسية المتضادة بين مييكو التي انفصلت مؤخرًا عن زوجها بعد قصةِ حبٍ متبادلة، وغومي تشان التي تبدأ لتوّها علاقةً جديدة. تتحدث غومي تشان مع مييكو عن ذلك الشاب الذي تحبه وعن اللقاء الأول بينهما. تُدرك مييكو أثناء حديث صديقتها أن ذلك الشاب الذي تقصده هو كازو حبيبها السابق، لكنّها تشعر بالحرج من أن تُخبرها بذلك. وكأن القدر ألقاه في طريق صديقتها لتستعيد تلك الذكرى التي تنكأ جُرحًا بداخلها لم يُشفَ بعد.

يُصبح ذلك صراعًا مشتركًا بين شخصيات هاماجوتشي؛ كونها تُحاول تخطّي أمرٍ ما لكنّها تُجد نفسها في مواجهة ذلك الحدث الذي هربتْ منه من قبل. شخصياتُنا تُشقيها المواجهة وربّما هنا تكمن مأساتُها.

لذا تقرر مييكو أن تواجه مشاعرها وتصطدم عن عمد بالماضي الذي حاولت تناسيه، وتذهب لحبيبها السابق لينشأ بينهما حوارٌ طويل يتحدث فيه الثنائي عما آل بهما إلى الإخفاق. يمثّل الحديث بحد ذاته متنفسًا تطهيريًا لشخصياتِنا أشبه بفضاءٍ للبوح بما يكتمونه ويُثقل عليهم. وحده البوحُ هو القادر على ملء تلك الفجوة الداخلية في نفوس الأبطالِ بين ما يتمنون وبين واقعهم الذي يحيونه بالفعل.

يُعبر هاماجوتشي عن ذلك في أحد مشاهده حين يتلاقى مييكو وغومي تشان مع كازو، نجد مييكو تُخبر صديقتها بالحقيقة ثم ينتهي المشهد لنعلم أن ما حدث كان مشهدًا مُتَخيّلًا في عقل مييكو لم يحدث على أرض الواقع. هنا تتراءى لنا الشخصيات كأنهم سجناء في واقعهم المؤلم الذي لا يمتلكون الجرأة الكافية لتغييره. يُأطر هاماجوتشي ذلك المعنى في تكويناته السينمائية بأن يجعل شخصياته عادةً قابعةً خلف حوائل زجاجية أو أسوارٍ حديدة أو أسلاكٍ تُشبه السجن، انعكاسًا على ما يختلج في صدورهم.

كتابٌ مفتوح يبحث عن قارئه

عجلة الحظ والخيال
من الفيلم الياباني «عجلة الحظ والخيال»

تأتي الحكاية الثانية عن ساساكي الشاب الجامعي الذي يتربص به أستاذه سيجاوا ويَحول بينه وبين تحقيق تقديرٍ دراسي مرتفع يساعده مستقبلًا في سوق العمل. ينقطع ساساكي عن الدراسة بضعة أشهرٍ لكنه يرى سيجاوا في التلفاز بعدما حصد جائزةً مرموقة في الأدب. يشعر ساساكي بالحقد تجاهه كونه الرجل الذي وقف حائلًا أمام مستقبله المهني.

ورجوعًا إلى رغبة شخصيات هاماجوتشي في خلق واقعٍ مُغاير، نرى ساساكي يتخيّل نفسه مكان مذيع التلفاز لولا تعنّت ذلك الأستاذ تجاهه. يحاول ساساكي الانتقام ويُكلِّف زميلته موراياما بأن تذهب لأستاذه وتحاول إغراءه وتسجيل ذلك اللقاء من أجل فضحه في الأوساط الثقافية.

تستجيب موراياما وتذهب لسيجاوا في مكتبه، وهناك يبدأ بينهما حديثٌ ممتدٌ ينفتح فيه كلاهما على الآخر، حيث لا يبدو سيجاوا ذلك الشخص صعب المراس الذي بدا لنا، إنما هو إنسانٌ أكثر هشاشةً.

هناك سمةٌ مُشتركة بين شخصيات هاماجوتشي، تتمثل في كونها منفتحة على الحديث للغرباء وتعرية ذاتها بكل صدقٍ لأشخاصٍ لا تجمع بينهم علاقةٌ وثيقة؛ ربّما نجد ذلك الأمر منذ القصة الأولى حين تبدأ غومي تشان تسرد على مييكو في السيارة تفاصيل اللقاء الأول غير عابئةٍ بوجود السائق.

تتلاشى خصوصية الأحاديث هُنا ويُضحي جميع الأشخاص مثل المعالج النفسي الذي تثق به تمامًا ولا تجد حرجًا في أن تُخرج ما بداخلك أمامه، حتى لو بدوت ضعيفًا وهشًا. يُصدِّق ذلك على المأساة المشتركة بين الجميع التي تجعلهم كمثلِ كتابٍ مفتوح. نجد مجازًا لذلك الأمر حيث يحب سيجاوا أن يظل باب مكتبه مفتوحًا كتعبيرٍ عن ذاته المتألمة الراغبة في الانكشاف والمُصارحة.

ماضٍ يُلاحق الشخصيات

عجلة الحظ والخيال
من الفيلم الياباني «عجلة الحظ والخيال»

القصة الثالثة هي الأجمل في نظري وأكثر الحكايات رقةً وحميمية. عن ناتسكو الفتاة الرقيقة والوحيدة التي تذهب من أجل حفلة لمّ الشمل لأصدقاء المدرسة الثانوية. لا يتعرّف على ناتسكو سوى فتاةٍ واحدة، حيث كانت ناتسكو انطوائية ومنعزلة عن قريناتِها.

وكما ذكرنا سالفًا أن هاماجوتشي يُجرِّد أبطاله من مُلهيات الحاضر، نجده يجعل أحداثه تقع في وقت ظهور فيروس إلكتروني، أدّى إلى شلّ حركة الإنترنت وتبادل الرسائل الإلكترونية؛ فأصبحت ناتسكو التي تعمل مهندسة أنظمة في قسم تكنولوجيا المعلومات عاطلة عن العمل مؤقتًا لحين حل المُشكلة.

يتضاءل العالم من حول ناتسكو بعد تلك الواقعة، لكنها وأثناء عودتها من حفلة لمّ الشمل تتقابل صدفةً مع يوكي، تلك الفتاة التي كانت تجمعهما في الماضي علاقةُ حبٍ قبل أن تفترقا وتتباعد الحياة بهما. تَعرِض يوكي على ناتسكو أن يشربا الشاي في البيت، وهناك يتّضح أن الفتاة ليست حبيبة ناتسكو ولكنها مجرد فتاةٍ تُشبهها واسمها آيا.

يبدو الموقف غريبًا، لكن آيا تشعر أن ناتسكو كانت بحاجةٍ مُلحّة إلى لقاء حبيبتها السابقة، لذا تعرض عليها أن يلعبا لعبةً ربّما تساعد ناتسكو على تجاوز ألمها الذي سببه انقطاع علاقتها بيوكي، وتلك اللعبة متمثلة في أن تتقمص آيا شخصية يوكي وأن تقول ناتسكو لها ما كانت تود أن تخبر يوكي به لو التقتْ بها.

يُعزز ذلك سمة البوح للأغراب التي تحدثنا عنها مُسبقًا كعاملٍ مشترك بين شخصيات هاماجوتشي الضعيفة والخاوية. تتحدث ناتسكو لامرأةٍ بالكاد تعرفها عن أشياءٍ في منتهى الذاتية بالنسبة إليها. لكن في عالم هاماجوتشي لا يهم ماهية المُستمع، بل الأهم هو المكاشفة عمّا يُؤلم النفس. تُصبح تعرية الذات ملجأً يرتمي إليه الأبطال علّهم يتجاوزون ماضيًا عصيبًا يحدّهم.

تُعاود ناتسكو لوم نفسها أمام يوكي غير الحقيقية، وتخبرها أنه كان لابد أن تواجهها قبل أن ترحل، وأن تُعلِمها جيدًا أن رحيلَها سيحكم عليها بالشقاء وافتقاد السعادة، لكنها عزفت عن تلك المواجهة واعتقدت أنه لا طائلَ منها. لكن مع مرور الوقت أدركتْ أن جُل ندم المرء في المستقبل ربّما ينحصر في كلماتٍ لم يقُلها، في مشاعر كتمها فصارت جبلًا بداخله يُثقله ويُشقيه. هُنا نرى أن ناتسكو تُشبه مييكو في الحكاية الأولى: كلتاهما أدركتا أن بوح الإنسان هو مشفى له ويحرّره من ثِقاله النفسية.

سينما «ريوسوكي هاماجوتشي»

المخرج الياباني ريوسوكي هاماجوتشي
المخرج الياباني «ريوسوكي هاماجوتشي»

الفيلم هو ثاني أفلام الياباني ريوسوكي هاماجوتشي في نفس العام بجانب فيلم «قودي سيّارتي». ويعتبر الفيلمان تعبيرًا فريدًا عن سينما هاماجوتشي الإنسانية. يجنح هاماجوتشي إلى الحوارات الطويلة الممتدة بين شخصين، والتي يقع أغلبها في سيارةٍ أو حجرة أو زقاقٍ، بل حتى حين تكون الشخصيات في مكانٍ عام نجده صامتًا خاليًا من البشر؛ يختزل هاماجوتشي العالم من حول شخصياته ويُنحّيه جانبًا ليخلق لهم مُتّسعًا هادئًا للمكاشفة والبوح، لإزاحة ثقل النفس من على قلوبهم والمُضي في حيواتهم بخفةٍ وسلام.

يعزف أبطاله عن البقاء وحيدين رغم واقعهم الذي عادةً ما يُحتّم عليهم ذلك. في فيلم عجلة الحظ والخيال نجد الأستاذ ساجاوا يطلب من موراياما أن تسجل بصوتها أجزاءً من روايته، وهو ما يفعله الزوج في فيلم «قودي سيارتي» حيث تسجل له زوجته نص المسرحية التي يقوم بإخراجها. قَطْع ذلك السكون المُحيط بشخصياتِنا بحضورِ صوتٍ ما حولهم هو دافعٌ مشترك بين أبطال هاماجوتشي يهوّن عليهم وحدة الحياة.

كذلك يولي هاماجوتشي للأحاديث المسترسلة أهميةً خاصة. يعاملها بحميميةٍ تُشبه ممارسة الحب. تقول غومي تشان ذلك صراحةً حيث تُخبر مييكو أنها تجد الحديث مع كازو حديثًا شهوانيًا رغم عدم تطرقهما إلى أي مواضيع حميمية. فكما يَعتبر «أبراهام ماسلو» في تسلسله الهرمي لاحتياجات الإنسان أن العلاقات الحميمية تقع في التدرج الأول، يَعتبر هاماجوتشي الأحاديثَ التي تنفرج بها عقد شخصياته وتنصهر بها أوجاعهم احتياجًا لا يقل أهميةً، خاصةً في عالمٍ تحدّه الوحدة والخواء الإنساني.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.