في روسيا، لم يتوقف جمهور الأرجنتين عن الغناء منذ وصوله. يبدو الأمر كطقس صارم لا يفوّته الأرجنتينيون أبدًا ما دام هناك كرة قدم. فهم يغنون قبل المباريات، وخلالها، وبعدها، يغنون في كل الحالات سواء في الفوز، أو التعادل، وحتى الخسارة. إحدى تلك الأغنيات التي ذاع صيتها تدعى Bella Ciao، وتقوم على معايرة جمهور تشيلي على عدم التأهل، ثم يتوعدون بالطبع البرازيليين، وأخيرًا يهتفون لأجل «ميسي»، لكنه هتاف من النوع الغريب!

إذ يغني الأرجنتينيون: «ليو سوف يجلب لنا كأس العالم، حتى يصبح عظيمًا مثل دييجو». وهنا تتبادر إلى ذهنك، عزيزي القارئ، حزمة من الأسئلة بلا إجابة شافية. أول تلك الاسئلة هو: هل ليونيل ميسي لم يصبح حتى الآن لاعبًا عظيمًا في نظر جمهور التانجو؟ وهل العظمة لابد وأن تقترن فقط بالفوز بكأس العالم؟ ولماذا يبدو دومًا مارادونا هو الصورة الوحيدة التي يحب أن يرى عليها الأرجنتينيون ميسي؟

بالأمس حضر الثنائي خلال جولة الأرجنتين الأخيرة والفاصلة بدور المجموعات؛ مارادونا في المدرجات، وميسي في الملعب. دييجو غنى ورقص ونام وصرخ واحتفل بجنون، وليو دخل إلى أجواء البطولة بعد مباراتين من الأداء الخافت، حيث ساهم في إفلات منتخب بلاده من فضيحة الخروج المبكر، وسجل هدفه المونديالي السادس في شباك نيجيريا.

لكن يبقى أمامه التحدي الأكبر وهو الصعود لمنصة التتويج حتى يصبح فقط في نظر جمهور التانجو عظيمًا!


ميسي المتخاذل

خلال ثاني جولات المونديال، دخل ميسي مباراة كرواتيا ويبدو واضحًا عليه الإرهاق الذهني. أمسك لاعب برشلونة برأسه أثناء عزف النشيد الوطني لبلده، وكأن عشرات الأفكار والسيناريوهات تندفع إلى عقله. أرجعت شبكة BBC السبب في الحالة التي ظهر عليها ميسي إلى حصار من الضغط الجماهيري والإعلامي تشكّل بعد إهدار ركلة الجزاء أمام أيسلندا، وإمكانية الخروج المبكر الذي سيجر معه سلسلة من الانتقادات تنتهي بإعلانه الاعتزال الدولي مجددًا.

لكن نجم الأرجنتين السابق «خورخي فالدانو» يفسر أمر ميسي مع الأرجنتين بصورة أعمق، وبشكل أشمل وأعم من لحظة المونديال الحالية. إذ يقول فالدانو إن كرة القدم تمثل أمرًا كبيرًا لدى الأرجنتينيين لأنها تمنحهم فرصة للتفوق في مجال ذي شعبية جارفة، بالإضافة إلى القدرة على مجابهة أمم وبلدان أخرى لن يستطيعوا مجابهتها على الصعيد العسكري أو الاقتصادي أو التكنولوجي.

هذا بالضبط يفسر، بحسب فالدانو، كيف تحوّل مارادونا لبطل قومي عقب مباراة إنجلترا بمونديال 1986، فقد انتقم الملك رقم عشرة بشكل رمزي من الإنجليز بعد حرب الفوكلاند التي شنوها على بلده. دييجو سرقهم في هدفه الأول، وكسر أنوفهم المتغطرسة في الهدف الثاني؛ وهكذا انتصرت الأرجنتين في ميدان متكافئ لا يعرف تفوقًا لسلاح الإنجليز الجوي ولن تتدخل فيه أساطيلهم الجرارة.

أما ميسي فقد حُكِم عليه مبكرًا بضرورة السعي لتكرار تجربة مارادونا. فالبرغوث يشبه الملك في الملعب، فهو قصير مثله، يفعل الأعاجيب مثله، يمتلك قدرة خيالية على التحكم بالكرة مثله، ويصنع لبرشلونة مجدًا كما صنع دييجو لنابولي مجدًا، فليجلب لنا كأس العالم إذن وليُعِد كسر أنوف الإنجليز لأنه بكل بساطة مارادونا الجديد.

يرى فالدانو أن هذا النسق الجماهيري في تحميل شخص واحد مسئولية أمة بأكملها تحلم بمجد كروي بات متحكمًا جدًا في الأرجنتين، حتى أن كبار الرياضيين والصحفيين وميسي نفسه أصبح مؤمنًا أن كأس العالم هو مسئوليته الشخصية. وفي المقابل يسعى لاعبو التانجو في المقام الأول لتحقيق اللقب بهدف مساعدة صديقهم ميسي على التخلص من العبء الذي لازمه كل تلك الفترة، حتى أن خورخي يؤكد أن كثيرًا من المشكلات الحقيقية التي تواجه منتخب الأرجنتين صارت في طي النسيان أمام كل ذلك التركيز على ميسي، لقد تناست الأرجنتين أنها لا تمتلك لاعب وسط ملعب بقيمة «لوكا مودريتش» وراحت تفسر حالة ميسي وهو يمسك برأسه أثناء عزف النشيد.

الأرجنتين إذن لا تبحث عن صانع لعب جيد، بقدر ما هي تبحث عن منقذ ومخلّص لمشكلاتها، عن «جيفارا» جديد يأتي بحل جذري وسريع ينجز لها تحقيق الهدف المرجو دفعة واحدة. ولهذا فإنهم يعوّلون طوال الوقت على لاعبهم الأفضل، ويتجاهلون بقية العوامل الأخرى، وعندما يفشل هذا اللاعب في قيادتهم لمنصة التتويج فلن يكون هناك حرج على أحد عندما يتهمه ويصفه بالمتخاذل!


ميسي الغريب

أمر آخر هام ينبه إليه فالدانو في حديثه وهو طبيعة ميسي وطبيعة مارادونا. فدييجو نشأ في حواري بوينس آيرس الفقيرة، وتعلم كرة القدم في شوارع مدينته وشارك في الدورات الشبابية البسيطة، وقد كان لذلك انعكاس كبير على مسيرته.

فالشوارع في الأرجنتين هي المحطة الأولي التي يتلقن فيها الموهوبون ثقافة بلاد الفضّة على الملعب، الشوارع تعلمك قيمة أن تتلاعب بخصمك، كيف تتفاعل مع الجمهور الحاضر، كيف تبني حول المهارة الفردية فريقًا ينافس، كيف تخترق النظام وتتحايل على القانون، وبالطبع متى تستخدم العنف ضد خصمك أو تتفاداه حينما يقرر الآخر استخدامه.

ظل مارادونا مخلصًا لكل تلك المبادئ حتى عندما انتقل لمستوى احترافي آخر، يمكنك ملاحظة ذلك بسهولة خلال مسيرته مع بوكا جونيورز، أو عندما قرر بكل بساطة أن يبدأ مشواره مع اختراق النظام وتعاطي المخدرات في برشلونة، وكذلك رغبته في صناعة تاريخ رفقة نادٍ إيطالي جماهيري وفقير كنابولي. لكل هذا، يرى فالدانو أن مارادونا هو أفضل من مثّل شخصية وثقافة الأرجنتينيين على المستطيل الأخضر، وسيظل هو الأيقونة التاريخية الأولى للتانجو مهما حقق الآخرون.

أما ميسي فهو ابن ثقافة مختلفة بعض الشيء، فقد تعلم البرغوث كرة القدم بأكاديمية برشلونة، وتدرج فيها حتى صعد للفريق الأول، وتحول للاعب البلوجرانا الأهم. ليونيل درس الكرة في مؤسسة محكمة بنظام محدد صارم، يتلقى التعليمات من مدرب، يفصله عن الجمهور سياج حديدي، ولم يسبق له أن اخترق النظام داخل أو خارج الملعب بالشكل الذي فعله مارادونا، وبالتأكيد ميسي لم يمثل أي نادٍ أرجنتيني، لهذا قد يبدو لبعض الجماهير الأرجنتينية بحسب فالدانو أن 33 بطولة للبرغوث رفقة برشلونة و5 بالون دور لا تساوي شيئًا طالما أنه لم يقد التانجو لأي بطولة دولية كبرى.

نحن أمام نموذجين مختلفين، بل لا يعد من المبالغة وصفهما بالمتناقضين. فمارادونا شخص عاطفي للغاية، يعيش الحياة للاستمتاع والانتقال من ملعب إلى آخر وهو يرقص ويغني ويخلع قميصه ويقود الجماهير للهتاف. دييجو يمتلك كاريزما لا تضاهى، مجرد حضوره في المدرجات يكفي أن يجذب الكاميرات والأنظار، أي إشارة له ستتحول في لمح البصر إلى مثار للتفاعل والاحتفاء، حتى لو كانت تلك الإشارة هي سبّه لجمهور الخصم، لن يأبه الكثيرون لها لأن من قام بها هو إله كرة القدم؛ دييجو أرماندو مارادونا.

ميسي على النقيض شخص هادئ، صموت جدًا حتى يصعب توقع في أي شيء يفكر، يعيش الحياة بشكل جاد وصارم بين المعسكرات التدريبية وقاعة محاضرات المدرب وصالة الجيمانزيوم. ليونيل لا يعرف كيف يطلق التصريحات النارية، أو يكون طرفًا في أزمة كبيرة تستدعي مساندة جماهيرية، حتى في تفاعله مع الجماهير يصعب أن تجد لميسي لقطات عدة وهو يقودهم أو يتحدث إليهم، وإن وجدت فهي بالطبع بقميص برشلونة، ليس لأنه لا يحب الأجواء الأرجنتينية، ولكن لأن غيره قادر على جذب أنظار جمهور التانجو والتفاعل معهم، موجود دائمًا في المدرجات واسمه: دييجو أرماندو مارادونا.

مارادونا يشبه الأرجنتينيين ويعبر عنهم أكثر مما يفعل ميسي، ولهذا عندما يوضع الثنائي في مقارنة سويًا لن يكون هناك حرج على أحد عندما يتهم ميسي بأنه أقرب لثقافة الأوروبيين من ثقافتهم!


الفرصة الأخيرة

لا شك أن هذا هو المونديال الأخير لميسي الذي سوف يشارك فيه بكامل طاقته، إذ سيكمل عامه الخامس والثلاثين في يونيو 2022 وهو موعد المونديال القادم، لذا من الممكن اعتبار هذه النسخة هي الفرصة الأخيرة لميسي لقيادة الألبيسيليستي نحو الذهب.

لكن المنتخب الأرجنتيني، الذي نجح في التأهل بالكاد من دور المجموعات، يمتلك عددًا لا بأس به من المشاكل الفنية. إذ يكشف الكاتب في صحيفة الجارديان «جوناثون ويلسون» عن تخبط تكتيكي واضح في غرفة المدرب «سامباولي»، فالمدرب الأرجنتيني اختار أكثر من أسلوب لعب ورسم تكتيكي خلال المواجهات الثلاثة الأخيرة، كما لم يستقر على قوام أساسي لمنتخبه حتى الآن خصوصًا في خط الوسط، وهو ما يجعل مهمة رفاق ميسي صعبة للغاية في الصمود خلال الأدوار الإقصائية القادمة وحتى العبور لنهائي البطولة.

في كل الحالات، سواء نجحت بالفعل الأرجنتين في التتويج أو غادرت البطولة في الأيام القادمة، سيظل ميسي لاعبًا عظيمًا جدًا، من أعظم من ركلوا الكرة في التاريخ بالتأكيد.

لكن السؤال الأهم: هل بالفعل سيمثل ميسي نفس القيمة التي يمثلها مارادونا لجمهور الأرجنتين إذا حدث وفازت في النهاية الأرجنتين عكس كل الظروف بالمونديال؟ شخصيًا أشك!

لكنها على الأقل ستنهي كثيرًا من اتهامات التخاذل، والهروب من المسئولية، وتفضيل برشلونة على الأرجنتين.