قبل سنوات قليلة داخل أحد ميكروباصات القاهرة المكتظة، التي لا تسمح لأحد بأن يهمس بشيء لمن يجاوره دون أن يسمع البقية، دار الحوار التالي:

– تخيل من يلعب في فريق الأهلي مواليد 2000؟
* مصطفى شوبير وأحمد طارق سليمان.
– لا، هناك من هو أهم، عمر علاء مبارك وعمر أحمد أبو هشيمة.
* كرة القدم لا تعرف الوساطة، قد يكونان موهوبين بالفعل.
– وأين وهبهما الله موهبة كرة القدم، داخل حدائق آبائهما الشاسعة؟ أين وجدا منافسين ليتفهَّما إمكانياتهما ومواطن تفوقهما من الأساس. حسنًا، إن لم يكونا موهوبين، فهل تعتقد أن إدارة الأهلي ستقول لهما: «نحن لا نريدكما»؟
** تدخل أخيرًا سائق الميكروباص بعد أن تصاعدت حدة الحوار الدائر ليقول في حسم:
– فليصمت الجميع، دعونا نعود إلى بيوتنا سالمين.

انتهى الحوار دون إجابة، وإن كانت الإجابة واضحة. لكن يبقى شيء وحيد استقر في نفوس الجميع دون الإفصاح عنه، وهو أن كرة القدم لا يفترض أن يلعبها إلا الفقراء والبسطاء، هؤلاء الذين يبذلون كل ما في وسعهم لتسلق السلم الاجتماعي عن طريق كرة القدم.

دعنا ننتقل لقصة أخرى حدثت بعيدًا عن القاهرة. نحن الآن في المكسيك منتصف عام 1997، رفقة السيد «فيكتور كوينتانا» عضو الكونجرس المكسيكي. استطاع كوينتانا أن يكشف بعض الأعمال القذرة داخل بلاده، فكان مصيره الاختطاف على يد بعض القتلة المأجورين.

طرح القتلة السيد كوينتانا أرضًا وأوثقوا رباطه، وأخذوا يركلونه بعنف حتى شارف على الموت. وقبل أن يجهزوا عليه برصاصة كما كان مرتبًا وربما بفعل الإرهاق من كثرة ضرب الرجل التقطوا أنفاسهم ودار بينهم نقاش حول كرة القدم.

كان فيكتور أقرب إلى الموت من الحياة، لكنه أدلى بدلوه في نقاش كرة القدم الذي اشتعل باختلاف الآراء. استمر النقاش لساعات، ثم انتهى بشيء من الأُلفة التي سمحت للقتلة بأن يقرروا في الأخير أن يتركوا كوينتانا حيًّا ويرحلوا.

حسنًا، أرجو أن تكون تلك القصص هي الأخرى قد خلقت بيننا الأُلفة اللازمة كي نحاول أن نعبث ببعض المسلمات التي يعتقدها البعض، مثل أن كرة القدم للفقراء والبسطاء فقط. يبدو أن هذا غير صحيح، الصحيح هو أن كرة القدم للجميع لعبًا ومشاهدة.

تبدو كرة القدم أكثر سحرًا رفقة قصص الدراما دون شك. اللاعب الفقير الذي يبدأ بمداعبة كرة القدم في الأزقة الضيقة دون حذاء. يؤمن به البعض وينكره الآخرون، ثم يعاني حتى يصبح نجمًا لامعًا في سماء العالم. وتنتهي القصة نهاية سعيدة برجل موهوب ناجح يحبه الجميع.

لا أحد ينكر سحر تلك القصص وواقعية أحداثها، لكن في المقابل هناك قصص نجاح لبعض اللاعبين دون معاناة وأحداث درامية، ومن المؤكد أنها قصص تحتوي على أسرار وأحداث مثيرة ودوافع مختلفة عن قصص لاعبي كرة القدم المعتادة.

لم يتبقَّ لنا في سبيل إقناعك الآن سوى أن نتعرف على بعض تلك القصص التي تبدو ساحرة ومختلفة وبعيدة عن الفقر.

روبن فان بيرسي: الحرية أيضًا تصنع المجد

وقع «بوب فان بيرسي» في حب مُدرسة الرسم الخاصة به، منعه خجله وصغر سنه من أن يعترف بحبه لمدرسته، لكنه قرر عوضًا عن ذلك أن يحب الرسم بقية عمره.

أحب بوب العمل في الأحجار والمواد الأخرى؛ لذا قرر الذهاب إلى مدرسة الفنون في روتردام ليصبح نحاتًا محترفًا. كبر بوب وتزوج الفنانة «خوسيه راس» الرسامة ومصممة المجوهرات، وأنجبا ابنهما روبن.

في تلك الأسرة الفنية نشأ روبن، ولكنه خالف جميع التوقعات بميلاد فنان هولندي جديد. كان روبن طفلًا يكره المدرسة بشكل شديد، ولا يحب شيئًا مثل كرة القدم. انطلق روبن إلى شوارع كرالينجين أجمل بقاع روتردام ليصادق المغاربة والمهاجرين، حتى إنه كان يتكلم بلهجة مقاربة لهم، وبنفس طريقة الكلام المتقطعة.

لم يلعب روبن كرة القدم من أجل لقمة العيش أبدًا، لكنه لعبها من أجل المتعة فقط. كان يدخل المتجر مصطحبًا الكرة ليراوغ العملاء الغاضبين من الطفل الشقي. كان شقيًّا بالفعل أثناء طفولته ذا نشاط لا يتحمله أحد، حتى إنه سبَّب المتاعب لكل من حوله، حتى وجد كرة القدم والرفقاء المغاربة ليتحول كل شيء.

تم استدعاء والد روبن للمدرسة، حيث كان الطفل لا يقوم بأي من واجباته. تم لوم الأب على تصرفات الابن مع جملة صريحة: “المدرسة أهم لمستقبل الطفل من كرة القدم”. لكن السيد بوب لم يوافق على حديث إدارة المدرسة، إذا كان روبن يحب كرة القدم أكثر، فليفعل ذلك، فهو له مطلق الحرية في تحديد مصيره.

أصبح روبن فان بيرسي بالفعل لاعبًا ماتعًا. التحق بأرسنال بعد دقائق من الحديث مع فينجر؛ لأنه ببساطة شعر أن الرجل مجنون بكرة القدم مثله. صبر على عدم اللعب بعد أن تحداه فينجر بأنه متى استطاع أن يمر من سول كامبل وكولو توريه فسيشارك أساسيًّا.

راقب بيركامب وتعلم منه جيدًا ما لم يكن على علم به. حتى في رحيله إلى مانشستر لم يكن المال والبطولات من دوافعه، بل إنه وجد الأمر غير ممتع مثل بداية عهده مع أرسنال، فقرر الرحيل. هو لا يعترف بأي سجن حتى إن كان سجن الانتماء، فرحل إلى الغريم، وصنع المجد هناك أيضًا.

جيانلوكا فيالي: اصنع نفسك بنفسك مثلما فعل والدك

داخل قلعة مكونة من 60 غرفة في قلب مدينة كريمونا في شمال إيطاليا ولد جيانلوكا فيالي. لم تكن تلك القلعة عنوانًا للترف فقط كما يبدو، لكنها كانت عنوانًا للعمل الشاق والمستمر، فوالد فيالي كان مليونيرًا عصاميًّا بالفعل. بدأ صغيرًا وعمل بجد حتى صنع ثروته.

لهذا نشأ فيالي وسط تعليمات والده الصارمة، التي تهدف إلى عدم اعتبار النجاح في الحياة أمرًا مسلمًا به. أصر والد فيالي أن يصنع أبناؤه مصائرهم بعيدًا عن ثروته. وكان فيالي مصيره متعلقًا بقدميه وكرة القدم فقط.

بدأ فيالي لعب كرة القدم رفقة الفريق المحلي بيتزاجيتوني ثم فريق كريمونيسي القابع في الدرجة الثالثة للدوري الإيطالي آنذاك. تخيل نجل مليونير يلعب في صفوف الدرجة الثالثة، كان فيالي مهاجمًا صلبًا للغاية وشخصية أكثر صلابة تريد أن تثبت للجميع أنها قادرة على النجاح.

استطاع جيانلوكا أن يشق طريقه رفقة كريمونيسي للدرجة الثانية ثم الأولى حتى لفتت موهبته فريق سامبدوريا الصاعد للكالتشيو قبل عامين فقط، والبقية هي التاريخ كما يقولون.

استمر فيالي رفقة سامبدوريا لثماني سنوات، هي أفضل فترات الفريق على الإطلاق. أحرز الفريق بطولة الدوري الإيطالي وثلاث كئوس إيطالية محلية وكأس الكئوس الأوروبية، وكان البطل فيالي دون شك. انتقل بعد ذلك ليوفنتوس محققًا ألقابًا معتادة، ثم أعاد تشيلسي الإنجليزي لمنصة البطولات بعد سنوات عديدة من الغياب.

لم يلعب فيالي في أي فريق دون أن يترك أثرًا بالغًا في قلوب الجماهير. استطاع أن يصنع مصيره بيده فقط، تمامًا مثلما فعل والده.

كاكا: ليس غنيًّا كما يعتقد البعض لكنه متدين للغاية

هناك اعتقاد شائع أن كاكا من عائلة فاحشة الثراء عكس بقية لاعبي البرازيل. الحقيقة أن أسرة كاكا لم تكن فقيرة، لكنها كانت ذات وضع مادي آمن؛ مما سمح له بالتركيز داخل المدرسة وكرة القدم في نفس الوقت. فقد ولد كاكا في برازيليا لأب يعمل مهندسًا مدنيًّا وأم تعمل مُدرسة.

يعتقد الكثيرون أن كاكا ينحدر من أسرة ثرية؛ لأنه لا يبدو عليه الشقاء من جهة، ومن جهة أخرى لأنه لا يحيا حياة لاعبي كرة القدم المعتادة. ربما بسبب الفقر في الصغر يعيش لاعبو كرة القدم بعد تحقيق بعض النجاحات حياة يسيطر عليها البذخ غير المبرر، والمجون في بعض الأحيان.

حسنًا، كاكا لا يشرب الخمر، وليس له مغامرات نسائية. كما يؤكد أنه حافظ على عذريته حتى تزوج حبيبة طفولته كارولين. ما إن يسجل هدفًا حتى يرفع كعادته ذراعيه إلى السماء في امتنان. الحقيقة أن كاكا متدين للغاية.

تعرض كاكا لحادث في سن الثامنة عشرة. كان قد بدأ في الظهور باعتباره موهبة كرة القدم القادمة في البرازيل. ما حدث أنه تعرض للغرق داخل حمام للسباحة، وضُرب رأسه في قاع حوض السباحة. كُسرت إحدى فقراته، ولمح الأطباء إلى أن الإصابة قد تجعله مشلولًا. في غضون أسابيع عاد إلى أرض الملعب معافًى تمامًا. يؤمن كاكا أن كل ذلك كان بفضل عناية الله له.

قصص أخرى ناجحة بعيدًا عن الفقر

حسنًا، دعنا نتعرف على بعض قصص لاعبي كرة القدم التي لا تقترب من الفقر أبدًا.

هوجو لوريس حارس توتنهام وُلِد لأسرة غنية، فوالدته محامية ناجحة، ووالده مصرفي استثماري، وقد سمي هوجو على اسم الأديب التاريخي فيكتور هوجو. أما جيرارد بيكيه لاعب برشلونة فوالده الإسباني محامٍ ورجل أعمال وأمه مديرة مستشفى في برشلونة.

باتريك بامفورد هو أحد أقارب الملياردير «جوزيف بامفورد». درس في مدرسة نوتنغهام الثانوية وكان متفوقًا دراسيًّا بشكل ملحوظ، كما يمكنه أيضًا العزف على الكمان.

أما والد اللاعب الألماني ماريو جوتزه فهو الأستاذ الشهير «يورجن جوتزه». يعمل حاليًّا في جامعة دورتموند للتكنولوجيا، ولكنه اكتسب شهرة كونه عضوًا سابقًا في قسم علوم الكمبيوتر في جامعة ييل الأمريكية المرموقة.

حسنًا، يتبقى الآن أن أخبرك بحقيقة أخرى، ربما أثارت فضولك، لم يلعب نجلا علاء مبارك وأحمد أبو هشيمة داخل حدائق آبائهما الشاسعة، لقد تغير الزمن يا رجل، لقد تدربا على كرة القدم في أكاديمية برشلونة في مصر، ثم انتقلا معًا لناشئي الأهلي.

أما إذا كنت تتساءل لماذا لا يلعبان كرة القدم الآن، وكيف استمرا كل ذلك الوقت داخل ناشئي النادي الأهلي، فلا تتخيل أن القصص الماضية قد تشرح ذلك أبدًا. أرجوك، علينا الصمت الآن لكي نعود إلى بيوتنا سالمين، فسائق الميكروباص أكثر خبرة منا بتلك الأمور، فلنصدقه.

أما قصة السيد فيكتور كوينتانا فقد قصها الكاتب إدواردو غاليانو، الذي لو علم أننا استخدمنا قصته لنقول إن كرة القدم ليست للفقراء فقط، لربما خرج من قبره ليوجِّه لنا السباب واللعنات.