على أعتاب الأمل يقف الفلسطينيون بعد كل عدوانٍ تتعرض له مدنهم في قطاع غزة، عيونهم ترقُب معدَّات وآليات الوزارات الحكومية لتُزيل ركام منازلهم وانتشال جثامين شهدائهم، وأسماعهم تُنصت لما ستنتهي إليه مؤتمرات الدعم الدولية التي تُعقَد على خلفيَّة الحدث لمناصرة المتضرِّرين، هم يأملون أن تُعاد الحياة لبيوتهم ترميمًا أو تشييدًا جديدًا، أو أن تنتهي الخصومة الحزبية والسياسية في وطنهم لتكون الكلمة العليا للمصلحةِ الوطنية العامة، فالمتتبِّع لما يُرصَد من أموال في مؤتمرات إعادة الإعمار، يَجدُها تتوه في دهاليز الانقسام الذي شوَّه الوطن الفلسطيني وبات يرجو وسيلةً حقيقيةً للشفاءِ.لقد بقيَ المتضررون على مدار ثلاثة حروب محمومة بحصارٍ سياسي واقتصادي، على قيد الانتظار حتى ذابت قلوبهم إرهاقًا، فما يصل من ذلك الدعم ضئيلًا جدًا في ظل حاجتهم الكبيرة، وفي ظل قسمته على الإعمار وموازنة السلطة التي تستحوذ على أكثر من النصف من أموال مؤتمرات المانحين.


المؤتمر الدولي لإعادة إعمار قطاع غزة

عُقد في منتجع «شرم الشيخ» بجمهورية مصر العربية يوم الثاني من مارس 2009، بعد العدوانِ الذي نفَّذه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في الفترة ما بين 27 ديسمبر 2008 إلى 17 يناير 2009، وقتها شارك فيه ممثِّلين عن 70 دولة و16 منظَّمة إقليمية، ورعَتْه كلا من (الولايات المتحدة، فرنسا، الاتحاد الأوروبي، الجامعة العربية، السعودية، وإيطاليا).ناقش المؤتمر الخطة الوطنية الفلسطينية للإنعاش المبكِّر وإعادة الإعمار في غزة للعامين 2009 و2010، والتي تم إعدادها من قبل وزارة التخطيط الفلسطينية بدعم من جميع الوزارات الفلسطينية الرئيسية ومن وكالات الأمم المتحدة والجماعة الأوروبية والبنك الدولي وشركاء آخرين، ولم تنتهِ أعمال المؤتمر إلاَّ وقد حصلت السلطة الفلسطينية على ضِعف القيمة المالية التي طلبتها السلطة عبر خطتها والبالغة 2.8 مليار دولار، والتي أرادت السلطة الفلسطينية صرفها في وجهتين لا ثالث لهما.

في مؤتمر إعادة إعمار غزة تم رصد تعهدات مالية بقيمة 4.7 مليار دولار، والتي مازال مصيرها طي الكتمان.

الأول بقيمة 1326 مليون دولار وبنسبة 48% لإعادة إعمار غزة وفق الاحتياجات المختلفة التي تُبرزها المسوح الميدانية المنفذة بواسطة مؤسسات محلية ودولية، وتشمل إيواء المدمرة منازلهم في مراكز إيواء مؤقتة وترميم شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي بالإضافة إلى إعمار المساجد والمواقع الأثرية التي دمَّرتها آلة الحرب، وكذلك إعادة بناء البيوت المدمرة كليًا وجزئيًا والتي بلغت 15.550 منزلًا، منها 4.036 منزلًا دُمِّر كليًا، و11.514 منزلًا دُمِّر بشكلٍ جزئي.والثاني بقيمة 1450 مليون دولار وبنسبة 52% لدعم موازنة السلطة الفلسطينية وسد العجز المزمن في موازنتها، وذكرت أخبار محلية وعربية، أن الدول والجهات المانحة تعهدت بتقديم 4.7 مليار دولار وهي قيمة أعلى بنسبة 167% مما طلبته الحكومة الفلسطينية في خطتها.ورغم مرور سبع سنواتٍ على عقد المؤتمر في الثاني في مارس 2009، بقيت التعهدات المرصودة في جلسة المؤتمر، والبالغة 4.7 مليار دولار، طي الكتمان، لا أحد يُبصر ما وصل منها وما صُرف على إعادة إعمار قطاع غزة، ولم تحظى وسائل الإعلام بالحصول على كشف مفصَّل عن نتائج مؤتمر شرم الشيخ المنعقد في الثاني من مارس 2009، لم يعرف أحد كم هي المبالغ التي دُفعت فعلًا، وكيف خُصِّصَت، ولماذا بقيَت أكثر من 500 عائلة من متضرِّري حرب 2008-2009 على قائمة الانتظار رغم الأموال الضخمة التي ضُخَّت آنذاك.


حربٌ جديدةٌ ومؤتمرُ مانحين آخر

مُجددًا شنَّ الاحتلال الإسرائيلي عدوانًا على أكثر من مليوني فلسطيني في محافظات قطاع غزة في يوليو 2014، آملًا أن يكبح جماح المقاومة التي تصاعدت قوتها بعد حرب 2008 وباتت في أبهى حُللها، في هذه المرة كان العدوان أكثر شراسة، البنية التحتية دُمِّرت، وأُهلك الحرث والنسل. شُهداءٌ لم تتَّسع لهم ثلاَّجات الموتى في المستشفيات فبُرِّدت جثثهم في ثلاجات البضائع واللحوم، قرابة 2.147 شهيدًا وُريوا الثرى، منهم 530 طفلًا، و302 امرأة، و23 شهيدًا من الطواقم الطبية، و16 صحافيًا، و11 شهيدًا من موظفي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا» التابعة للأمم المتحدة.أما البيوت التي نُسفت بفعل الهجمات الإسرائيلية على رؤوس ساكنيها فبلغت 17.132 منزلاً، منها 2.465 منزلًا دُمِّر كليًا، و14.667 منزلًا دُمِّر جزئيًا، إضافة إلى 39.500 منزلًا لحقت بها أضرار متفاوتة، وبلغ عدد من هم بلا مأوى جرَّاء هدم منازلهم 100.000 شخصًا، كما دُمِّر أيضًا 171 مسجداً، دُمِّر 62 منها تدميرًا كليًا، و109 طاله التدمير جزئيًا.على إثْر هذه النتائج الكارثية لحرب 2014 والتي استمرت 51 يومًا، تم التوافق على عقد مؤتمر لجذب المال الدولي لمساعدة الفلسطينيين والسلطة، هذه المرة استضافته القاهرة في الثاني عشر من أكتوبر عام 2014، وحصدت فيه السلطة تعهدات مالية بقيمة 5.086 مليار، خُصص منها 3.5 مليار دولار لإعادة إعمار قطاع غزة، بواقع 2.2 مليار دولار من الدول العربية والإسلامية و1.3 من الدول الأجنبية.


30 % فقط… لا تكفي

رغم الأموال المرصودة لم يتمكن الفلسطينيون من استعادة تفاصيل حياتهم الطبيعية، ما زالوا يترنحون على حبال الأمل والإجراءات الإسرائيلية؛ تارًة بإغلاق المعابر، وتارًة أخرى بوضع شروط تعجيزية على آليات إدخال مواد الإعمار إلى القطاع وحتى الأموال، فلم يصل من قيمة المبالغ المخصَّصة للإعمار إلا 30% فقط أي قرابة 1.316 مليار دولار.وبحسب «بشير الرَّيس» رئيس الفريق الوطني لإعادة الإعمار التابع لمجلس الوزراء، فإن عملية الإعمار في قطاع غزة تسير ببطء كبير، مُرجعًا ذلك إلى عدم التزام كافة الدول المانحة بتعهداتها التي أقرتها في مؤتمر المانحين 2014، وأشار إلى أن المبلغ الذي وصل 1.316 مليار دولار صُرف في أوجه متعددة هي: 261 مليون دولار لإعمار بعض القطاعات الأساسية كالصحة والتعليم والطرق والبنية التحتية والكهرباء والمياه، و494 مليون دولار صُرفت كتعويضات للمتضررين عبر وكالة الغوث «أونروا»، و221 كمساعدات إنسانية، و252 لدعم موازنة السلطة، و88 مليون دولار لدعم الاحتياجات المتعلِّقة بتوفير الوقود لقطاع غزة.أمَّا أموال المنحة الكويتية المُقدَّرة بـ 200 مليون دولار، صُرفت مؤخرًا على هيئة أموال عينية لقرابة 1000 مواطن من المتضررين عبر البنوك المحلية بعملة «الشِّيكل» لعدم توفُّر عملة الدولار في القطاع ما أثمر عن معاناة جديدة لديهم، وما زال هؤلاء بانتظار إدخال مواد الإعمار وفق الآلية المُتَّبَعة من قبل الأمم المتحدة والمُحقِّقة للشروط الإسرائيلية بعدم استخدام مواد البناء والإعمار لأغراض المقاومة المسلحة.وعلى صعيد التعويضات الخاصة بالقطاعين الزراعي والصناعي، فقد طالت معاناة انتظار المتضررين فيهما، وحتى الآن لم يصل منها إلا القليل، وتُشير تقديرات الفريق الوطني لإعادة الإعمار أن ما وصل من أموال القطاع الزراعي حوالي 12.4 مليون دولار فقط من أصل 270 مليونًا، ما أثَّر على عجز عجلة الإنتاج عن الدوران، بينما وصل من أموال القطاع الصناعي 25 مليون دولار من قطر والكويت، من أصل 150 مليونًا، مما أدى إلى تسجيل القطاع الصناعي تراجعًا ملحوظًا كانت نتيجته ارتفاع نسبة الفقر والبطالة في قطاع غزة إلى معدلات غير مسبوقة.


خلافٌ فلسطيني– فلسطيني يُهدِّد أموال الإعمار

لم يصل غزة من أموال مؤتمر إعادة الإعمار الذي عُقد عام 2014 سوى 30%.

لقد كانت الخلافات الفلسطينية بسبب الانقسام السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، سببًا في تباطؤ وصول أموال الإعمار إلى قطاع غزة المنكوب سواء عام 2009 أو عام 2014، إذ لم ينجح الفلسطينيون في رأب صدع علاقاتهم السياسية بإيجاد حكومة توافق وطني يُجمع عليها الكل الفلسطيني، ناهيك عن أن الدول المانحة كانت تعتد بالسلطة الفلسطينية وتوصل أموال الإعمار عبرها، فيما الأخيرة تقتطع ما يُحسِّن موازنتها المأزومة أولًا.وكذلك إسرائيل لم تكن تسمح بفتح المعابر بشكل يضمن إدخال مواد الإعمار بسلاسة ويُسر، فلم يبدأ الإعمار بخطى تُنهي الأزمات القائمة في القطاع وبقيَّ المتضررون في مراكز الإيواء يعيشون أوضاعًا مأساوية.

تُحاول الدول المانحة في مؤتمرات إعادة إعمار غزة إجبار الحكومة الفلسطينية على الاعتراف بإسرائيل كضريبة لتوفير المال.

لقد أرادت الدول التي رعت مؤتمر المانحين ومنها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية أن تُجبر الحكومة الفلسطينية في غزة على الاعتراف بإسرائيل كضريبة لتوفير المال لإعادة بناء ما دمرته آليات الاحتلال الإسرائيلي، لكن أحدًا لم يُبدي موافقة لذلك وتعثَّر إتمام المصالحة الفلسطينية ولم تتشكل حكومة الوحدة لا بعد مؤتمر شرم الشيخ 2009 ولا مؤتمر القاهرة 2014.فقط بقيَ قطاع غزة مرهونًا بالحصار ومقاطعة الرُّباعية كعقاب جماعي، باستثناء ما تقوم به اللَّجنة القطرية والأونروا من مشاريع متفرقة للإعمار هنا وهناك استطاعت بها فصل الإعمار عن العملية السياسية، وتجاوزت عقبة إدخال المال لحكومة توافق بإشرافها ومتابعتها للمشاريع التي تُنفِّذها لحين توافق الطرفين الفلسطينيين على تشكيل حكومة موحدة ومتوافقة على برنامج سياسي يتبنى خطة إعادة الإعمار، بشرط موافقة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على تلك الحكومة، وهي الموافقة المرهونة بـ «الاعتراف بإسرائيل».


آلية الأمم المتحدة وتشريع الحصارإنَّ الأموال الهائلة التي تعهَّد بها المانحون في مؤتمري الإعمار بشرم الشيخ 2009، والقاهرة 2014، لم تتمكن من إحداث تغيرًا ملموسًا على حياة المتضررين من الحروب، الغالبية العظمى لم يعودوا أدراجهم إلى منازلهم بسبب آلية الإعمار التي اقترحتها الأمم المتّحدة عبر مبعوثها لعمليّة السلام في الشرق الأوسط السيّد «روبرت سيري»، والقاضية بوجود رقابة ثلاثية من الأمم المتّحدة والسلطة الفلسطينيّة وإسرائيل على مواد الإعمار التي تدخل إلى القطاع، تمثلت بتركيب كاميرات مراقبة في المخازن ترصد عملية سيرها وعدم وصولها إلى أيدي حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، هذه الآلية بقيت عاجزة أيضًا عن إحداث أي اختراق في عملية الإعمار بل شرَّعت الحصار وعمَّقت الأزمات الإنسانية للمتضرِّرين وأطالتها أبدًا بدلًا من التخفيف منها وإنهائها.
المراجع
  1. المركز الفلسطيني للحقوق الإنسان، "تقرير حول العدوان الذي شنته قوات الاحتلال الحربي الإسرائيلي على قطاع غزة خلال الفترة بين 27 ديسمبر 2008 – 18 يناير 2009"، 7 سبتمبر 2009.
  2. المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، "حصيلة شاملة لنتائج الهجوم على غزة"، 28 أغسطس 2014.
  3. حامد جاد، "الفريق الوطني لإعادة الاعمار: نقص التمويل يتصدر أبرز المعيقات التي تواجه إعادة الاعمار"، الحدث الفلسطيني، 15 مارس 2016.
  4. عمر شعبان، "هل يزدهر قطاع غزة قريبًا"، المونيتور، 17 أكتوبر 2014.
  5. حسين أبو النمل، "دراسة: الاقتصاد السياسي لمشروع إعادة إعمار قطاع غزة"، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 23 إبريل 2009.