الأول من ديسمبر/تشرين الأول من عام 1988، مهرجان اعتزال محمود الخطيب. 100 ألف متفرج يملئون استاد القاهرة، والآلاف مثلهم في الخارج ينتظرون الدخول. يتعالى الهتاف منذ الصباح، ويعلو تدريجيًّا كلما اقترب الموعد، وكلما اقترب الوقت ازداد حزن الجميع لأن انتهاء هذا اليوم سينهي معه رحلة الخطيب مع كرة القدم.

ربما لا تدرك الأجيال الجديدة ما كان يعنيه ذلك، لكن الخطيب كان نجم الكرة المصرية ومعشوق الجماهير في ذلك الوقت، ومباراة اعتزاله كانت حدثًا مهمًّا للغاية.

وبينما تصدح الجماهير بالهتاف لبيبو، وقبل بداية المباراة بنصف ساعة تقريبًا، هدأت الأصوات للحظة قبل أن تعلو مرة أخرى منبهرة بما يحدث.

لفت نظرهم طفل يتوسط الملعب ويداعب الكرة، مرت دقيقة، دقيقتان، ثلاث، وكلما أظهر الولد مهارته زاد انبهار الجميع، ليستمر ذلك 20 دقيقة كاملة، لم تلمس الكرة فيها أرض الملعب، ليعلن حينها للجماهير أن حزنهم على الخطيب لن يدوم طويلًا.

بعد هذه اللحظة بـ 30 سنة تقريبًا، وفي مركز شباب بإحدى مدن محافظة الغربية وبينما يتدرب بعض الأطفال، جلس بجانبهم مجموعة من المتابعين، من بينهم أحد عشاق كرة القدم، والذي عمل كشافًا للمواهب في بعض الأحيان يدعى الحاج «شكري الكيلاني»، يتحدث ويحكي لمن حوله عن لاعب كان موجودًا في هذا الملعب من قبل، كان مبهرًا وصاحب مهارة فذة، وكثيرًا ما تجمع الجمهور للاستمتاع بمهارته قبل المباريات وفي الاحتفالات.

يحكي أنه كان من طنطا، وأنه لم يشاهد لاعبًا أمهر منه على الإطلاق، ثم يحكي أنه لعب في الأهلي، وأنه استعرض بالكرة في اعتزال الخطيب، ليسأله أحد الحضور عن الاسم، فيخبره أن اسمه: أحمد سمير، ثم يستدرك: أحمد سمير «بيبو».

يوتيوب

من هنا نبدأ الرحلة، بالبحث على الإنترنت، فإن اسم «أحمد سمير بيبو» على محرك بحث جوجل يجلب الكثير من النتائج، بترتيبها طبقًا للتاريخ الزمني، فإن عدة فيديوهات يداعب فيها الكرة هي التي تتصدر النتائج.

يظهر في أحد تلك الفيديوهات ذات الجودة المنخفضة وهو يستعرض الكرة، لكن ليس منفردًا هذه المرة، بل يشاركه الكابتن محمود الخطيب بنفسه، ويظهر الكابتن مصطفى عبده وهو يجري معه حوارًا في نهاية الفيديو.

وبقليل من البحث تبين أن هذا المقطع يعود إلى مهرجان اعتزال كابتن إكرامي، الذي أعقب اعتزال الخطيب بعام واحد.

لا تظهر أي فيديوهات أخرى للطفل أحمد سمير رغم محاولة تغيير طريقة البحث، يظهر بعد ذلك في فيديو آخر وهو يداعب الكرة أيضًا، لكن ليس كطفل، بل يبدو أكبر سنًّا بكثير في نحو الثلاثين تقريبًا. الفيديو معنون بـ «أحمد سمير خليفة الخطيب الحقيقي»، ويبدو أنه في افتتاح أحد المنشآت الخاصة بالنادي الأهلي.

لكن بين أحمد سمير الطفل وأحمد سمير الثلاثيني لا تظهر محركات البحث أي معلومة، ولا يوجد على الإنترنت معلومات كافية عن تلك الفترة.

بحسبة بسيطة، فإن سمير كان يبلغ نحو العاشرة من عمره في اعتزال الخطيب، في نحو عام 1988، ما يعني أنه من المفترض أن يتواجد في الفريق الأول في حدود عام 1998، أي بعد 10 سنوات، وبالبحث في قائمة لاعبي النادي الأهلي في الأعوام 1997- 2003 فهو لم يتواجد في أي منها.

وبمزيد من البحث لا تظهر أي نتائج عن أهداف مسجلة أو تواجد مع أي فريق في هذه الفترة، ويختفي ظهور أحمد سمير تمامًا من الإنترنت قبل أن يظهر في عدة لقاءات كمدرب في أكاديمية النادي الأهلي.

لكن بين اللحظتين لا بد أن هناك رحلة طويلة، وسرًّا لاختفاء سمير المفاجئ ثم عودته للكرة المصرية، وإجابة على سؤال  لماذا لم تحصل الجماهير على خليفة الخطيب كما توقع الحضور في استاد القاهرة في ديسمبر 1988.

في جلسة أخرى مع الحاج شكري الكيلاني سألناه: هل يمكننا التواصل مع أحمد سمير ليحكي لنا قصته؟ فرحب بذلك، وأخبرنا أنه ما زال يتواصل معه حتى الآن. تواصلنا في «إضاءات» مع الكابتن أحمد سمير، وكان لنا معه الحوار التالي:

2 من 100

سألنا سمير في البداية عن رحلته مع كرة القدم وكيف بدأت، فأخبرنا أنه بدأ ممارسة اللعبة في سن صغيرة، وكان والده يصحبه للملاعب ومراكز الشباب دائمًا، فهو كان لاعب كرة قدم سابق في طنطا، وكان شغوفًا بكرة القدم.

وفي أحد الأيام وبينما يتواجد رفقة والده في أحد المباريات بمركز شباب طنطا، وبينما يستعرض بالكرة على جانب الملعب، التقطته أعين الكابتن جمال شمس، مدرب كرة اليد في النادي الأهلي في ذلك الوقت، فتواصل مع والده وسأله عن سنه، وطلب منه أن يصحبه إلى مقر النادي بعد يومين.

وهو ما كان، وهناك وجد سمير نحو 100 لاعب آخر يُختَبَرون، وكان المدرب الذي يُجري الاختبار هو الكابتن مصطفى عبده المعتزل حديثًا آنذاك، فدخل أحمد الملعب وشارك لعدة دقائق كانت كافية لإقناع الحضور بموهبته، واختير رفقة ولد آخر من بين الـ 100، ولم يخرج من النادي إلا بعد أن وقع العقود.

اعتزال بيبو

وبسؤاله عن تواجده في اعتزال الخطيب، أجاب بأنه في أحد الأيام وقبل اعتزال الخطيب بفترة بسيطة، وبينما كان يداعب الكرة في التمرين كالمعتاد، وكان الفريق الأول متواجدًا في نفس المكان، التقطته عين الكابتن محمود الخطيب، فناداه وسأله عن فريقه، ثم أخبره أنه سيكون موجودًا في مهرجان اعتزاله، وسيدخل ليستعرض بالكرة قبل بداية اللقاء.

وبالفعل، دخل قبل بداية المباراة ليجد الملعب ممتلئًا عن آخره، لكنه نجح في تقديم عرض جيد، وذهب لتحية الجماهير، وكان حديث الصحف والمجلات الرياضية في اليوم التالي.

يحكي سمير أنه منذ اعتزال الخطيب بات معروفًا في صفوف الناشئين وضيفًا دائمًا في الاحتفالات ومهرجانات الاعتزال، ومنها اعتزال الكابتن إكرامي، الذي حمل مفاجأة سعيدة حين دخل الكابتن الخطيب واستعرض بالكرة رفقة سمير، ليخرج عرضًا ممتعًا أبهر الجميع.

حظ سيئ

استمرت رحلة سمير بعد ذلك في قطاع الناشئين في الأهلي، انتقل مع فرقته التي لعب بها وانضم إليه العديد من اللاعبين الذين صاروا نجومًا بعد ذلك، مثل سيد عبد الحفيظ وطارق السعيد، وكان سمير من هدافي فريقه ومن نجوم قطاع الناشئين.

عانى سمير من إصابة أثناء تواجده في قطاع الناشئين، حيث أصيب بقطع كلي في العضلة الأمامية، واستعجل في العودة عدة مرات، ولم يكن الطب الرياضي متقدمًا كهذه الأيام، فاضطر سمير للانتظار سنة كاملة حتى تعافى من الإصابة، وأثر ذلك على مستواه الفني بشكل كبير.

يحكي سمير أن فريقه في الناشئين قد تقرر إلغاؤه عند سن 16 سنة، وتفرق أغلب الفريق، ذهب سيد عبد الحفيظ إلى نادي النيل، وطارق السعيد إلى الزمالك، وفضل هو العودة إلى نادي غزل المحلة القريب من منزله.

لعب سمير في صفوف الناشئين إلى أن صُعِّد للفريق الأول تحت قيادة الكابتن طه بصري في عمر 21 سنة، ولعب مع الفريق الأول الذي كان ينشط حين إذن في الممتاز ب. 

عانى سمير من الإصابة مجددًا، وكانت بالرباط الصليبي هذه المرة، واستغرق وقتًا ثم عاد إلى الملاعب مجددًا.

رحل سمير عن غزل المحلة ليلعب مع نادي بنها لبعض الوقت، قبل أن ينتقل إلى فريق مدينته طنطا، ليلعب هناك، ثم انتقل إلى عدة أندية، ولم يستمر ذلك طويلًا، حتى قرر وهو في الثامنة والعشرين من عمره أن يعلق حذاءه وينهي رحلته مع كرة القدم.

ما بعد تعليق الحذاء

لم يستغرق الكثير من الوقت، حتى بدأ في رحلته الجديدة، رحلة التدريب، بدأ سمير رحلته مع أكاديمية النادي الأهلي التي أنشئت آنذاك، وعمل مع مجموعة من نجوم الأهلي المعتزلين، من أمثال محمد رمضان وأحمد كشري وعلي ماهر، وعمل في الأكاديميات لبعض الوقت قبل أن ينتقل لقطاع الناشئين بالنادي الأهلي.

عمل فيه مدربًا للمهارات الفردية الخاصة، ثم تولى تدريب فريق 2002 لمدة سنتين، ثم فريق 2003، وحقق معهم عدة بطولات، قبل أن يخرج في تجربة تدريبية في نادي اتحاد جدة السعودي، استمرت نحو سنة ونصف حقق خلالها بطولتين من أصل ثلاث بطولات.

عاد بعد ذلك لقطاع الناشئين بالنادي الأهلي، ليتولى قيادة فريق 2005، وحقق معه العديد من البطولات والإنجازات، حتى شهد له الكثير من المسئولين بكفاءته وبراعته.

تولى سمير قيادة هذا الفريق لمدة 5 سنوات، قبل أن يتركه وينتقل إلى نادي إنبي، أحد أفضل الأندية على مستوى قطاعات الناشئين، حيث تولى رئاسة قطاع البراعم بالنادي، وهو المنصب الذي يشغله حتى الآن.

تحدثنا مع سمير حول رؤيته عن الفارق بين قطاعات الناشئين حاليًّا وفي الوقت الذي لعب فيه، فأجاب بأن كل شيء تغير تمامًا، أصبحت الملاعب أفضل، معدات التدريب، وحتى الكرات، وكذلك تقدم الطب الرياضي، وأصبح المدربون أكثر وعيًا ومعرفةً وقدرة على إعداد اللاعبين.

وأشار كذلك إلى انتشار الأكاديميات والأندية المتاحة للناشئين، على عكس السابق، هذه الأكاديميات التي سمحت لآلاف اللاعبين بممارسة اللعبة بشكل منظم، بعد ما كان ذلك مقصورًا على الأندية الكبيرة فقط.

وبسؤاله عن رأيه في إمكانية صناعة لاعب كرة القدم في الأكاديميات، أجاب بأنه من الممكن أن يتعلم لاعب كرة القدم الأساسيات في الأكاديمية، أساسيات التمرير والتحرك والتكتيك، وقد يصبح لاعبًا جيدًا يشارك في المستويات المتوسطة، لكن ستظل كرة القدم لعبة الموهبة، والموهبة الفطرية هي العامل الأهم في وصول اللاعب للمستويات العليا.

في ختام حوارنا معه تمنينا له التوفيق في رحلته مع نادي إنبي، وشكرناه على حواره معنا في إضاءات.

ربما لم يصل أحمد سمير لما تمناه في كرة القدم وما توقعته الجماهير حين رأته في اعتزال الخطيب، لكنه منذ ذلك الحين قطع طريقًا طويلًا، وحقق مسارًا ناجحًا في التدريب جعله من أهم مدربي الناشئين في مصر، وستظل لحظاته أمام 100 ألف متفرج عنوانًا بارزًا لمسيرة نجم لم يحالفه التوفيق لإمتاع الجماهير لوقت أطول.