تتوالى النتائج الإيجابية المُبشِّرة بشأن لقاحات فيروس كورونا المستجد مؤخرًا، والتي تحمل بارقة أمل بشأن انفراجة قريبة لتلك الأزمة وتداعياتها التي أصابت كافة الأصعدة عالميًا. وقد جاءت البداية بإعلان روسيا عن لقاحها الذي تنتجه شركة «سبوتنيك في – Sputnik V »، إلا أن ذلك الإعلان لم يلق الزخم ذاته الذي لاقاه الإعلان الأمريكي عن لقاح شركتي «فايزر- بايو إن تك Pfizer-BioNTech »، وقد توالت بعدها الإعلانات عن نجاح التجارب السريرية للقاح شركة «موديرنا –Moderna » الأمريكية، ثم أكسفورد الإنجليزية عبر شركة «استرازينيكا- Astrazeneca»، في حين أن اللقاح الصيني الذي تنتجه شركة «صاينو_فارم – Sinopharm» لا ترغب بكين في التعجل بإصداره.

وفيما يلي، نلقي الضوء على أبرز التطورات في سباق اعتماد لقاح فيروس كورونا المستجد، ومدلولات تلك التطورات وانعكاساتها المحتملة.

الإقرار الرسمي للقاح وإشكالية التوزيع العادل

جاءت البداية في الثاني من ديسمبر/كانون الأول الحالي، حينما أعلنت بريطانيا عن اعتمادها الرسمي لاستخدام لقاح «فايزر» لتصبح الأولى عالميًا، بما يعني إمكانية البدء في إعطاء الجرعات للمواطنين البريطانيين في القريب العاجل. ومن شأن ذلك الإقرار البريطاني أن يمنح اللقاح الأمريكي المزيد من الثقة في الداخل والخارج، وأن يُسرِّع من إقرار هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) له، كما قد يعقبه إقرار المزيد من الدول للقاح ومعدلات أمان استخدامه.

ويثير الإعلان عن لقاحات الفيروس إشكالية تتعلق بالتوزيع العادل للقاح، والتي تتفاقم بالنظر إلى الفجوة المتسعة بين الاقتصادات النامية والمتقدمة ونصيب مواطني كل منهما من اللقاح. ففور البدء في إنتاج تلك اللقاحات ستذهب الحصة الأكبر لصالح مواطني الدول المتقدمة، التي عقدت بالفعل صفقات شراء استحوذت من خلالها على النسبة الأكبر من إنتاج اللقاح المرتقب.

ويتبين من الشكل المقابل الذي نشرته مجلة nature العلمية تلك الفجوة بين نصيب مواطني الدول النامية والمتقدمة من جرعات اللقاح، فدولة مثل كندا قد أمّنت بالفعل لمواطنيها حصصًا كافية من اللقاح بتعاقدها على معدل يبلغ نحو أقل من 8 جرعات/مواطن، مع إمكانية زيادة التعاقد لمعدل يقارب 9 جرعات/مواطن، في حين أن الاقتصادات الناشئة وكذلك النامية قد نجحت في تأمين معدلات محدودة من حصص اللقاح أقل من احتياجات شعوبها، فنجد أن دولة مثل المكسيك ستوفر نحو أقل من جرعة واحدة/ مواطن.

الفجوة بين نصيب مواطني الدول النامية والمتقدمة من جرعات اللقاح
الفجوة بين نصيب مواطني الدول النامية والمتقدمة من جرعات اللقاح.

ومن ثَمَّ، ستتفاقم أزمة التوزيع العادل للقاح على المدى القصير بين شعوب العالم النامي والمتقدم، بما قد يؤخر حصول الشعوب النامية على الحصص الكافية من اللقاح إلى وقت متأخر من عام 2021 أو ما بعد ذلك.

فضلاً عن أن معظم تلك الدول تعتمد على مساهمات COVAX (وهو صندوق مشترك للتوزيع العادل للقاحات COVID-19 بقيادة Gavi -ممول اللقاحات للدول منخفضة الدخل ومقرها في جنيف- ومنظمة الصحة العالمية وتحالف ابتكارات التأهب للأوبئة CEPI في أوسلو). وذلك الصندوق قد نجح في تأمين ما يقدر بنحو 700 مليون جرعة لقاح حتى الآن، ويستهدف توفير 2 مليار جرعة بحلول نهاية عام 2021، بهدف توفير التغطية لما لا يقل عن 20% من سكان تلك الدول. وانضمت أكثر من 189 دولة إلى COVAX، بما في ذلك الاقتصادات الغنية التي انضمت لدعم الحصول على اللقاح.

ومن ناحية أخرى، تبرز إشكالية تسعير اللقاح وما إذا كانت الشركات المُنتِجة ستستهدف تعزيز أرباحها أم ستعطي الأولوية للمسئولية والاعتبارات الإنسانية، إذ نجد أن شركة AstraZeneca قد تعهدت بتوفير اللقاح على أساس غير هادف للربح (طوال مدة الوباء) وإلى الأبد، خاصةً للدول المنخفضة والمتوسطة الدخل، في حين أن الشركات الأخرى لم تقدم مثل تلك الالتزامات.

وحتى داخل الدول، يتنامى الجدل حول التوزيع العادل وأولوية الحصول على اللقاح، فقد أعلنت بعض الدول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهم عن أن الأولوية لكبار السن وذوي الأمراض الأكثر خطورة وكذلك العاملين بالمجال الطبي لأنهم الأكثر عرضة لخطر الإصابة بالفيروس، كما أعلنت الولايات المتحدة أنها بصدد توفير اللقاح بالمجان لكافة المواطنين فور اعتماده.

محددات تحسم المفاضلة بين اللقاحات

تتسابق الشركات التي أعلنت عن نجاح تجاربها المتعلقة بفعالية لقاح فيروس كورونا المستجد من أجل الاعتماد الرسمي للقاحها على العديد من المستويات، إلا أن ثمة عدد من العوامل والمحددات قد تؤثر على ذلك السباق بين منتجي اللقاحات، وهو ما نشير إليه فيما يلي:

1. القدرات الإنتاجية

إذ تتباين القدرات الإنتاجية للشركات بالمقارنة بمعدلات الطلب على لقاحها، وهو ما يتبين من الشكل التالي المنشور في مجلة nature، إذ يتضح تنامي القدرة الإنتاجية للقاح أوكسفورد – أسترازينيكا بالإضافة لتنامي الطلب عليه، وتليها شركة فايزر بايو إن تك، ثم موديرنا، وأخيرًا اللقاح الروسي. في حين لا تزال القدرات الإنتاجية غير معلومة لشركات اللقاح التي لا تزال قيد الدراسة دون الإعلان عن النتائج النهائية، مثل اللقاح الصيني لشركة صاينو-فارم.

إلا أن الفجوة بين معدلات الطلب والقدرات الإنتاجية قد تتسبب في تفاقم إشكالية الحصول على اللقاح كما سبق الإشارة لها. إذ أن الطلب يستحوذ على الكميات المتوقع إنتاجها في عام 2021.

ويعكس ذلك تباينًا في قدرات شركات الإنتاج، وكذلك درجة الثقة والإقبال على لقاح كل منهم.

القدرات الإنتاجية للشركات التي تنتج لقاحات كورونا بالمقارنة بمعدلات الطلب عليها.
القدرات الإنتاجية للشركات التي تنتج لقاحات كورونا بالمقارنة بمعدلات الطلب عليها.

2. السعر

تختلف أسعار اللقاحات أيضًا، إذ أشارت شركة أسترازينيكا إلى أنها ستوفر لقاحها بحوالي 3-4 دولار أمريكي/جرعة، وهو أرخص بنحو 5: 10 مرات عن مثيليه في شركتي فايزر (المُقدر سعره بحوالي 20 دولار أمريكي/جرعة) ومودرنا (المُقدر سعر لقاحها بحوالي 32-37 دولار أمريكي/جرعة).

وهو الأمر الذي يعطي للأول ميزة تنافسية، إلا أنه يثير كذلك المخاوف بشأن فعالية اللقاح وعدد الجرعات الكافية منه والمدى الزمني للوقاية الذي توفره، إذ يرى البعض أن انخفاض السعر يعني انخفاض جودة وفعالية اللقاح.

3. الأبعاد اللوجستية للنقل والتخزين

ثمة بعض الاعتبارات التي تتعلق بظروف النقل والتخزين والتي قد تجعل من الصعب على بعض الدول الحصول على اللقاح، إذ إن لقاح شركة فايرز يتسم بصعوبة ظروف النقل والتخزين حيث يتطلب درجة حرارة -94 فهرنهايت لنقله، كما يمكن الاحتفاظ به في الثلاجات العادية لمدة 5 أيام فقط، في حين أن لقاح موديرنا يتطلب شروط تخزينية أقل صعوبة، إذ يمكن نقله في درجة حرارة تتراوح بين 36: 46 فهرنهايت في الثلاجات العادية لمدة تصل إلى 30 يومًا، كما يمكن الاحتفاظ به لنحو 6 أشهر في درجة حرارة -4 فهرنهايت.

أما عن لقاح أسترازينيكا فهو الأكثر ملاءمة للدول النامية وللمناطق النائية، حيث يمكن نقله وتخزينه لمدة تصل لنحو 6 أشهر في الثلاجات العادية في درجة حرارة تصل لنحو 36: 46 فهرنهايت.

4. مستوى الفعالية والثقة العامة في اللقاح

ويتوقف ذلك على معدلات الفعالية التي خلصت لها الاختبارات المتعلقة بكل لقاح، إذ أثبت لقاح موديرنا معدل فعالية يتجاوز 94% في مواجهة الفيروس، بينما أثبت لقاح فايزر معدلات فعالية تتجاوز 90% في مواجهة الفيروس. إلا أن لقاح أسترازينيكا يثير بعض الجدل بشأن معدلات الفعالية، والتي تتراوح بين 70%: 90% في مواجهة الفيروس.

ومن ناحية أخرى، لا يزال البعض يتخوف من الحصول على اللقاح، إذ لا تزال حالة الثقة العامة في اللقاحات محدودة، وهو ما دفع فيسبوك لتبني حملات للترويج للحصول على اللقاح داخل الأوساط الأمريكية، كما دفع بعض الشخصيات العامة -مثل الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما- إلى الإعلان عن اعتزامها تلقي اللقاح فور اعتماده.

ملاحظات ختامية

قبيل الاعتماد الرسمي للقاح، حرصت بعض القوى الكبرى على استغلال إنتاجها وتوزيعها للقاح دبلوماسيًا وسياسيًا، وقد تجلى ذلك بالأساس فيما تقوم به الصين، إذ حرصت على إجراء التجارب السريرية لتطوير اللقاحات بالتعاون مع الدول النامية، وتعهدت الصين بمنح الأولوية لشعوب تلك الدول في توزيع اللقاح.

ومن ناحية أخرى، حرص قادة مجموعة العشرين خلال القمة المنعقدة مؤخرًا بالرياض، على تأكيدهم على ضمان التوزيع العادل للقاح بأسعار معقولة وعادلة للجميع، وحشد الموارد اللازمة لدعم تمويل وتطوير وتصنيع وتوزيع اللقاحات.

وإجمالًا، يمثل الاعتماد البريطاني الرسمي للقاح فايزر دفعة قوية لعملية اعتماد اللقاحات، إلا أنه بسبب سرعة تحور ذلك الفيروس فإن فعالية اللقاحات في القضاء تمامًا على الفيروس ومنع انتقاله لا يزال أمرًا غير مضمون التحقق على المدى القصير. كما أن العديد من الأشخاص يتشككون في تلك اللقاحات ويتخوفون من الحصول عليها.

ومن ثَمَّ، فمن غير المتوقع أن تنتهي تلك الأزمة في المدى القصير، فقد تستمر التغييرات في أنماط الحياة المصاحبة للإجراءات الوقائية، لحين تتشكل مناعة كاملة ضد ذلك الفيروس.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.