مهندس مدني ماهر قرر أن يجرب العمل العام، فتحول مع الوقت إلى سياسي محنك مُقلّ في تصريحاته متشعب في علاقاته بوتيرة سريعة للغاية، يهوى لعبة السياسة فيترأس أحد أكبر أحزاب إسبانيا. يكتشف بعد ذلك أن اللعبة لم تنتهِ بعد وأن أحد مساحات النجاح لم يخترقها حتى الآن، فيترشح لرئاسة النادي الأهم في العالم فيفشل في المرة الأولى بفارق ضئيل للغاية في الأصوات. يعود بعد أربع سنوات ليفوز في الانتخابات ويبدأ واحدة من أهم حقب ريال مدريد وأكثرها إثارة منذ نشأته في عام 1902.

رئيس نادي ريال مدريد أهم من رئيس الوزراء الإسباني نفسه. هو منصب ذهبي يمنحك القوة والنفوذ والعلاقات، كل هذا بمقابل زهيد.

«يوجوينو مارتينيز» رجل أعمال إسباني ومرشح سابق لرئاسة النادي الملكي

تتأثر قناعاتك وشخصيتك في كل مرحلة من مراحل حياتك بسابقاتها، ولأن بيريز بشر مثلنا فهو يخضع للقاعدة ذاتها لكن بشكل أكثر بروزًا. فكل مرحلة من مراحل حياة هذا الرجل قد تساعدنا في تفسير مصدر قوته الذي هو عليها الآن. قوة وصلت بالبعض إلى اليقين بأنه ديكتاتور في البرنابيو، صاحب نفوذ لا سقف له في إسبانيا، وله كلمة عُليا في اختيارات الفيفا.

جولة سريعة في حياة الرئيس الإسباني تخبرنا مدى صحة هذه الادعاءات، وهل سعى بالفعل لهذه القوة عن عمد أم أن الأمر جاء صدفة بتطور مجريات الأمور؟


السياسي فلورنتينو 1

في عام 1995 ترشح فلورنتينو بيريز لرئاسة النادي الملكي، ولكنه خسر الانتخابات أمام رامون ميندوزا بفارق 699 صوتًا فقط لا غير، لكنه عاد مرة أخرى ليفوز بالمنصب الذي خطط له منذ أكثر من 5 سنوات كأي سياسي يعشق لعبة الانتخابات ولا يمل منها، حتى احتل كرسي الرئاسة في النادي لمدة 17 عامًا من العشرين عامًا الأخيرة.

بدأ بيريز ولايته الأولى في مدريد بصفقة سياسية للغاية، صفقة قد تُصنف على أنها الأكثر إثارة للجدل في العصر الحديث للكرة الإسبانية. يعقد اتفاقًا مع لويس فيجو ووكيله بالانتقال لريال مدريد ويشترط ألا يتم الانتقال إلا في حالة فوزه في الانتخابات. يفوز في الانتخابات وينتقل فيجو في صفقة تهز أركان العالم كله وليس أركان البرنابيو فحسب، صفقة دخل بها بيريز مكتبه في النادي من الباب الواسع.

لا تحتاج عزيزي القارئ أن أخبرك عما حدث بعد ذلك، أنت تعلم بالتأكيد كل تفاصيل الجلاكتيكوس؛ لويس فيجو، زين الدين زيدان، رونالدو، ديفيد بيكهام، روبرتو كارلوس.

هي الضربة ذاتها التي يسعى من خلالها الساسة ورؤساء الدول عبر التاريخ إليها في بداية حكمهم. الإبهار وكسب قطاع عريض من الشعب في صفهم؛ لأن صفحتهم السوداء لم يُكتب فيها حرف بعد. الإبهار وحده حتى وإن لم يكن في موضعه أو لن يخدمك مستقبلًا.

صحيح وأن تلك الصفقات تمت من منظور دعائي تجاري بشكل كبير لتحسين الوضع المالي للنادي، إلا أن ما حدث لبيريز في النصف الثاني من ولايته منذ عام 2009 وحتى الآن يخبرنا أن السياسي الذي يكمن بداخله هو من كان يقوم بتحريكه وليس رجل الأعمال.

فلورنتينو بيريز يعلن استقالته عن رئاسة نادي ريال مدريد ويعترف أن امتلاء الفريق بالنجوم لم يكن الحل المناسب.
صحيفة الجارديان عام 2006

السياسي فلورنتينو 2

انتهى النصف الأول من الحكاية، نحن الآن في الولاية الثانية التي بدأت عام 2009 ولم تنتهِ حتى الآن. حان الآن موعد توطيد السلطة، انتهى شهر العسل مع الشعب ولم يعد الإبهار هو الأولوية.

لا ينقص تلك التعديلات إلا مادة واحد وهو: يجب أن يكون الاسم الأول من اسم المترشح لرئاسة النادي «فلورنتينو».

«رامون كالديرون» الرئيس السابق لريال مدريد لشبكة espn الرياضية

في عام 2012 اجتمعت الجمعية العمومية لنادي ريال مدريد وأقرت بعض التعديلات في شروط الترشح لرئاسة النادي. أبرز تلك التعديلات كان وجوب مرور 20 عامًا على عضوية المترشح وليس 15 عامًا كما كان قديمًا. أما التعديل الثاني والأهم هو أهمية وجود ضمان بنكي للمترشح قيمته 15% من الميزانية السنوية للنادي. دعني أخبرك عزيزي القارئ أن تلك النسبة كانت تعادل حينها حوالي 83 مليون دولار، أما الآن فهي تتجاوز الـ 130 مليون دولار.

كانت نتيجة تلك التعديلات هي فوز فلورنتينو بيريز بالتزكية في دورتي 2013 و 2017، ومن المتوقع أن يستمر فوزه في الجولات القادمة حتى يقرر هو موعد انتهاء الرحلة أو يكون للقدر الكلمة العليا.

هكذا صرح يونجينو مارتينيز لصحيفة التليجراف البريطانية. يُذكر أن مارتينيز كان مرشحًا محتملًا لرئاسة النادي عام 2017 قبل أن يمنعه بند الضمان البنكي من المشاركة.


المهندس فلورنتينو

يخلع بيريز في هذه الفقرة عباءة السياسي الذي أبهر ووطّد فأحكم قبضته على قلعة البرنابيو، ليرتدي عباءة المهندس ورجل الأعمال الذي يجيد التفكير والتنفيذ وكذلك بناء علاقات لا تقل قوة عن شخصيته.يترأس بيريز شركة ACS وهي إحدى أهم شركات البناء والإنشاءات في إسبانيا منذ عام 1997 وحتى الآن.

يقول الصحفي سام والاس، في تقرير نُشر في شهر مايو/آيار عام 2018 في صحيفة التليجراف، إن التوافق بين جولات فريق ريال مدريد الصيفية سواء في الصين أو في الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية، والعقود التي تعقدها شركة ACS في الدول ذاتها في نفس التوقيت لا يمكن أن يكون من سبيل المصادفة.

يُذكر أن هناك تعاونًا هامًا للغاية يجري بين الشركة والنادي _اللذين يترأسهما الشخص ذاته_ في مشروع تطوير البرنابيو بتكلفة 400 مليون يورو بعد انسحاب شركة إيبيك الإماراتية وغيرها من المشروع الذي طال انتظاره من جماهير النادي، وفشل بيريز في إيجاد بديل لها خلال تواجده في كأس العالم للأندية بأبو ظبي.

فبغض النظر عن اتفاقك أو اختلافك عن استغلال بيريز لمنصبه في أحد المكانين من أجل الآخر، لكن ما لا يمكن الاختلاف عليه هو كون الأمر نقطة قوة لا يستهان بها لديه، أمر منحه نفوذًا ماديًا بجانب نفوذه السياسي وقوته المجردة كونه رئيس ريال مدريد.

كل تلك العوامل ساهمت بشكل كبير في تكوين قوة ذلك الرجل، ولكن يتبقى الجانب الأبرز والذي عادة ما يتم تناوله على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل مكثف حتى صار كالحقيقة غير القابلة للتشكيك؛ وهو نفوذ فلورنتينو داخل جدران الفيفا!


فلورنتينو والفيفا

أي طفل صغير يمكنه إدراك سبب تلك التعديلات، هو لا يريد أن يضع مجالاً للمنافسة من الأساس. هذا الضمان يعطيه البنك بناءً على ممتلكاتك الشخصية أو بناءً على مدى قوتك المجتمعية؛ لذا من السهل أن تأخذه وأنت رئيس نادي ريال مدريد أو برشلونة، لكن قبل ذلك لا أعتقد. الأمر في غاية الصعوبة.

«بيريز هو من يختار تشكيلة العام في حفل البالون دور كل عام»، «عليه الذهاب إلى ريال مدريد إذا أراد الفوز بالكرة الذهبية، بيريز سيجلبها له»، «القرعة يتم تنسيقها من أجل ريال مدريد». بالطبع مرت عليك تلك الجمل وقرأتها كثيرًا على وسائل التواصل الاجتماعي.

اعتقد أنه صار واضحًا للجميع أن ميسي ينافس فلورنتينو بيريز على البالون دور وليس كريستيانو.

ما سبق كان تصريح النجم السويدي زلاتان إبراهيموفيتش عقب فوز لوكا مودريتش بالبالون دور. أصبح هناك معتقد راسخ لدى جماهير الكرة العالمية أن لبيريز نفوذًا كبيرًا داخل الاتحاد الدولي لكرة القدم، بل أن الأمر تعدى الجماهير ووصل إلى اللاعبين أنفسهم.

وبالرغم من انكشاف الستار عن العديد من فضائح الفيفا بسقوط جوزيف بلاتر؛ كالتواطؤ في القرعات، وتفوق ملفات تنظيمية لبطولات قارية على أخرى، وخضوع العديد من المسؤولين البارزين للتحقيق، كان آخرهم ميشيل بلاتيني، إلا أن وضع بيريز داخل الفيفا يظل كالصندوق الأسود الذي لا نعرف صحة وجوده من عدمها.

المثير للدهشة أن هذا الغموض يضفي هالة أخرى من القوة والكاريزما حول فلورنتينو بيريز!