عشنا خلال الأشهر القليلة الماضية جملة من المواقف المشبوهة التي صدمت الناس كأنها كابوس مخيف، ثم توالت المفاجآت التي جعلتنا نترحم على زمن «التطبيع الخجول» الذي لم يكن يتجاوز التعاون في زراعة الكنتالوب والخوخ والمبيدات الحشرية.

حالة من اللهث وراء كيان غاصب اتفق فضلاء العالم وفسَّاقه على أنه كيان مجرم محتل، وكان آخر هذه الإقرارات الدولية هو قبول محكمة الجنايات الدولية مطلبًا بفتح التحقيق في جرائم ضد الإنسانية بالأراضي الفلسطينية.

إنهم لا يحدثونك عن تقارب بين الشعوب أو تبادل للسفراء أو تطبيع على مستوى الخضر والفاكهة، ولكن هؤلاء الأعراب محدثي النعمة يحدثونك عن إصلاح الإسلام أو إعادة تشكيله (Islam reformation). والكلمة ليست ترجمة لمقال أو تصريح كتبه المسئول الإماراتي بالعربية يتحدث فيه عن سلوكيات المسلمين مثلًا، ثم ترجمته الصحافة الدولية فجعلت الكلام ينصبُّ على الإسلام بدل المسلمين. كلا، فنص الكلام يتحدث عن إعادة تشكيل الإسلام ليتصالح مع اليهود ولينبذ عداوتهم (وكأن ديننا يحض فعلًا على الكراهية والقتل)، وهو ما ذكَّرني بالحقيقة المخجلة، وهي أن دولتين خليجيتين تقفان بأموالهما كأكبر الممولين لحملات الإسلاموفوبيا في أمريكا، والتي تحاول تشكيل العقل الأمريكي وتدفع باتجاه مزيد من القرارات المعادية للقضية الفلسطينية خصوصًا، وقضايا المسلمين عمومًا.

لا تتعجب يا صديقي فالأمر أعمق من ذلك، لقد اكتشف صناع القرار في تلك الدول كم التشابه العجيب بينهم وبين إسرائيل، فبعيدًا عن كونها عدوًّا لعدوهم اللدود من الإسلاميين، فإنهم جميعًا يشتركون في جملة من الصفات التي تجعل مصيرهم مشتركًا وعدوهم واحدًا، مما يحتم عليهم التعاون المثمر فيما يتفقون فيه وإغضاء الطرف عما يختلفون عليه.

إنها جميعًا دول قامت على المفهوم القومي والعرقي الضيق، ولذلك فإن مبرر بقائها لن يكون رفع سقف الحريات أو منح الحقوق لغير المنتمين إليها.

إنها جميعًا دول قامت على المفهوم القومي والعرقي الضيق، ولذلك فإن مبرر بقائها لن يكون رفع سقف الحريات أو منح الحقوق لغير المنتمين إليها، فعرقك ونسبك وانتماؤك الذي تحدد سلفًا على أساس بيولوجي لا دخل لك فيه، هو الذي يحدد مدى انتمائك لهذه النوعية من الدول، فكما أن الكيان الصهيوني قام على أساس جمع شتات اليهود من المنتمين لهذه الديانة بالطريق البيولوجي من جهة الأم، فإن دولًا خليجية لا تزال تحصر إثبات الانتماء القومي من جهة النسب فقط، ولكنه من طريق الأب. فيجب أن يكون الوالد منتميًا لهذا البلد ليحصل الأبناء على الجنسية وحقوق المواطنة. فحتى هؤلاء الخليجيات اللاتي تزوجن من خارج هذا الانتماء الضيق فلن يحصل أبناؤهن على الجنسية وإن طال الزمن، وإن عمل أولادها في خدمة البلاد ودفعوا ضرائبها وشاركوا في نهضتها سنين عددًا.

كثير من العرب والمسلمين الذين أفنوا حياتهم وأعمارهم في خدمة هذه البلاد، بل ربما كان لبعضهم دور استثنائي في نهضتها، لا يزالون يفكرون في مرحلة ما بعد سن التقاعد، وهل سيُسمح لهم بتجديد الإقامات والكفالات، في حين أن نظراءهم من المسلمين والعرب ممن قرروا الذهاب لبلاد الكفر والعمل هناك كسائقي أجرة قد حصلوا بالفعل هم وأولادهم وأحفادهم على جنسية تلك الدول، بل لعل بعضهم يخطط الآن لخوض انتخابات البلدية أو المجالس التشريعية في منطقته.

إن هناك أزمة يعيشها أولئك (البدون) أو فاقدو الجنسيات ممن لم يعد لهم صلة رسمية ببلدانهم الأصلية، في حين أنهم بعد كل هذه السنوات المتطاولة لا يحملون أوراقًا تسمح لهم بحرية التملك والعمل والمساواة مع ذلك المواطن المحظوظ «ابن المحظوظ».

ألا يذكرك هذا بالكيان الغاصب الذي أقام دولة قومية على أساس عرقي وديني، والذي يتصرف بالطريقة نفسها مع بلد احتل أرضه واستباح مقدراته ووضع شعبه في سجن كبير لينعم مواطنو هذه الدولة بنمط حياة مترف في مستوطناتهم، ألم تسمع بالعمالة الأفريقية التي تهان وتنتهك حقوقها في إسرائيل لأنهم أيضًا لا يحملون جنسية هذا البلد؟ ألم تسمع بأولئك اليهود السود الذين ينتفضون بين الحين والآخر معلنين رفضهم لهذا التمييز العنصري المقيت في دولة الاحتلال؟

أعجب من كل هذا أن يقف مشايخ السلطان ليحدثوك بعد كل هذا عن أدلة من القرآن والسنة حول حب الأوطان وتعميق الانتماء وترسيخ الولاء لهذا التراب الوطني (الدولة القومية) الذي رسمت حدوده معاهدة سايكس بيكو وتوابعها.

ليتهم يحدثونك عن حرمة تسخير العمالة الرخيصة من دول جنوب شرق آسيا ومن أفريقيا واستغلال فقرهم واحتجاز جوازات سفرهم ليعملوا في ظروف قاسية، وليبنوا أعلى الأبراج وأكبر المولات، وليحققوا نبوءة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين حدثنا عن أشراط الساعة فقال: وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ.

إن الأنظمة لا تطمئن إلا إلى مَن يشبهها، والدول القومية عادة ما تحب التعامل مع من ينتهج سياستها نفسها ولعل هذا يفسر لك حجم التعاون الكبير بينهم وبين أي نظام قمعي أو عسكري حول العالم.

إن الأنظمة لا تطمئن إلا إلى مَن يشبهها، والدول القومية عادة ما تحب التعامل مع من ينتهج سياستها نفسها ولعل هذا يفسر لك حجم التعاون الكبير بينهم وبين أي نظام قمعي أو عسكري حول العالم. وهو أيضًا ما يفسر لك سكوت هذه الدول عن جرائم الصين بحق المسلمين الإيجور، فقد أعلنت 7 دول عربية في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تأييدهم وإشادتهم بما وصفوه (إنجازات الصين الملحوظة في مجال حقوق الإنسان!) وهذه الدول السبع هي: السعودية وسوريا وسلطنة عمان والكويت وقطر والإمارات والبحرين. وقد تراجعت قطر عن توقيعها على ذلك الإعلان بعد أن اكتشفت فيما يبدو أنها تقف مع أعدائها الأقربين في خندق واحد.

وحينما تعجب الناس لذلك لم يتأخر الرد كثيرًا: فقد نشر الشيخ وسيم يوسف وهو خطيب مسجد الشيخ زايد في الإمارات مقطع فيديو يتحدث عن جماعات إرهابية داعشية تفجر وتقتل في مناطق الإيجور، ولذلك وبنفس منطقهم فإنه يحق للصين أن تؤدب شعبًا بأسره، وأن تصوغ له فكره وعقله في معسكرات اعتقال نازية (وما المشكلة في ذلك؟ حاكم يؤدب شعبه!) فهل يعقل أن أستعبد العمالة الوافدة في بلدي ثم أحرم ذلك على غيري.

في إحدى جلسات السمر هنا في أمريكا جاءنا ضيف زائر من دولة خليجية يفكر في استثمار فائض من أمواله، وبعد الحديث عن مجالات الاستثمار المختلفة فاجأني الرجل بسؤال: كيف تكون تكلفة الأجور والأيدي العاملة مرتفعة هنا لهذا الحد المخيف؟! «ما عندكم بنجالة؟» قلت له: «بلى، عندنا إخوة كرام من البنغاليين الذين أكرمهم الله بالهروب من سجنكم الكبير، وهم يحملون جنسية هذه الدولة غير العربية وغير المسلمة، وبالتالي فلا حاجة لهم بك».

ليس لهذا التسارع المحموم في التواصل مع الصهاينة عندي تحليل آخر له سوى تلك الحقيقة الصادمة، وهي أن دول مجلس التعاون وخصوصًا الإمارات لا يضيعون وقتهم ولا يحتاجون عقودًا مثل مصر لتغيير المزاج العام، فقط يكفيهم توجه من الدولة، وكل ما سوى ذلك يسير، فهذه الدول الوليدة لم تخض حروبًا بعد، ولم يتشكل في وجدانها مفهوم الكفاح لتحرير الأوطان وصد العدوان والثأر للشهداء، فتاريخهم العسكري هو غارات الكر والفر والسلب التي تحفل بها ذاكرتهم الجمعية القبلية.

إن كلامًا عن «حق الصين في تربية شعبها حتى لا يخرج منه إرهابيون» هو تعزيز لمفهوم الدولة القومية التي يمثل النموذج النازي قمة نضجها برفعه شعاره المعروف عن تفوق الجنس الآري، وأن: ألمانيا فوق كل شيء. الدولة القومية هو مفهوم تتبناه الصين وروسيا والهند مؤخرًا بقانونها المثير للجدل عن الجنسية، وكما ترى فإن الحكام العرب يسارعون في هوى تلك الكيانات العملاقة، ويرون الحاكم المسلم هو من يقمع ثورات شعبه ويدفعهم للاندماج داخل تلك الكيانات وعدم الاستقلال عنها، وحبذا لو كان صوفيًّا أشعريًّا متدينًّا، فتلك صفات تليق بحاكم مسلم يجمع مشايخ تلك الدول في مؤتمر لأهل السنة والجماعة برعاية الدب الروسي المحب للإسلام الحريص على مصلحة المسلمين ووحدتهم.

لا داعي إذن لإضاعة الوقت، فالتقارب حتمي لأن المصير واحد وفلسفة الحكم وأدواته واحدة؛ حقًّا إن ما يجمع هذه الدول القومية في الحقيقة هو أعظم بكثير مما نتصور.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.