لا تزال مقاطع من مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» تجذب ملايين المشاهدات على مواقع التواصل الاجتماعي حتى بعد مرور 24 عامًا على عرضه الأول، فقصة صعود شخصية عبد الغفور البرعي -الشخصية الرئيسية في المسلسل- ألهمت قطاعًا عريضًا حتى بين جيل الشباب الذي لم يعاصره، وفي أغلب الأحيان يُنظر إلى الحج عبد الغفور على أنه المثال والقدوة الحسنة وكل أفعاله لا تخرج عن «الأصول»، وأنه رجل عصامي بدأ كشيّال للخردة في مخازن الحج «إبراهيم سردينة» حتى وصل إلى أعلى طبقات المجتمع بعمله وذكائه.

تم اقتباس المسلسل عن قصة «إحسان عبد القدوس» القصيرة التي تحمل الاسم نفسه، وقام بمعالجتها السيناريست «مصطفى محرم» حتى تناسب العرض التليفزيوني.

كان المسلسل متميزًا في حرفيات الكتابة، وخلق عالم وكالة البلح وتجار الخردة الذي أسر مخيلة المشاهد، وتصميم المنزل المصري المعاصر والأجواء العائلية المألوفة بين أسرة الحج عبد الغفور، التي كانت في غاية القرب من الطبقات الشعبية، والتجسيدات التمثيلية المخلصة التي قلّ وجودها في أي عمل درامي في السنوات الأخيرة، كل هذا جعل للمسلسل مكانة استثنائية بين جميع الأعمال التليفزيونية في تاريخ الدراما المصرية.

ولكن ما الذي تُخبرنا به قصة عبد الغفور البرعي؟

الراية البيضاء وبرجوازية الانفتاح

اُذيع مسلسل «الراية البيضاء» عام 1988، أي قبل عرض «لن أعيش في جلباب أبي» بحوالي 8 أعوام، وهو أيضًا لا يزال له جماهيرية كبيرة، ونستطيع أن نلاحظ تشابهات كثيرة بين الشخصيات والتيمات التي دارت فيها أحداث المسلسلين.

كتب سيناريو «الراية البيضاء» المؤلف الكبير «أسامة أنور عكاشة»، ويحكي قصة صراع نشأ في الإسكندرية بين المَعَلِمة «فضة المعداوي» تاجرة السمك، والسفير السابق «مفيد أبو الغار» على ملكية فيلا ذات طراز معماري فريد، وتحتوي على تُحف نادرة، ودارت بها أحداث هامة في تاريخ مصر، لذلك يرفض مفيد أبو الغار بيعها لـ فضة، والتي تريد شراءها بأي وسيلة حتى تُزيلها وتبني مكانها عقارات سكنية.

بالطبع الحبكة الرئيسية في الراية البيضاء بعيدة كل البعد عن لن أعيش في جلباب أبي، لكن هناك تشابهات عديدة في بناء الشخصيات والتيمة المطروحة، فشخصية فضة خرجت من بيئة شعبية مُعدَمة ومُهمَشة مثل عبد الغفور، وكلاهما لا يعرف القراءة والكتابة، وكلاهما حافظ على ثقافته الشعبية في ملابسهم وتعاملاتهم حتى بعد أن أصبح لديهما ثروة طائلة، ونستطيع القول بأنهما يُمثِّلان الطبقة البرجوازية التي تكوّنت بعد الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، حين ظهر رجال أعمال خرجوا من طبقات شعبية.

الصراع الأساسي في الراية البيضاء لم يكن أساسه قيمة الفيلا المادية، فيؤكد دكتور مفيد أبو الغار أكثر من مرة على أن قيمتها الفنية والجمالية فريدة للغاية ولا تُقدر بالمال، وأن فضة المعداوي «سوقية ولا تستطيع تذوق الجمال» فهي غير موثوق بها، إذن فالصراع الحقيقي هو بين فريقين، فريق يُقدر الجمال والفن والتراث، وفريق آخر «سوقي» وجاهل ولا يستطيع تذوق الجمال، ويؤكد تلك الرؤية كلمات قالها الدكتور مفيد للمَعَلِمة فضة في ثاني لقاء بينهما:

أنا عجباني الفيلا دي لأسباب مش هتقدري تفهميها… جايز تقدري تفهمي أكتر مني فـ السمك البوري والوقار وجايز فـ التجارة… لكن الفن… المعمار… التاريخ… التراث! مش ممكن يا هانم.

فتلك النظرة المتكبرة المحتكرة للفن والذوق الجميل كانت مترسخة منذ البداية عند مفيد أبو الغار حتى من قبل أن تبدأ فضة المعداوي باستخدام أساليب غير مشروعة في الصراع. إنها نظرة طبقية في أساسها، فـ مفيد أبو الغار وريث بشوات العهد البائد، بينما فضة كانت مجرد بائعة سمك مُعدَمة ولا تزال ترتدي وتتصرف كـ بائعة سمك مُعدَمة برغم ثروتها الطائلة.

ابن الوزير وبنت عبد الغفور

من أكثر المقاطع المنتشرة على مواقع التواصل هو مشهد حفل زفاف سنية عبد الغفور على نبيل ابن الوزير، تكوّنت من هذا المشهد كوميديا صادقة نابعة من التناقضات التي ظهرت بين عائلة عبد الغفور ذات الخلفية الشعبية وعائلة الوزير ذات الطابع الأرستقراطي المُتعالي، ورغم أن هذه التناقضات تتشابه مع نظيرتها في الراية البيضاء لكن هنا انعكست انحيازات القصة للفريق الآخر، أي أننا الآن نرى عائلة الوزير على أنهم الطرف الاستغلالي المُتكِبر ويظهر احتكارهم لمعايير الفن والجمال في محاولات الاستعلاء على عائلة عبد الغفور، التي حافظت على ثقافتها الشعبية.

فمن الواضح أن الاختلاف الأهم بين الراية البيضاء ولن أعيش في جلباب أبي ليس في القصة بل في توجهات وأفكار كلا المؤلفين، فاختار أسامة انور عكاشة أن ينحاز لفريق مفيد أبو الغار الأرستقراطي، بينما انحاز مصطفى محرم لفريق عبد الغفور البرعي.

وهنا يأتي السؤال الأهم: مع أي فريق يجب أن ننحاز؟

كيف تكوّنت الثروات؟

بابا هو اللي صنع المعجزة، مش المعجزة اللي صنعته.

هكذا وصفت نظيرة عبد الغفور البرعي قصة كفاح والدها ونجاحه المدهش الذي لا يُنسب الفضل فيه لأحد إلا لعبد الغفور البرعي نفسه، وتلك الفكرة أُسسِّت عليها شخصيته، فنشاهده طوال النصف الأول من المسلسل يتحدى كل الظروف والعوائق حتى تغلَّب عليها بجهده وذكائه مع القليل من المساعدات من الحاج إبراهيم سردينة حتى أصبح مليونيرًا، وبعبارة أخرى: المسلسل يحاول التأكيد على أن الحاج عبد الغفور يستحق الحصول على تلك الثروة.

وبالطبع تلك الفكرة لا يتفق معها مفيد أبو الغار حين قال عن فضة المعداوي:

الجهد والعرق ومعاهم الحظ ممكن يجيبوا لأي انسان ثروة معقولة يكتفي بيها، لكن ثروة بالضخامة دي… ضخامة الأفيال! مش ممكن! ده ضد المنطق والعقل، لازم يكون فيه أسباب تانية لا يمكن تكون كلها أسباب مشروعة.

هكذا كان ينظر الدكتور مفيد إلى الثروة التي كوّنتها فضة بائعة السمك من لا شيء، وبالفعل نكتشف بعد ذلك أن فضة تتاجر في الممنوعات، ومن غير اللجوء إلى الفساد والاستغلال لم تكن لتصبح بهذا الثراء.

ولكن السؤال هنا: كيف تكوّنت ثروة والد الدكتور مفيد؟ ومن أين أتى بالأموال التي اشترى بها هذه الفيلا؟ هل مصادرها غير مشروعة بنفس منهجية فضة المعداوي؟ لا يعطينا المسلسل إجابات عن تلك الأسئلة، لكن هناك تأكيدات على أن فضة كوّنت ثروتها بالفساد والتجارة الممنوعة، وكأن سؤال (من أين لك هذا؟) لا يُسأل إلا لأمثال فضة المعداوي.

«الدنيا كده يا نفيسة»

وعند الرجوع مرة أخرى إلى عبد الغفور، فيجب أن نقول إن حالته لا يمكن تعميمها حتى داخل سياق المسلسل، حيث ظهرت شخصيتان فقط على مدار الحلقات الـ 36 تملّكتا ثروة كبيرة بعد أن كانا فقيرين ومُعدمين تمامًا، وهما إبراهيم سردينة وعبد الغفور البرعي نفسه، أمّا باقي الشخصيات ثروتها إمّا مجهولة المصدر أو ورثتها عن آبائهم.

ويجب هنا أن نقول ملاحظتين: أولاً شخصية إبراهيم سردينة غير موجودة في قصة إحسان عبد القدوس القصيرة، فهي من اختلاق مصطفى محرم بالكامل، وثانيًا عبد الغفور البرعي في القصة الأصلية تحوم حوله شبهات الفساد والتهرب الضريبي.

والآن يأتي مجددًا السؤال الصعب: من يستحق أن ننحاز لصالحه؟

إذا بدأت المقارنة بين المسلسلين لن نستطيع كمشاهدين تبرئة فريق على حساب الآخر، فضة المعداوي استخدمت وسائل غير مشروعة حتى تصل إلى مبتغاها، كما يظهر العكس في لن أعيش في جلباب أبي، حيث نرى الطبقة المتمسكة بالوجاهة الاجتماعية المتمثلة في الوزير وعائلته تستخدم وسائل غير مشروعة أيضًا للوصول إلى ما تريد.

ولكن يوجد طرف آخر تم تهميشه من الجميع، نحن دائمًا نتحدث عن أصحاب الشركات أو العقارات التي تساوي ثروات طائلة والمشكوك غالبًا في مصادرها، ومن النادر الحديث عن الآخرين من الطبقات الأفقر، ويشرح خضير لزوجته نفيسة ابنة عبد الغفور أوضاع تلك الطبقات:

أنا اللي زييّ واللي زي أبويا ما ينفعش نكون أصحاب أملاك… إحنا نشتغل عند الناس ويعجبهم شغلنا وما يفرطوش فينا أبدًا… ونسمع منهم كلمتين حلوين، وف الآخر نكسب يا دوب على قدنا… الدنيا كده يا نفيسة.

فبدلاً من أن نجعل عبد الغفور البرعي أو مفيد أبو الغار أبطالاً يجب أن ننظر إلى خضير ونتساءل: كيف ستتحسن حياته وسط تلك الفوضى؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.