أخيرًا جنّ اللّيل وعُدْتُ طوعًا إلى زنزانة وحدتي لأتّخذ ركنًا من أركانِها الباردة وأحدّثك عزيزي القارئ عن لصُوصٍ دنّسوا أجمل ما في حياتنا الكئيبة.

دعني في البداية أخبرك عن شروطٍ وجبَ توفّرها فيك حتّى أتأكّد بأنّك لست واحدًا من بين اللّصوص الذين سأحدّثك عنهم.. نعم، أعْلَمُ أنّك لستَ إعلاميًّا ولا طبيبًا يتاجرُ بأعضاء الفقراء، أعلم أيضًا أنّك لست وزيرًا ولا رئيس دولةٍ ولستَ بقاضٍ ولا محامٍ ولا أمين شرطة، فكلّ هؤلاء ليسوا مستعدّين للتّفويت في ثانية واحدة من سهراتهم الحمراء لقراءة بعض الكلمات الغبيّة.. ثمّ إنّ هؤلاء لا تتوفّر فيهم الشروط اللاّزمة التي سأخبرك عنها، فلا القاضي والمحامي ساذجان أو طيّبان، فقد يتطابق معنيا الكلمتينِ في أيّامنا هذه، ولا أمين الشّرطة خجول أو بجريحِ قصّة حبّ، ففي شوارعِ المحروسة يتمنّى الأب خطبة ابنته من أمين شرطة ولن يجرؤ على رفضه كما رفض أمثالنا، ولا الطّبيب ينتمي إلينا نحن فقراء الطّبقة الوسطى، ولا الوزير يكره البلد الّتي ارتمت في أحضانه أيّام الرّخاء بعد أن كانت تبكي على كتفي أيام يناير المجيد.

الآن وقد عرفتَ عزيزي القارئ بعضًا من شروطي، الآن وقد فهمت أنّك إن لم تكن مجنونًا في نظر الآخرين أو وحيدًا حتّى إذا ما أحاط بك العشرات، إن لم تذرف دموعُا كلّ ليلة وتكره بلدك كلّ ليلة وتلعن قدرك كلّ ليلة وتمقت حبيبتك الأولى كلّ ليلة وتشتم قلبك المرهف كلّ ليلة، الآن وقد فهمت أنك إن لم تفعل أي شيء من هذا، فأنت في نظري عدوّ لدود، الآن وقد عرفت شروطي دعني أحدّثك عن اللّصوص، لصوص احترفوا سرقةَ أبسطِ أشيائنا.

فلنبدأ بأولئك الّذين حرمونا متعة السّاحرة المستديرة، أتذكر؟ أتذكر تلك المباريات الجميلة الّتي كنّا نسهرُ على إيقاعها؟ أتذكر فرحتنا العارمة بفوز فريق ليفربول الإنجليزي على فريق ميلان الإيطالي رغم ألا علاقة لنا بأيّ واحدة منها؟ أتذكر تلك المباراة المجنونة؟

أتذكر قمصان اللاعبين الفضفاضة قبل أن تسرقها منّا «bein sports» ومن قبلها «ART»؟ أتذكر صيحاتنا التي تملأ الحارة مع كلّ هدف لمنتخبنا قبل أن يحتكر عصام الشّوالي ورؤوف خليف الفرحة والصّراخ والتّهليل؟

ليتنا لم نصمت حينها يا صديقي، فقد كان لصرخات هؤلاء المعلقين وتقنيات التّصوير العالية الجودة للقنوات المذكورة سحر وأثر جميل في نفوسنا، ولكنّنا لم ندرك أنّها كانت البداية لحربٍ أُعلِنتْ ضدّنا نحن الفقراء أصحاب الأقمصة الرّثّة والمهترئة التي دائمًا ما كنتُ أمقتها، حتى أني كنت أجبر نفسي على التظاهر بالفرح إذا ما ذهبت أمّي إلى سوق الملابس المستعملة وابتاعت لي بعضًا منها. ولكن، ما إن رأيت أحدها، أي تلك الأقمصة البالية، تغطّي أجساد الأغنياء حتّى شعرتُ بغيرةٍ وغضبٍ لم أعلم مصدرهما.. فتلك الأقمصة صارت موضتهم والتجوّل بين أكوام الملابس المستعملة صار هويتهم وشراء الملابسِ بأسعار ضخمة صار في جلساتهم ضربًا من ضروب الحنكة والذّكاء.

اذهب عزيزي القارئ لأقرب سوق ملابس مستعملة من منزلك وستفاجئك سيّاراتهم الفاخرة وقد احتلّت الرصيف وستطرق سمعك أصوات حليّهم ومجوهراتهم وروائح عطورهم باهظة الثًمن وقد لوّثت هواء سوقنا الفقير، ثمّ ارجع البصر كرّتين، حدّق في شفاههم وستراها تتمتم كلماتَ أغانٍ تنبعث من محلاّت حيّنا، أغانٍ كنت أخالها حكرًا علينا نحن أصحاب الشّفاه الزّرقاء بفعل السّجائر قبل أن يصدمني مقطعٌ لصابر الرّباعي يغنّي «اه لو لعبتِ يا زهر» وإلى جانبه عمرو أديب يتصنّع التأثّر بكلمات الأغنية.

بعد كرة القدم والملابس الرّثة، هاهم لصوص الفقراء يستولون على أغانينا، فذلك يغنّي للشّيخ إمام تحت تصفيق البورجوازيين وآخر يجوب أفخم الحانات وأغلاها ثمنًا مردّدًا كلمات «المزود» التّونسيّ بعد أن سرقه من أفواه سكّان الشّوارع والأزقّة الحزينة.

حتّى أمنيات كتبها شاعر فقير بعد أن اتخذ ركنًا بأحد المقاهي ذات الجدران المتداعية متفاديًا نظرات النّادل، أمنياتٌ غنّاها أحمد شيبة في شوارع مصر وحفلات أفراحها ليطرب بها فقراء العالم، أبى صابر الرّباعي إلاّ أن يكرّرها تحت صيحاتِ الكمنجات خلال برنامجٍ مداخيله تكفي خلاصَ ديون تونسَ مثلا مرتديًا بدلة قد يغيّر ثمنها مجرى حياة صاحب كلمات الأغنية.

هؤلاء هم اللّصوص عزيزي القارئ، لصوص من نوع آخر يشاركوننا أشياءنا البسيطة والجميلة قصد تدنيسها.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.