مع انطلاق عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية، حماس، ضد إسرائيل، وقفت الولايات المتحدة وأتباعها الغربيون بقوة مع الاحتلال، مما حدا بروسيا لاتخاذ موقف معاكس، في ظل تدهور علاقتها بالغرب لأقصى درجة على خلفية الأزمة الأوكرانية وخوض الغرب حربًا غير مباشرة ضد جيشها عبر دعم كييف عسكريًا.

وفيما وُصف بأنه أشد الانتقادات الروسية لإسرائيل حتى الآن، قال وزير الخارجية، سيرجي لافروف، إن القصف الإسرائيلي لغزة يخالف القانون الدولي ويهدد بكارثة قد تستمر لعقود، مضيفًا أنه من المستحيل تدمير حركة حماس -كما تعهدت إسرائيل- دون تدمير غزة مع معظم سكانها المدنيين، محذرًا من أنه «إذا تم تدمير غزة وطرد مليوني نسمة، كما يقترح بعض السياسيين في إسرائيل والخارج، فإن ذلك سيخلق كارثة لعقود عديدة، إن لم يكن لقرون».

وحظي موقف موسكو بإشادة سريعة من حماس التي قالت إنها تقدر دعوة روسيا لوقف إطلاق النار، وأمعنت روسيا في إثارة غضب إسرائيل بدعوة وفد من حركة المقاومة الإسلامية لزيارتها، ووصل نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، موسى أبو مرزوق، في 26 أكتوبر/تشرين الأول إلى موسكو لاجراء مباحثات تناولت الإفراج عن بعض الأسرى وإجلاء مواطنين روس في قطاع غزة.

وكان المتحدث باسم حماس أعلن أن من بين الأسرى الإسرائيليين «عشرات» من حملة الجنسيات الأخرى، من بينها الجنسية الروسية.

وصرح أبو مرزوق، السبت، بأن الحركة تحاول تحديد مكان وجود ثمانية رهائن يحملون الجنسيتين الروسية والإسرائيلية تمهيدا للإفراج عنهم، قائلا: «نبحث الآن عن الاشخاص الذين أشار اليهم الجانب الروسي. إنه أمر صعب، لكننا نبحث، وسنفرج عنهم ما إن نعثر عليهم».

وكشف أبو مرزوق أنه تسلم من وزارة الخارجية الروسية قائمة بأسمائهم، وقال: «نبدي اهتماما كبيرا بهذه القائمة ونتعامل معها بعناية لأننا نعتبر روسيا صديقا قريبا جدا».

وأعرب ميخائيل بوجدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، ومبعوث بوتين الخاص إلى الشرق الأوسط، عن دعم روسيا لحقوق الشعب الفلسطيني، وتحدث عن جهود بلاده لتحقيق وقف إطلاق النار وفتح ممرات إنسانية في غزة.

واستدعت إسرائيل السفير الروسي لديها لتقديم احتجاج على استضافة موسكو لوفد حماس، في ظل تدهور غير مسبوق للعلاقة بين الطرفين.

ولا تصنف موسكو حركة حماس كإرهابية خلافاً للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، بل حافظ الروس على قنوات اتصال ثابتة مع حركة المقاومة الفلسطينية طوال السنوات الماضية.

وخلال الحرب الجارية في فلسطين وقفت موسكو التي تتمتع بحق النقض، الفيتو، في مواجهة واشنطن الداعمة لإسرائيل في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، ففي 16 أكتوبر/تشرين الأول صوت خمسة فقط من أعضاء المجلس لصالح مقترح روسي يدعو إلى «وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية»، واستخدمت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حق الفيتو ضده، وفي 18 أكتوبر، استخدمت الولايات المتحدة الفيتو ضد مقترح برازيلي يحث على وقف مؤقت لأسباب إنسانية لتوصيل المساعدات لغزة.

وفي 25 أكتوبر/تشرين الأول استخدمت روسيا والصين الفيتو ضد مقترح أمريكي في مجلس الأمن يقر حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ويدين حماس، واعتبر سفير روسيا لدى المنظمة أن المقترح الأمريكي يمثل تفويضا لشن هجوم بري على غزة من قبل إسرائيل «بينما سيستمر آلاف الأطفال الفلسطينيين في الموت»، وفي نفس اليوم صوت المجلس على نص قرار آخر صاغته روسيا يدعو إلى وقف إطلاق النار وسحب الأمر الإسرائيلي للمدنيين بالانتقال إلى جنوب غزة، وفشلت روسيا في الحصول على الحد الأدنى من الأصوات لتمرير القرار، فلم تؤيده سوى ٤ دول بينما يتطلب تمريره موافقة ٩ على الأقل، كما عارضته الولايات المتحدة وبريطانيا.

وانتظر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تسعة أيام قبل الاتصال برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لينقل تعازيه لعائلات القتلى الإسرائيليين، على الرغم من أن الرجلين حافظا في السابق على علاقات شخصية دافئة، وشدد بوتين في مكالمته على «رفضه الشديد وإدانته لأي أعمال تستهدف السكان المدنيين».

بينما كان المسئولون الروس الآخرون أكثر صراحة في انتقادهم للغارات الإسرائيلية على غزة، وأعلن زعيم الشيشان التابع لموسكو، رمضان قديروف، دعم الفلسطينيين، وهاجم إسرائيل بسبب حصارها لغزة.

مكاسب روسيا

توفر حرب غزة فرصة لموسكو لتعزيز دورها كوسيط قوة عالمي وتحدي الجهود الغربية لعزلها بسبب حرب أوكرانيا؛ فعلى الرغم من محدودية نفوذها في المنطقة مقارنة بواشنطن، تبرز روسيا باعتبارها المستفيد الرئيسي من الحرب بأقل جهد ممكن، خاصة في ثلاثة مجالات هي حملتها العسكرية في أوكرانيا، ونفوذها في المنطقة العربية، والحرب الإعلامية والقوة الناعمة.

فأولاً وقبل كل شيء، تعمل الأحداث في غزة على صرف انتباه صناع السياسات والجماهير الغربية عن الحرب في أوكرانيا التي باتت تتقاسم الشاشات الغربية مع إسرائيل والفلسطينيين.

يأتي هذا في ظل معاناة المجتمعات الغربية من ظاهرة «إجهاد أوكرانيا» من قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إذ يشعر الكثيرون في الغرب بالإجهاد المعنوي وأن بلادهم قدمت الكثير لأوكرانيا بما فيه الكفاية.

وبالنسبة لروسيا فإن هذا يسهم في إشاحة الأنظار بعيدا عن جرائمها في أوكرانيا، فقد تم تجاهل الهجوم الصاروخي الروسي القاتل على مدينة زابوريجيا الأوكرانية في ظل التركيز على أزمة غزة.

كما أدى الدعم الفوري والقوي الذي قدمه الرئيس الأوكراني اليهودي، فولوديمير زيلينسكي، لإسرائيل في حربها ضد سكان غزة إلى الإضرار بالجهود التي بذلها منذ العام الماضي لكسب الدول العربية والإسلامية في صفه ضد روسيا، فمثلا أصدر وزيرا خارجية تركيا وقطر، اللتين لعبتا أدواراً مفيدة في التفاوض بين أوكرانيا وروسيا، بياناً مشتركاً ينتقد نفاق الغرب بشأن أزمة غزة ويتضامن مع المعاناة الفلسطينية.

وقال زيلينسكي في خطاب ألقاه أمام الجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي في 9 أكتوبر/تشرين الأول، إن حماس وروسيا هما «نفس الشر، والفرق الوحيد هو أن هناك منظمة إرهابية هاجمت إسرائيل، وهنا دولة إرهابية هاجمت أوكرانيا»، لكن بعد 10 أيام فقط، ألمح زيلينسكي بشكل غير مباشر إلى قصف غزة من خلال الدعوة إلى ضرورة حماية المدنيين ووقف التصعيد، متجنبًا انتقاد الضربات الإسرائيلية، على الرغم من مقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين، وأيضًا ما لا يقل عن 21 مواطنًا أوكرانياً في غزة.

ولفت موقف زيلينسكي الانتباه أيضًا إلى العلاقة الوثيقة المتزايدة بين روسيا وإيران، التي تعد الراعي الرئيسي لحركة حماس، وأهم مورد للطائرات المسيرة لموسكو.

وكذلك الأمر بالنسبة للدعم العسكري الذي يُتوقع أن يتأثر سلبًا بسبب تركيز واشنطن على دعم تل أبيب، رغم تعهد الولايات المتحدة بدعم الاحتياجات الأمنية لكل من إسرائيل وأوكرانيا، وطلب الرئيس بايدن من الكونجرس توفير 105 مليار دولار من التمويل الطارئ لتغطية هذه الاحتياجات.

فقد انتخب الجمهوريون للتو رئيسا جديدا للكونجرس، وهو مايك جونسون، الذي يعارض إرسال مساعدات إضافية إلى أوكرانيا، وصوت مراراً وتكراراً ضدها، وبينما يربط بايدن بين دعم أوكرانيا وإسرائيل وتعزيز حماية الحدود الأمريكية، فإن جونسون أعلن أنه ينوي فصل تمويل أوكرانيا عن مساعدات إسرائيل.

علاوة على ذلك، تهدد الحرب في غزة بتأجيل –إن لم يكن إفشال– جهود إدارة بايدن لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وهذا من شأنه أن يرضي المسئولين في موسكو، الذين نظروا دائمًا إلى اتفاقيات أبراهام، وهي مجموعة من الصفقات بين إسرائيل والعديد من الدول العربية التي أبرمت في عام 2020 والتي مهدت الطريق لعملية التطبيع السعودي المرتقب، باعتبارها مشروعًا أمريكيًا يهمش نفوذ روسيا في المنطقة العربية.

وأيضًا تحتفظ موسكو بخططها الخاصة بالتعاون النووي مع المملكة العربية السعودية كبديل للتعاون النووي المقترح بين الرياض وواشنطن، وتأمل أيضًا في إحباط نضج شراكة دفاعية عربية إسرائيلية ضد إيران، الشريك الروسي الوثيق بشكل متزايد.

وهناك مكسب واضح حققته روسيا في ملعب الرأي العام العالمي؛ فالكرملين ألقى باللوم في التصعيد على أخطاء السياسة الغربية، وفي التغطية الإعلامية الروسية، احتل عرض معاناة الفلسطينيين في غزة مركز الصدارة، وسلط المسئولون الروس الضوء على المخاوف الإنسانية مع تجنب أي انتقاد مباشر لحماس.

وتصف روسيا نفسها بأنها تقوم بدور النبي داود في مواجهة جالوت الطاغية الغربي، وشبه بوتين حصار إسرائيل لقطاع غزة، بحصار ألمانيا النازية للينينجراد في الحرب العالمية الثانية، بينما تحاول الرواية الإسرائيلية باستمرار تشبيه حماس بالنازيين الذين اضطهدوا اليهود.

جدل العلاقات الروسية الإسرائيلية

يهدد موقف روسيا علاقاتها الودية مع إسرائيل، التي لم تشارك في العقوبات الغربية ضدها ولم تسارع إلى تقديم أسلحة إلى أوكرانيا، وذكرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل أن دبلوماسيا إسرائيليا أعرب عن «استياءه من الدور الذي تلعبه روسيا» أمام المسؤولين الدبلوماسيين في موسكو، معربا عن أمله في أن يتخذ الكرملين مواقف «أكثر توازنا»، واتهم أمير وايتمان، العضو البارز في حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو، روسيا بدعم حماس، وفي حديثه لقناة RT المقربة من الكرملين، حذر من أنه بعد هزيمة إسرائيل لحماس، «سوف نتأكد من فوز أوكرانيا، وسوف نتأكد من أنكم تدفعون ثمن ما فعلتموه».

لكن هناك آراء تؤكد أن إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الحفاظ على علاقتها مع موسكو، ويرجع ذلك جزئيا إلى سيطرة الروس على سوريا، مما يجعل إسرائيل مجبرة على عدم إغضاب الكرملين، وهذا هو موقفها اليوم بالفعل؛ فقد رفضت عرض الرئيس الأوكراني لزيارتها بعد عملية طوفان الأقصى تجنبًا لاستفزاز الروس.

وتسيطر روسيا عمليًا على السماء السورية، وتمتلك منظومة دفاع جوي لا تُستخدم ضد الطيران الإسرائيلي الذي يمرح منذ سنوات في أجواء سوريا دون حسيب، ونفذ مئات الضربات ضد أهداف إيرانية في عمق البلاد، في ظل وجود تفاهمات بين موسكو وتل أبيب بهذا الشأن.

ومع ذلك فإن الدعم الدبلوماسي والإنساني والتقني الذي قدمته إسرائيل لكييف ساهم في توتير العلاقات مع موسكو.

ورغم التواصل المستمر بين موسكو وحماس، وإجراء نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوجدانوف، منذ عدة أيام محادثات مع قادة الحركة الفلسطينية في قطر، فإن موسكو قررت الذهاب بعيدًا في إظهار تميّز مواقفها عن أعدائها الغربيين، وإظهار دعمها لحركة المقاومة التي أجمعوا على عداوتها ورموها عن قوس واحدة، خاصةً وأن البيان الروسي عن زيارة حماس اكتفى بالحديث عن إطلاق الأسرى «المدنيين» لديها.

وردًا على سؤال حول الانتقادات الإسرائيلية لموقف موسكو بشأن الحرب، أكد المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، على إدانة روسيا للإرهاب وأكد مجددا سعيها من أجل وقف سريع لإطلاق النار والحاجة إلى إقامة دولة فلسطينية.

بينما انقسم السياسيون والإعلاميون الروس حول الأزمة، وفي علامة على هذا الانقسام، أقدم رئيس البرنامج الحواري السياسي الأكثر شعبية على التلفزيون الروسي، فلاديمير سولوفيوف، على طرد يفجيني ساتانوفسكي، خبير السياسة الخارجية الموالي للكرملين، بسبب اتهامه لمبعوث روسيا للشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، بأنه يميل للعرب، وأن المتحدثة باسم وزارة الخارجية، ماريا زاخاروفا، تكره إسرائيل، قبل أن يعتذر في وقت لاحق.

وقال ألكسندر باونوف، من مركز كارنيجي روسيا أوراسيا، في تحليل له: «الصداقة مع العرب ضد إسرائيل والغرب جزء مهم من هذا الإرث، التمرد العالمي ضد النظام الغربي إلى حد ما يجعل روسيا وحماس حليفتين طبيعيتين ويمنعهما بالتأكيد من أن يصبحا أعداء».

وقال كورتونوف من مجلس الشؤون الدولية الروسي إن روسيا يمكن أن تستخدم اتصالاتها القوية مع إيران وسوريا للمساعدة في التفاوض على تسوية.

وقال: «يمكن لروسيا أن تكون جزءا من تحالف متعدد الأطراف يقدم ضمانات أمنية»، بينما وصف بعض المعلقين السياسيين المشاعر الروسية المعادية لإسرائيل بأنها عودة إلى العصر السوفييتي.

ويبدو جليًا أن الموقف الروسي ينبع من حسابات تتعلق بالتنافس الكوني مع الولايات المتحدة والظروف التي أوجدتها الحرب في أوكرانيا أكثر مما يتعلق بتفاصيل الصراع العربي الإسرائيلي والمجريات الميدانية في فلسطين.