«ضع نفسك في حذائي» يستخدم الإنجليز هذا التعبير الشائع لمحاولة لفت نظر الآخر إلى أنه لا نقاشاً مجدياً دون أن نتبادل الأدوار لنفهم بعضنا البعض، يتشارك العالم كله حذاء واحدًا في محاولات لفهم ثقافات وقضايا ومعتقدات الآخر، إلا أنه هناك شرط وحيد يحرص عليه البعض ويعتبره مهمة مقدسة، هو ألا يكون هذا الحذاء فلسطينيًا أبدًا.

لذا قررنا أن نتخيل ماذا لو شعر أحد هؤلاء المغسولة عقولهم بما نشعر به منذ سنوات، ماذا لو تبادلنا المصير، ماذا لو كانت أوكرانيا التي بكاها زينتشنكو وتعاطف معه العالم هي الوطن المحتل الذي يتهموننا بالإرهاب لمحاولة استرداده من المحتل.

هل تداخلت الخيوط؟ هذا تحديدًا ما تفعله الفانتازيا، لذا كن منتبهًا للقِصة التي نحكيها لك والتي تبدأ مع زينتشنكو آخر غير هذا الذي تعرفه.

منتخب تحت الاحتلال

يجلس «أوليكسندر زينتشنكو»، نجم أرسنال السابق، في مؤتمر صحفي، داخل بلد يكفُل التعبير عن الرأي، بعد أن علَّق حذاءه متحدثًا لمجموعة من الصحفيين العالميين عن تجربته الشخصية. لا ليست تلك التجربة بملاعب إنجلترا وأوروبا، بل عن بلاده، التي حاصر الاحتلال سكانها في 15% من أوكرانيا التي يعرفها.  

«أوليكسندر»، أحد هؤلاء الذين كُتِبت لهم النجاة من جحيم الاحتلال. لذا، أخَذ على عاتقه محاولة القيام بما قد يجعل أطفاله يفخرون به؛ عبر استغلال قيمته كلاعب معروف في نشر فظائع الاحتلال بكُل وسيلة إعلامية متاحة. 

كانت موهبة أوليكسندر جلية منذ سنٍ صغيرة، تدرَّج بالفئات العُمرية لناديه المحلّي قبل أن يصل للفريق الأول، حيث نال شرف تمثيل المنتخب الوطني الأول.

في الواقع، لم تكُن رحلة الفتى الأوكراني مُمهدة، ليس لأنّه لا يزال يفتقر للخبرات، بل لأنّ منتخبه، الذي يُمثِّل البلد الوحيد المُحتل بالقرن الواحد والعشرين ليس كأي مُنتخب، حيث لا يعني النجاح في الوصول للبطولة القارية الأولى في تاريخه مجرّد انتصار رياضي، بل فُرصة لإجبار المجتمع الدولي على الاعتراف ببلاده مرغمين.    

قبل تحقيق ذلك الإنجاز، كان على زينتشنكو وزملائه مقارعة كل الاحتمالات المنطقية؛ عبر التغلُّب على اليأس والإحباط من الواقع المرير، التأقلُم مع حياة بلا أساسيات مثل الماء والطعام والكهرباء، ثم التعامُل مع تضييقات أمنية تفرضها سلطات الاحتلال على انتقالات الرياضيين من وإلى المُدن داخل القطاع المُحاصر بالحديد والنار.

قبل أي تجمُّع للمنتخب الوطني، يفشل المدير الفني في تجميع لاعبيه، الذين يتوجَّب عليهم المرور عبر نقاط التفتيش المُنتشرة بكل أنحاء البلاد، والتي تحول دون وصولهم لمقصدهم في أغلب الأحيان، بعد ساعات طويلة من التحرُّش والاستفزاز من قبل جنود الاحتلال. 

لطالما تعجَّب اللاعب من الصَمت الذي يتبَع مثل تلك الانتهاكات، ولا يتعدى في أكثر الحالات إيجابية شَجب وإدانة الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا» لما يتعرَّض له الرياضيون بهذه البُقعة من العالم من تضييقات مُمنهجة.

قتل الأمل 

بعد 4 سنوات، أمضاها «أوليكسندر» داخل هذا الجحيم، أُتيحت له فُرصة الاحتراف الخارجي، حيث يمكن أن يعيش كإنسان عادي، يستطيع على الأقل توفير الحد الأدنى من الأمان لزوجته وأطفاله. 

 نجا بطل قصتنا بالفعل، لكنّه فضَّل أن يستمر في قَصّ حكايات عن هؤلاء الذين لم يتمكنوا من النجاة؛ عن مثله الأعلى الذي اكتشف موهبته، الرَجُل الذي لقَنّه أهم دروس حياته؛ أن كرة القدم، وإن لم تكن مهمة في مثل تلك الظروف، لا تزال قادرة على مَنح الأمل لهذا الشَعب المكلوم. 

رُبما لم تُعجب قوّات الاحتلال بهذه الفكرة، حين دكّت منزل مَثَل «أوليكسندر» الأعلى وهو نائم، دون مَنحه حتى حَق الهروب. 

فجأة، يستدرك اللاعب؛ لم يكن هذا المُدرب أحد عناصر المُقاومة، ولم يكن جزءًا من أي فصيل يتهمه الاحتلال بالإرهاب، ومع ذلك تم استهدافه عن عَمد. 

كانت تلك إحدى خطط الاحتلال المُنظمة، فبالتزامن مع شَل حركات المُقاومة، استُهدف  الرياضيون البارزون، لدفن أي مصدر إلهام متبقٍ لهذا الشعب.

حتى بَعد أن وصل لقمة كرة القدم العالمية، لم ينفصل زينتشنكو عن واقع بلاده المرير، لا تزال تصله رسائل عن زملاء سابقين، منهُم من استهدَف جنود الاحتلال ساقه متعمدين، ومنهم من تَم اعتقاله وإخفاؤه قسريًا دون أسباب في سجون الاحتلال، ومنهُم من لقي حتفه في غارة جويّة، كان أوليكسندر قد نجا من مثيلتها قبل سنوات.

انتهت المقابلة الصحفية، بينما لم تنتهِ حيرته، لا يزال يتعجَّب؛ لماذا لا يتغيَّر الوضع القائم على الرغم من هذا القدر من التعاطُف الذي يراه في أعيُن كل مَن يسمع روايته؟ 

وسائل «الحصار» الاجتماعي 

يعود اللاعب مرة أخرى لمنزله داخل القطاع المُحاط بجدار عازل شاهق الارتفاع، حيث يعيش رفقة أسرته وبعض المُهجرين بلا ماء ولا كهرباء ولا طعام. ليبدأ في رحلة البحث عن إجابات للسؤال أعلاه. 

قبل سنوات عدّة، حين كان لاعبًا في مانشستر سيتي الإنجليزي، كان قد سبَق له وأن قرأ تقريرًا يحكي عن دور الإعلام التقليدي في صياغة الرواية المنتشرة حول الصراع بين بلاده وبين المُحتَل، وكيف تم تحوير الحقائق بفجاجة كي تخدم مصالح طرف على حساب الآخر، وكيف تحوّلت المقاومة التي تكافح لاستعادة الأرض إلى فصائل إرهابية يجب دَكّ أراضيها. 

داخل ذلك التقرير، أدرَك اللاعب، الذي يعترف بعدم امتلاكه للمعرفة الكافية بحقيقة الصراع، أنّ قوى العالم العُظمى لا تعرِف سوى الفتات عن رواية بلاده الحزينة، بل أن شعوب هذه الدول تشعُر بالألفة تجاه الطرف المغتصب وتتعاطف معه ومع روايته التي تنشرها الآلة الإعلامية الدولية. 

لكن كيف يحدث ذلك كل مشاهد قصف المدن وتشريد الأبرياء مُصوَّرة، يضعها الشباب من كل حدبٍ وصوب على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تُمثِّل البديل الأخلاقي للإعلام التقليدي المُسيِّس؟ 

عن طريق المقطع أدناه تتضِح الحقيقة الغائبة عن بطل قصتنا؛ وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها فيسبوك التابع لشركة «ميتا» ليست مساحات لعرض كل الآراء، ولا تدعم كُل القضايا الإنسانية بشكل متساوٍ، ولا تكفل للجميع حق الدفاع عن حقه في الحياة. 

الآن، أدرك «أوليكسندر» أنّ المنشورات التي لا يكُف عن نشرها حول أوضاع بلاده المأساوية لا تنقل صوته للعالم، بسبب تقييد فيسبوك للمحتوى المنشور من بلاده، بل وتروِّج المنصة نفسها لمحتوى الطرف المُعتدي، في أبرز تجلٍ لازدواجية المعايير. 

لكن لماذا؟ فمن السهل جدًا التفرقة ما بين هوية الطرف المُعتدي والمُعتَدى عليه في ذلك الصراع. 

الإجابة هي أنّ الأداة التي يأمُل صديقنا في أن تجذب تعاطف العالم لبلاده هي سلاح جديد في يد الاحتلال، يتفاوض مع مسؤوليها بشأن ما يجب الترويج له وما يجب تقييده أو حجبه، بل وتوظِّف أفرادًا سبق لهم العمل بشكل رسمي داخل حكومة الاحتلال. 

هنا، بدأ  «أوليكسندر» يفهم سِرّ مساندة زميله السابق لروسيا التي اجتاحت بلاده؛ لأنّ رواية أوكرانيا البريئة لا تلقى رواجًا، بل تُعرَض عليه الرواية التي تصوّرها كموطن يحتضن الهَمَج وأعداء السلام.  

كما أوضحنا لك في البداية، لم تكن تلك قصة «أوليكسندر زينتشنكو»، لاعب أرسنال الحالي ونجم منتخب أوكرانيا، بل قصة عشرات اللاعبين الفلسطينيين الذين عانوا من احتلال دام لأكثر من نصف قرنٍ، وحصار فعلي لعقدين من الزمن. 

في النهاية، نعتقد أنّ زينتشنكو أو غيره من المشاهير الذين أبدوا تعاطفًا مع الكيان الصهيوني بشر في النهاية، لا تزال لديهم القُدرة على التعاطُف، بخاصة إذا ما سبق وأن مرّوا بتجربة مشابهة. 

لكن الحقيقة، هي أن هذا العالم، الذي يُعتقد أنّه تحوَّل لقرية صغيرة بفضل الإنترنت، لا يزال قادرًا على محاربة الحقائق مهما بدت واضحة، للدرجة التي جعلتنا نحاول التحايُل على لوغاريتمات شبكاته بافتراض سيناريو خيالي، كي يصل لأكبر عدد ممكن من البشر.