منذ فترة طُرح سؤال على إحدى المجموعات الخاصة بالأدب، وكان السؤال المطروح وقتها عن أسوأ الكتب التي قرأها كل شخص، وكانت هناك إجابات متعددة مثل: ثلاثية غرناطة، ساق البامبو، مائة عام من العزلة. من فترة تكررت الأزمة مرة أخرى، عندما قرأت حديث أحد الأشخاص يذكر فيه أن فتاة أخبرته بأنها مع مجموعة من الشباب، قد قرأوا رواية مثل «موسم الهجرة إلى الشمال» وأثار ذلك استياءهم ناحية الرواية.

في الواقع، الأمر لا يتوقف عن التكرار، وباعتباري شخصا يحتك دائمًا بعالم القراءة، فإنني أجد هذه الأحداث تواجهني من حين لآخر، فأجدني مضطرًا إلى الدفاع عن العقاد ونجيب محفوظ، وفي داخلي القناعة أنني أفعل ذلك، دفاعًا عن الأدب لا دفاعًا عن هؤلاء في المقام الأول.


ما المشكلة في نقد هؤلاء؟

قد يخيل لك أنني أرفض نقد هؤلاء الكتاب، وأنني أضعهم في مكانة من لا يجب نقده، وهذا لا أقصده بالتأكيد، فلا يوجد أي شخص فوق النقد مهما حدث، وفي النهاية فإننا نحكم على العمل الأدبي من ذائقتنا الخاصة.

إذًا ما المشكلة؟ ما دام الأمر يعتمد على الذائقة، وهذا يعني أنه لا ينبغي لأحد التحكم بها، لأنها في النهاية مسألة اختيارات شخصية.

في اعتقادي أنّ المشكلة الرئيسية تكمن في السبب الذي يحكم من خلاله الأفراد على العمل الأدبي. كثيرًا ما أجد أن السبب يكون في صعوبة اللغة، أو أن القارئ لا يفهم أساسًا الغرض من الرواية، فإما يخرج بحل لمشكلة معينة تواجهه، أو يشعر بقدر معين من الاستمتاع في العمل. فإن فقد القارئ أحد هذه العناصر، يبدأ في إطلاق حكمه على العمل.

هل روايات التشويق هي الصورة الصحيحة عن الروايات؟ لن أتعمق الآن في الحديث عن فن الرواية ومواصفاته، لكن سأتحدث عن نقطة بعينها، محاولًا الإجابة على سؤال يطرح نفسه حاليًا: هل روايات التشويق هي الصورة الصحيحة عن الروايات؟.

في الفترة الأخيرة انتشرت الأعمال التي تعتمد على التشويق كعنصر أساسي في كتابتها، سواءً كانت روايات رعب أو دراما أو أكشن. ولذلك، تراجعت مبدئيًا الروايات التي لا تهتم بالتشويق في عين البعض، حتى أنّ الحكم على بعض الأعمال أصبح يتم من هذا المنظور لدى البعض.

في الواقع، أعتقد أنّ هناك خلطا قويا بين مفهومي: الحبكة كونها جزءًا رئيسيًا من العمل الروائي، وعنصر التشويق كأحد التصنيفات المحتملة للرواية. لذلك، فإن إجابة سؤالي ستكون هي أنّ روايات التشويق هي واحدة من تصنيفات الرواية، لكنها بالطبع ليست هي النوع الأوحد.

على سبيل المثال، ربما تقرأ عملًا معينًا لمحفوظ، وتجد أنّك لا تحصل على التشويق حيث تسارع الأحداث، لكنك تحصل على شيء آخر، هو الغوص في الشخصيات وتفاصيلها، والذي يجيده نجيب محفوظ بصورة كبيرة جدًا، وهو بالنسبة لي يعد نوعا آخر من التشويق؛ فحكايات البشر وتفاصيلهم تخلق لديّ حالة من التشويق كبيرة جدًا.

لذلك، ولأننا في الأساس نختلف على مفهوم التشويق، ويختلف من نظرة لأخرى، فكيف يمكن أن يكون هو المقياس الذي يُحكم من خلاله على العمل الأدبي؟.

كما ذكرت في المقال، لا أقول بأنّه ينبغي عليك أن تُعجب بأعمال محفوظ، لكنني لا أرى أن يتم رفض أعماله لمجرد أنها لم تجعلك تشعر بالتشويق ناحيتها؛ فهذا اختزال شديد جدًا لكتابات نجيب محفوظ في نقطة واحدة فقط.


المتاجرة بالكتابة

بالتأكيد تفكر أثناء قراءة هذه الكلمات: ما المشكلة في الحكم من هذا الجانب؟ ما دام هناك اتفاق بين القرّاء، وما دامت الذائقة تخص كل فرد، فلا مشكلة. المشكلة في رأيي هي أننا هكذا نؤثر على الدور الذي تلعبه الرواية في حياتنا، نفقد القيمة الحقيقية لها، وهذا سوف أتحدث عنه أكثر في الفقرة التالية، لكن في هذه الفقرة أريد التطرق إلى نقطة أخرى.

ما حدث هو أن هناك أشخاصا نجحوا في استغلال توجه القراءة لدى الكثير من القرّاء، فأصبح هناك قلّة اهتمام بمكونات العمل الروائي. أصبح المبدأ لديهم: ما دمت ستوجه للقراء وجبة شهية من التشويق، لا بأس بأن تهمل مكونات العمل الروائي. قدِّم أعمالًا بلغة سيئة، وصياغة سطحية للشخصيات، وتحدث عن قصة مشوقة سواءً كانت علاقة حب أو حادثة مرعبة على سبيل المثال، هذا الشيء الأخير سوف يشفع لك لكل خطأ تقع به أثناء الكتابة، وفي الوقت ذاته سوف يضمن لك مبيعات وحب الناس لكتابتك.

ليست المشكلة في الكتابة في جانب التشويق، فهناك العديد من الكتّاب الذين نحبهم جدًا لأعمالهم الرائعة، لكن الأزمة ألّا تهتم بكتابة عمل جيد، أن تستغل القرّاء لصالحك، في شكل يجعل الأمر يبدو كالمتاجرة بالكتابة.


الدور التنويري للرواية

نعود مرة أخرى للحديث عن دور الرواية في حياتنا. يعتقد بعض القرّاء أن الغرض من الرواية هو الاستمتاع فقط، القليل من الراحة من الأحداث الحياتية اليومية، أو حتى للحصول على فاصل أثناء قراءة الكتب.

بالطبع قد يكون هذا الغرض من بعض الروايات، لكن لا يعني هذا أن هذا هو الدور الأساسي؛ لأن من يرى ذلك فهو بالتأكيد شخص لم يقرأ أي رواية من تلك التي ساهمت في صناعة فارق في حياة قارئها.

في اعتقادي الدور الرئيسي للرواية هو الدور التنويري، فالرواية ليست مطالبة بأن تقدم لك أي حلول لمشكلة معينة تواجهك، أو أن يكون قياسك لنجاح العمل هو منظورك لها إن كان المعروض من حلول لمشكلة معينة يناسبك أو لا.

إنما التنوير هو أن تؤثر الرواية في وجدانك وأفكارك، وأن تجعلك ترى بعض الأشياء والقضايا بوضوح، كأن تعيش في مشاعر الضيق التي تصاحب رواية ثلاثية غرناطة، فتدرك ماذا حدث لنا بعد سقوط الأندلس، أو أن تفهم أبعاد مشكلة الوطن والشعور بالانتماء كما في رواية ساق البامبو.

وبالتالي فالرواية لا تقدم لك الحلول، لكنها تساعدك على المستوى الشخصي، تؤثر في أفكارك وربما من نظرتك للحياة بالكامل؛ لأنها تمنحك مساحة أكبر من الرؤية، لتدرك الأشياء من حولك بصورة أكبر من الصورة المعتادة.

ومن هنا أقول إن الرواية يمكنها أن ترتقي بقارئها إلى مستوى أعلى، وهذا يحدث مع الروايات التي تجعلنا نرى أشياءً معينة بطريقة لم تكن حاضرة من قبل، مثل رواية 1984 التي حدثتنا عن الأخ الأكبر وعن كيف تتعامل الأنظمة السيئة مع البشر، الأمر الذي حدث معنا في الوقت الحالي بعد كتابة الرواية بسنواتٍ عدة، فكان من السهل علينا من قرأنا الرواية قراءة حقيقية، أن ندرك ما الذي يحدث حولنا بالضبط.

إذًا هذا هو تفسير الجزء الأول من الحكم السيئ على الروايات، لكن ماذا عن الجزء الثاني الذي يرى في بعض الأعمال الأدبية أنها معقدة بسبب لغتها؟ هذا ما سوف ننتقل إليه في فقرتنا قبل الأخيرة.


أين نحن من اللغة العربية؟

أين نحن من اللغة العربية؟ هذا التساؤل يبدو مخيفًا جدًا بالنسبة لي؛ لأن إجابته هي أننا في أقصى درجات البعد عن اللغة، فنحن لا نقرأ لأننا نعاني من أزمة مع صعوبة اللغة، وللأسف كما ذكرت في المقدمة يكون هذا هو المعيار الذي يُحكم من خلاله بأن العمل الأدبي المعروض هو عمل سيئ.

الأزمة هي أننا لا ندرك لماذا يجب علينا أن نهتم باللغة، فالمسألة ليست في معرفتنا بعدد كلمات كبير، فنتباهى بذلك في كتابة معينة، قدر أن ندرك المعاني الكامنة وراء هذه الألفاظ.

فاللغة هي وسيلتنا للتواصل، وبالتالي كلما كنا قادرين على فهم المصطلحات بصورة صحيحة، كلما أمكننا التعبير عن مشاعرنا بدقة أكبر، وبالتالي يمكن لعملية التواصل أن تحدث بصورة سليمة كما نريد.

كما أن القراءة الصحيحة تساعدنا على الفهم الصحيح، فمثلًا بسبب ضعفنا في اللغة، فإن العديد من الأشخاص لا يمكنه قراءة القرآن بمفرده، حيث إنه في حاجة مستمرة إلى وجود من يشرح له ما يعنيه اللفظ كمعنى، فنجد أن هناك بعض التفسيرات التي تعالج عدم قدرتنا على فهم الألفاظ، رغم أن هذا لم يكن موجود قديمًا.

ومن ثم إن كنا عاجزين عن فهم ما تعنيه الكلمات، فبالتأكيد لن نكون قادرين بسهولة على فهم تفسير الآية أو المراد منها، وستختلط لدينا العديد من الأشياء لأننا لا نعرف الفارق بين الكلمات.

ورغم ذلك، هل يمكن أن يأتي اليوم ويقول أحدنا فيه إنه يرى القرآن مثلما يرى بعض الكتب، رغم تشابه المشكلة في صعوبة اللغة، وأنه يحتاج إلى أن يغيّر من الكتابة؟ بالتأكيد لن يحدث ذلك؛ لأننا ندرك أن المسألة أعمق من استبدال مصطلحات، فهذه الكلمات التي أرادها الله أن تصل إلينا، وأن لكل كلمة معنى خاص بها، كما أننا نعرف أن المشكلة موجودة لدينا، لذلك نجتهد نحن للتحسين من أنفسنا لنقرأ القرآن قراءة صحيحة؛ فتصل إلينا الآيات بالشكل الصحيح.

ما نحاول فعله مع لغة القرآن، يجب أن يكون الشيء الذي نفعله مع اللغة طوال الوقت؛ لأنه لو ظل هناك تراجع في قدرتنا على القراءة، وأردنا دائمًا صياغة الكتابة لتناسبنا نحن، لا أن نجتهد لنفهم اللغة بشكل صحيح، سنجد أننا في النهاية بكل بساطة نكتب نهاية اللغة العربية.


ماذا الآن؟

لا حكم في القراءة، صدقني لا أطالبك أبدًا أن تحب كتابات معينة بالإجبار، فرغم كل شيء فالمسألة شخصية بحتة. كل ما أريده هو أن نعمل جاهدين على أن ندع القراءة تدخل إلينا، أن ندرك وجود خلل لدينا، سواءً في فهم الأدب ذاته، أو من ناحية اللغة. وأن نوجه أنفسنا ناحية قراءة الأفكار التي يريدها الكاتب، ثم بعد ذلك نحكم عليها، أن نعمل على إصلاح الخلل الذي نعيشه بسبب تأخرنا في اللغة.

وقتها ستصبح كتابات العقاد ومحفوظ مناسبة لنا، ووقتها أيضًا ما دمت قادرًا على فهمها جيدًا، وبإمكانك إدراك ما تقرأ بصورة صحيحة، فتقول عنها ما تشاء، حتى إن أخبرتنا بأنها أسوأ ما قرأت في حياتك.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.