في ختام عام 2013، نشأ صراع جاب كافة الصحف بين الشركة المالكة لحقوق الدوري الإسباني، وبين إدارة البطولة بقطبيها، ريال مدريد وبرشلونة، بخصوص موعد مباراة «الكلاسيكو» والتي كان مطلوب إقامتها في ظهيرة نهاية الإسبوع بإسبانيا.

عقب ذلك التاريخ بعدة أشهر، نجح ريال مدريد في الفوز على أوساسونا بنتيجة 7-1، في مباراة لعبت بالظهيرة، نفس الوقت المرفوض سابقًا، وكانت النتيجة أنها حصلت على حوالي 60 مليون مشاهد من الصين. لم تكن مباراة قمة ولا صراع على إنهاء الدوري، لكن اسم ريال مدريد وحده جذب 60 مليون شخص للمشاهدة.

وفي خضم تلك المشكلة، اشتكى منتجو القنوات التلفزيونية الآسيوية من اختلاف التعامل بين إدارة الدوري الإسباني، وبين إدارة الدوري الإنجليزي، إذ تراعي الأخيرة قيمة ما تحصل عليه من عدد متابعين من قارة آسيا ومن الصين على وجه التحديد، فتلعب مباريات قمة في توقيت الظهيرة وتحدد مواعيد المباريات قبل موعدها بأسابيع طويلة.

وفي الواقع، يصعب تحديد السنة التي نشأت فيها العلاقة بين إدارة الدوري الإنجليزي وبين المتابعين من الصين، حيث سيكون البحث عنها مشابهًا للبحث عن أول مرة شعر فيها البشر بأهمية النقود، المؤكد أنه تاريخ قديم، والأكثر تأكيدًا، أنها علاقة لن تنتهي.

لم تكن الأولى

في أكتوبر 2020، تم رفع اسم أوزيل من قائمة أرسنال المحلية، وقبلها كان قد رفع اسمه من القائمة الأوروبية، وأعلن المدير الفني «ميكيل أرتيتا»، أنه خسر معركته في إعادة لاعبه الألماني للملعب من جديد، محاولًا التأكيد أن أسباب استبعاد مسعود تعود لأفكار المدرب الإسباني الخاصة بكرة القدم فقط.

تشير أغلب التقارير والأنباء القادمة من لندن، أن استبعاد أوزيل قد جاء لأسباب سياسية واجتماعية،على إثر اعتراضه العلني على سياسة دولة الصين مع مسلمي مدينة الإيغور، وهو ما أسمته الصين أنه أنباء كاذبة قد خُدع بها اللاعب الألماني.

وبالنظر إلى قصة «مسعود أوزيل» في إنجلترا، والتي بدأت عام 2013 أيضًا، ستكتشف أنها مليئة بالمواقف الساخنة. فخلال 7 سنوات، أُقحم اسم أوزيل في قضايا تخص سياسة تركيا وروسيا والصين وحتى السياسة المالية للأندية الإنجليزية خلال فترة جائحة كورونا.

كل قضية منهم لها ظروفها، وبالتبعية ستختلف آراؤنا حولها، فكل منا سينظر للحدث بما يعتقده؛ فهناك من يظن أن أوزيل قد أخطأ في الدفاع عن أفكاره الاجتماعية والإنسانية، وآخرون سيظنون أن أصحاب النفوذ في أوروبا وتحديدًا في إنجلترا لا يرغبون في سماع الحقيقة من فم أحد المشاهير.

إن سرنا خلف الاحتمال الثاني، فإنه يقودنا نحو عام 2018، تحديدًا أثناء بطولة كأس العالم المقامة في روسيا، التي دعم فيها الألماني،رئيس تركيا «رجب طيب أردوغان»، بالتعاون مع مواطنه «إلكاي جاندوجان»، حيث تُعد تركيا محل ولادة كلا اللاعبين.

كانت تلك هي اللحظة الأولى التي يدفع فيها أوزيل ثمنًا لأفكاره، حيث تلقى بموجة كبيرة من الهجوم من قبل الاتحاد الألماني ومن قبل المواطنين الألمان، الذين حمّلوه مسئولية خروج المنتخب الوطني من الدور الأول للمونديال في صورة مُهينة.

لا داعي للخوض في السبب الذي دفع أوزيل لدعم أردوغان، لكن لنفس الأسباب التي قد يرفض المجتمتع الألماني دعم مسعود للرئيس التركي بسببها، كان عليهم رفض لقاء «لوثار ماثيوس»، الأسطورة الألمانية، مع الرئيس الروسي «بوتين»، والذي أكد أن ذكرى لقائه بالرئيس الروسي ذكرى عظيمة بالرغم من خروج ألمانيا من البطولة في نفس الفترة.

فإن كانت أسباب تخص الانتماء لألمانيا، فإعلان الميل لتركيا لا يختلف كثيرًا عن إعلان الفخر بمقابلة رئيس دولة أخرى أثناء فترة تأخر المنتخب الوطني كرويًا، وإن كانت أسبابًا إنسانية، فـ أردوغان لا يختلف كثيرًا عن بوتين، لكن تظل المشكلة أكبر من ذلك.

لا تغضب رؤوس الأموال

بخسارة انتمائه الدولي لألمانيا، وخسارة جزء ضخم من شعبيته ببلاده، زادت قيمة خسائر أوزيل بعد أن فقد عقد رعايته من شركة «أديداس»، والذي كلفه 22 مليون جنيه استرليني.

لكن ظلت تلك الأزمة أقل من التأثير على مسيرة الألماني ككل، لأنها لم تصل بعد للمساس بما قد يُسمى دوليًا الآن: المصدر الرئيسي للدخل في العالم من حقوق البث التلفزيوني، وهي الدول والشعوب الآسيوية. لكن في ديسمبر من عام 2019، خرق أوزيل ذلك الحاجز وبلغ ما لا يمكن بلوغه.

انتقد عازف الليل كلاً من الصين والدول المسلمة بسبب قضية مُسلمي الإيغور الشهيرة، والتي كانت قد انتشرت في عام 2018، حيث كشف تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية عن أدلة على أنه يُعتقد أن حوالي مليون شخص -معظمهم من مجتمع الإيغور المسلم في الصين- قد احتُجزوا دون محاكمة في معسكرات اعتقال شديدة الحراسة.

بعد انتقاد أوزيل العلني لسياسة الحكومة الصينية، تم استبعاده من النسخة الصينية من لعبة الفيديو الشهيرة «Pro Evolution Soccer» لعام 2020. هل تتذكر جدول البث الصيني الذي تتصارع عليه إدارة الإتحاد الإسباني مع الشركة مالكة حقوق بث «لا ليجا»؟

تم حذف مباراة المدافع اللندنية التالية لذلك التصريح ضد مانشستر سيتي من جدول القنوات الذي تبثه هيئة البث الحكومية بالصين. وفي اليوم نفسه، أصدرت إدارة نادي أرسنال بيانًا تنفي فيه موافقتها على ما قاله.

من بعدها، تم العفو عن النادي اللندني وعادوا مرة أخرى لجداول البث الصينية، لكن بعد حذف صورة أوزيل تمامًا من المشاهد المُذاعة على أي قناة صينية. كان ذلك عقابًا على مس أحد أقوى رؤوس الأموال في أوروبا في الوقت الحالي، فمن لا يعرف قيمة عقود البث بالنسبة لإنجلترا؟

السياسة قتلت كرة القدم أم العكس؟

لن يجدي أي نفي يقدمه أرتيتا أو غيره من إداري النادي الإنجليزي حول تلك القضية، فلن يُصدق عاقل واحد أن تلك المشاكل المجتمعية والسياسية لم تكن سببًا في أن يُعزل أوزيل من الصورة الأوروبية تدريجيًا، حتى بات خبر حذفه من قائمة فريق ناديه لا يتخطى كونه نبأً عاديًا يتردد في بعض الصحف ثم تصريح هنا وهناك، وانتهى.

لكن الأكيد أن مستوى أوزيل كان قد أخذ ينخفض قبل أن تنتشر تلك القضايا السياسية الضخمة التي أقحم نفسه فيها بشكلٍ أو بآخر. والأدهى هو إصراره على عدم الرجوع عنها حتى بالرغم من تفاقم الأزمة.

ففي وقت مُكبر من الشهر الذي أُعلن فيه خروجه من قائمتي النادي، المحلية والأوروبية، دعى الألماني مرة أخرى إلى ضرورة حل النزاع العنيف الجاري بين أذربيجان وأرمينيا، وهو نزاع سياسي إقليمي إستراتيجي بحت.

لذا فإن ما قاله المدرب الإسباني يُعد أفضل وصف ممكن، لقد فشل في إعادة أوزيل مرة أخرى للملعب، وأنه فشل أن يُسيطر على لاعبه فيما يخص كرة القدم، سواء داخل الملعب أو خارجه، لكن مع ذلك، يتحمل أرتيتا جُزءًا من ذلك الفشل أكبر من الحيز الذي أعلن مسؤوليته عنه بالفعل.

المال يعلو كرة القدم والسياسة

عاد أوزيل للمشاركة بعد قضية الصين ومسلمي الإيغور في كل المباريات قبل التوقف الخاص بجائحة كورونا، لم يكن أداؤه فيها يسمح بعودته لمكانته في قلوب جماهير النادي، لكن على الأقل كان دليلًا يمكن الإمساك بطرفه حين محاولة تصديق أن القضايا السياسية لم تكن السبب في نهاية قصته في لندن.

أثناء فترة التوقف الخاص بجائحة كورونا، رفض أوزيل خفض راتبه بنسبة 12.5%، مع العلم أنه صاحب أعلى قيمة في الفريق بأكمله، بـ 350 ألف جنيه إسترليني أسبوعيًا. أكد الألماني أن سبب رفضه لم يكن رفضًا للمشاركة الاجتماعية، إنما عدم فهم للآلية التي ستخفض بها الرواتب، ولصالح من ستذهب الأموال.

ما يمكن التأكيد عليه الآن أن اللاعب التركي الأصل قد خرق عدة حواجز خلال فترة قصيرة جدًا، فمن المهم أن تشعر بقيمته كشخص مؤثر في المجتمع، لكن يظل هناك حاجز، إن تخطاه هو أو غيره، لا يمكن أن يستمر بعدها بنفس القيمة المجتمعية.

ذلك الحاجز ربما لم يكن القضية التركية باعتبارها بلده الأم، ولم يكن أرمينيا أو مسلمي الإيغور، الحاجز في إنجلترا دائمًا -وفي كرة القدم الحديثة- هو المال. كل ما سبق كانت قضايا هامشية استعان بها النادي لوضع هالة معينة حول لاعبهم الساعين للاستغناء عنه قريبًا.

فكل الأمور يُمكن تداركها، سواء كان اللاعب مدركًا لكل أبعاد القضايا التي يساندها أم لا، وسواء تمسك بمواقفه أو تراجع عنها، المهم ألا تصل الأمور إلى المال الذي يعلو السياسة وكرة القدم، وبالتأكيد فهو يعلو مسعود أوزيل.