كشفت محاولة التمرد التي قادها يفغيني بريغوجين، زعيم ميليشيا فاغنر، في يونيو/ حزيران الماضي عن الأسس الهشة تحت سطح هياكل السلطة الروسية، وسلطت الضوء على الارتباك المتزايد وضعف الحزم لدى الرئيس فلاديمير بوتين، وأظهرت تصدعات بنيوية لا يمكن إنكارها على جدار الصورة المهيبة للنظام.

فقد أثارت خطوة بريغوجين الجريئة شللا مفاجئًا في عملية صنع القرار داخل النظام، فلم يكد يظهر رد فعل من الجيش والأجهزة الأمنية، والتزم المسؤولون الحكوميون الصمت في انتظار إشارة واضحة من بوتين الذي وصفته الصحافة الغربية بأنه أصبح صورة حية لحاكم مستبد مسن منفصل بشكل متزايد عن حقائق هياكل سلطته، وغير قادر على التوسط في النزاعات داخل صفوفه، وفشل في منع صراعات السلطة الداخلية من الخروج عن نطاق السيطرة، وأن الدعم العام لنظامه «مستمد من الطاعة اللامبالية أكثر من الولاء الصادق»، في ظل الاعتقاد السائد بأنه لا يوجد بديل لحكمه.

إذ إن إحجام قادة الدولة عن التصرف بشكل حاسم دون توجيه صريح من الكرملين كشف عن ضعف كبير في أسلوب حكم بوتين الذي يوزع السلطة على أساس الولاء الشخصي بدلاً من الاستقرار المؤسسي، ويعطي الأولوية للولاء على الفعالية.

فقد انتظر لأكثر من تسع ساعات بعد أن تم إطلاعه على «محاولة التمرد المسلح» لإلقاء خطاب متلفز يتهم بريغوجين بـ«الخيانة»، استغرق الأمر عشر ساعات أخرى للتوصل إلى اتفاق مفاجئ مع رئيس المرتزقة يضمن خروجًا آمنًا له إلى بيلاروسيا. وفقد بوتين السيطرة على الوضع لبعض الوقت، مما أدي لشل حركة الدولة، وفي النهاية احتشد أرباب القوة خلفه، لكن بعد فشل التمرد.

تفكك البيروقراطية الحاكمة

اللافت أنه رغم اعتقال بعض العسكريين مثل الجنرال سيرجي سوروفيكين، فإن الرئيس الروسي لم يقم بحركة تطهير واسعة تتناسب مع حجم التهديد الذي تعرض له، فحتى الآن تجنب التصرف الذي قام به القادة الاستبداديون الآخرون ردًا على محاولات الانقلاب أو التمرد، ربما لتجنب زعزعة استقرار نظامه أكثر.

ويكشف ميخائيل خودوركوفسكي، الأوليغارشي المنشق الذي يعيش في منفى اختياري، إن أقل من ثلث جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) سيكون مستعدًا لدعم الرئيس فلاديمير بوتين في حالة تكرار تمرد يفغيني بريغوجين.

ويضيف خودوركوفسكي، الذي كان أغنى رجل في روسيا قبل أن يصبح معارضًا لبوتين، إنه كثيرًا ما يتواصل معه أعضاء جهاز الأمن الفيدرالي الذين يشعرون بخيبة أمل من نظام بوتين ويقدمون له «معلومات»، موضحًا أن هذا لا يشمل «الدائرة المقربة من بوتين»، لأن «هؤلاء الناس يفهمون بوضوح أن مصيرهم ومستقبلهم ومصيرهم متشابك تمامًا مع بوتين».

ويكشف أن الرئيس الروسي قرر عدم المخاطرة بالانتقام من بريغوجين ومقاتليه بالقوة، لأن الأشخاص الذين كان يمكن لبوتين أن يستخدمهم للدفاع عنه وعن النظام «يمكن أن يوجهوا أسلحتهم ضد النظام نفسه في الاتجاه المعاكس»، مردفًا «تبدأ في معاقبة الناس، ثم تكتشف فجأة أن نصف الجيش النشط يقف إلى جانب بريغوجين وبعد ذلك يمكنك في الواقع الترويج لتمرد أكبر واشتباك أكبر بكثير».

واعتبر خودوركوفسكي أن أهمية الانتقادات التي وجهها بريغوجين تكمن ليس في تأثيرها في عموم الناس بل في الجمهور الموالي لبوتين تحديدًا والمؤيد لاستمرار الحرب، لأن كلامه «يعني أنهم تعرضوا للخيانة»، وهذه الأفكار التي عبر عنها بريغوجين هي الآن «في رؤوس الناس». ويتوقع خودوركوفسكي أنه «إذا لم يعاقب أي شخص على التمرد ، فإن خطة حدوث تمرد آخر من نوع بريغوجين ستكون أكثر احتمالاً بكثير».

فعلى الرغم من سمعة بوتين المرتبطة بالقسوة والصرامة، فإن رده على التمرد الفاشل يبدو وكأنه جزرة وليس عصا، كما يتضح من حفل الكرملين الفخم الذي أقيم لتكريم قوات الأمن بعد التمرد، وصدر مرسوم حكومي رسمي بمنح زيادة بنسبة 10.5% لجنود وضباط الشرطة وموظفي الأجهزة الأمنية الأخرى.

وأمطر بوتين قواته الأمنية بالثناء، حيث أقام احتفالاً في ساحة الكاتدرائية في الكرملين تكريماً لـ«تصميم وشجاعة» القوات، حتى بحضور شرطة المرور، ولإظهار حبه للناس في وقت الأزمات بدا أنه ينتهك احتياطاته الخاصة بفيروس كورونا في الأماكن العامة لأول مرة.

فهناك احتمال كبير لأن يستمر بوتين في ترك الأمور على حالها خوفًا من تجرّؤ المشكوك بولائهم عليه، بعد انكشاف ضعفه أمام تمرّد فاغنر، ولأن أي تصفياتٍ سريعةٍ قد تضرّ بشدة بالعملية العسكرية في أوكرانيا في وقت تقوم فيه هذه الأخيرة بهجومها الواسع الذي تخطّط له منذ أشهر، مما يجعل بقاء نظام بوتين في خطر.

وقد تفاخر بريغوجين بأن قواته لم تواجه مقاومة أثناء تقدمها من جنوب روسيا إلى العاصمة، وقال رئيس الحرس الوطني، فيكتور زولوتوف، في 27 يونيو/ حزيران، إن موسكو ركزت كل قواتها على الدفاع عن المدينة «وإلا لكانوا قد مروا من خلالنا مثل السكين عبر الزبدة»، على حد تعبيره.

إذًا فقد كشف تمرد زعيم فاغنر أن الأجهزة الأمنية الروسية الضخمة غير مستعدة لمثل هذا التحدي، رغم أنه لطالما ركز جهاز الأمن الفيدرالي (FSB)، الذي يعد جهاز الأمن الداخلي الرئيسي في «إجراءات الوقاية» واتخذ خطوات صارمة لاستباق أي تهديدات للدولة قبل حدوثها، حتى إن هناك مخبرين داخل منظمة فاغنر، ومع ذلك ، يبدو أنه لم يتخذ أي إجراء لوقف التمرد قبل أن يبدأ أو لتحذير الكرملين بشأن خطط بريغوجين.

يُعتقد أن رئيس ركز جهاز الأمن الفيدرالي، ألكسندر بورتنيكوف، هو أحد أقرب مستشاري بوتين، وعمل معه في جهاز الاستخبارات في لينينغراد (تسمى الآن سانت بطرسبرغ) خلال الحرب الباردة. وتتمثل المهمة الرئيسية للجهاز في حماية الرئيس وكبار المسؤولين، ويضم الجهاز قوة يصل عددها إلى عشرات الآلاف تعمل على مراقبة وكالات الأمن الروسية الأخرى بحثًا عن مؤامرات محتملة ضد الرئيس.

لكن مع تحرك قوات فاغنر ، فشل كل من جهاز الأمن الفيدرالي والحرس الوطني الروسي، الهيئة الرئيسية المكلفة بالحفاظ على الأمن الداخلي وقمع الاضطرابات في روسيا، كقوات الرد السريع. فقد بذل الحرس الوطني قصارى جهده لتجنب المواجهة المباشرة مع فاغنر، وكذلك جهاز الأمن الفيدرالي لم يتخذ أي إجراء على الإطلاق.

والأمر المثير للدهشة بشكل لا يمكن تجاهله هو رد فعل المخابرات العسكرية الروسية، فعندما سارعت قوات فاغنر إلى روستوف أون دون، مركز القيادة الرئيسي للحرب في أوكرانيا، جلس بريغوجين مع يونس بك يفكوروف، نائب وزير الدفاع، وفلاديمير ألكسييف، النائب الأول لرئيس المخابرات العسكرية، وبدا الأخير متفقًا مع بريغوجين على وجود مشكلة مع القيادة العسكرية الروسية، فعندما قال بريغوجين إنه يريد الوصول إلى وزير الدفاع سيرجي شويغو والجنرال فاليري جيراسيموف، قائد القوات الروسية في أوكرانيا، على ما يبدو لجعلهم يجيبون على أخطائهم، ضحك أليكسييف وأجاب: «يمكنك الحصول على ذلك!».

فالواقعة أوضحت بجلاء أن التهديد الأكبر للنظام ربما لم يكن تمرد بريغوجين نفسه ولكن رد فعل الجيش والأجهزة الأمنية على ذلك التمرد، وعلى عكس الأزمات السابقة ، قد لا يكون قادرًا على الاعتماد على الأجهزة الأمنية التي استخدمها منذ فترة طويلة لضمان الاستقرار السياسي.

ومن حسن حظ بوتين أن التمرد جاء على وجه التحديد في وقت كان فيه نفوذ فاغنر يضعف، وكانت القيادة العسكرية الروسية تكتسب ثقة متجددة مع بدء الهجوم المضاد الأوكراني الذي طال انتظاره، وارتفعت معنويات الجيش، ولم يعد يُنظر إلى مقاتلي فاغنر على أنهم القوات الوحيدة القادرة على الجانب الروسي.

تكمن أهمية تمرد بريغوجين أيضًا في فتح الباب لانتقاد القيادة العسكرية الروسية بعد أن أظهر نائب رئيس المخابرات العسكرية أن هذا النقد يمكن أن يأتي من الداخل، فتعليقات أليكسييف تحمل وزنًا كبيرًا وهي تظهر مدى تعقيد أزمة فاغنر، لأن أليكسييف أحد أقوى الجنرالات، وكان أيضًا أحد مؤسسي فاغنر، ولديه خبرة طويلة في الإشراف على القوات الخاصة الروسية ويحظى باحترام تلك الوحدات.

ومثل هذه الأمور تجعل بوتين لا يعرف تمامًا من يقف معه ومن يقف ضدّه في أزمة فاغنر، وولاء الجهاز الأمني باتت موضع تساؤل، فقد كانت تعليقات أليكسييف تعبيرًا عن قطاع في الجيش يشارك بريغوجين وجهات نظره بأنه قد يكون هناك مجال لإجراء محادثة جادة حول القيادة العسكرية، على الرغم من أنهم لم يكونوا مستعدين لدعم فاغنر في تحركها، فإن هذا الفصيل داخل الجيش رأى فرصة لبدء الحديث عن الأخطاء التي حدثت في الحرب، وقد كسر أليكسييف الصمت الرسمي حول القيادة العسكرية ويبدو أن ذلك مقدمة ليصل النقد للقيادة السياسية، وبدا في خطاب بوتين بعد التمرد أنه لا يهتم كثيرًا بأمر بريجوزين، ولكن بالجيش نفسه، فكان خطابه شديد اللهجة يهدف إلى إرسال رسالة واضحة إلى القوات المسلحة وليس لزعيم الميليشيا المنشق.

ورغم أن زعيم فاغنر أسقط سبع طائرات روسية وقتل 13 طيارًا من القوات الروسية النظامية قبل أن يتوقف على بعد 200 كيلومتر من موسكو، فقد كان شويغو وجيراسيموف غائبين تمامًا خلال الأزمة، مما طرح تساؤلًا عما سيحدث عندما تعاني روسيا من نكسات جديدة في الحرب ويتأرجح المزاج العسكري في اتجاه سلبي؟

ولطالما كان الغموض السياسي علامة مميزة لحكم بوتين، فعُرف بتسامحه بل وحتى تشجيعه للصراع بين النخبة لأنه أبقى على المنافسين المحتملين تحت السيطرة، مع التأكيد على أن السلطة النهائية تقع دائمًا في يد الرئيس، لكن هذا النهج أثبت خطورته.

وفي أعقاب الاضطرابات يبذل النظام جهودًا متضافرة لإظهار توحد النخبة خلف الرئيس، ونظم الكرملين سلسلة من الفعاليات في الأيام الأخيرة بهدف إعادة كتابة رواية التمرد وإظهار أن الحياة تمضي بصورة طبيعية، وبدلاً من مهاجمة قادة جهاز الأمن الفيدرالي والحرس الوطني لفشلهم في الأزمة يبدو أنه قرر منح هذه الأجهزة سلطة موسعة، فالحرس الوطني يأمل في تعزيز موقعه من خلال الحصول على إذن لوجود دبابات في خدمته، وتفاخر رئيس الحرس ، فيكتور زولوتوف ، الحارس الشخصي السابق لبوتين بأن الرئيس وعد بتسليح قواته بالدبابات والمدفعية.

قاعدة لا استثناء

ليست هذه المرة الأولى التي تصاب فيها أجهزة الأمن الروسية بالشلل في لحظة أزمة وطنية، فلدينا محاولة الانقلاب عام 1991، حيث تحركت مجموعة من كبار المسؤولين الشيوعيين برئاسة زعيم المخابرات السوفيتية (KGB)، ووضعت الرئيس ميخائيل جورباتشوف قيد الإقامة الجبرية في فيلاه الصيفية في شبه جزيرة القرم، وعلى الرغم من فشل خطتهم للاستيلاء على السلطة بعد خروج عشرات الآلاف من الناس إلى الشوارع للدفاع عن حريتهم إلا أن ضباط المخابرات اكتفوا بدور المتفرج.

وانهار ذلك الانقلاب في ثلاثة أيام فقط، الذي هزمه التحدي الذي أبداه بوريس يلتسين والمواطنون الذين تجمعوا حوله أمام مبنى البرلمان الروسي وكانت لديهم رغبة مستميتة في تفادي العودة الى الحكم المتشدد، واتسم الانقلاب آنذاك بالتنظيم السيئ وعدم الإخلاص في التنفيذ.

وفي عام 2004 ، عندما احتجز الخاطفون أكثر من 1000 طفل ومعلم كرهائن في مدرسة في بيسلان في أوسيتيا الشمالية ، بدا أن كبار الجنرالات الروس يردون بالخوف والعجز، ففي ذلك الوقت رافق باتروشيف، الذي كان يشغل منصب مدير جهاز الأمن الفيدرالي، وزير الداخلية رشيد نورغالييف إلى مطار المدينة، وأجرى مشاورات سرية ثم عاد بسرعة إلى موسكو. خاف المسؤولون لدرجة أنهم تركوا الموقف ليتم تسويته من قبل فرع الأمن الفيدرالي المحلي، الذي لم يكن بكل المعايير في وضع يسمح له بمعالجة أزمة إرهابية بهذا الحجم، وفي النهاية قُتل أكثر من 300 شخص من بينهم عديد من الأطفال، ولم يعاقب بوتين هؤلاء المسؤولين.

ووقع الاستثناء في نفس ذلك العام -2004- عندما استولى المسلحون الشيشانيون لفترة وجيزة على إنغوشيا، وحينها انقض بوتين بشكل نادر لمعاقبة ضباط الأمن الفيدرالي.

في الواقع، كانت هذه مشكلة قديمة للجيش الروسي الذي واجه معنويات محطمة قرب نهاية حرب القرم عام 1856، وبعد هزيمة الحرب الروسية اليابانية في 1904-1905، وفي الحرب العالمية الأولى حين أطاح الثوار بحكم القيصر بسهولة عام 2017، وفي الحربين الأفغانية والشيشانية، وهي مواقف ظهر فيها الدب الروسي عاجزًا عن التصرف.

ويُظهر الانكشاف غير المتوقع والسهولة التي تفوق حدود التخيل هشاشة حكم الأوليغاركية التي سيطرت على مفاصل السلطة في روسيا خلال العقود التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، وبشكل خاص خلال فترة حكم فلاديمير بوتين الممتدّة منذ نحو ربع قرن.

فغالبا ما يؤدّي الفشل أو سوء الأداء على الجبهات الى ارتداداتٍ داخلية قوية تأتي على شكل ثورات، أو انقلابات تتمخض عن الانقسامات والصراعات بين نخب الحكم وأجهزة السيطرة التي تتقاذف الاتهامات بالمسؤولية عن الفشل.