أدت إصلاحات الزعيم الصيني «دنج شياو بينج» في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات إلى تحسن كبير على مستوى التنمية والاقتصاد، أصبحت بكين على إثرها واحدة من أكبر المساهمين في السوق العالمية، لكن هذا النمو لم يخلُ من جوانب مُظلمة راح ضحيتها فئات مختلفة من الشعب الصيني وجاء في مقدمتها العمال، فقد اعتبرتهم الشيوعية أداة رئيسية لتحقيق التنمية الاقتصادية انطلاقًا من مبدأ الإصلاح من خلال العمل. وبقدر ما ساهم هذا في تحقيق التنمية، بقدر ما ساهم في هضم حقوق هؤلاء العمال منذ بدء مسيرة الإصلاح وإلى يومنا هذا.

الجانب المُظلم للعمل في الصين

شأنها شأن غيرها من الدول، تمتلك الصين منظومة قانونية تُحدد حقوق والتزامات أصحاب العمل والموظفين. حددت المنظومة ساعات العمل بـ8 ساعات يوميًا و40 ساعة أسبوعيًا. ألزمت صاحب العمل بإبرام عقد عمل مع الموظفين، ودفع مقابل مادي يصل إلى 150% من أجر الموظف نظير ساعات العمل الإضافية، والتي يجب ألا تتجاوز بأي حال من الأحوال الـ 3 ساعات يوميًا أو الـ 36 ساعة شهريًا.

منحت هذه المنظومة العمال والموظفين مجموعة واسعة من الحقوق ومستوى معقولاً من الحماية القانونية. لكن على أرض الواقع، لم يكن الأمر بتلك المثالية. تفنن أصحاب العمل في ابتكار الآليات التي تتحايل على هذه الحقوق، عمدوا إلى التعامل مع الموظفين والعمال دون عقود وأوراق رسمية بنظام العمل مقابل الأجر الذي حرمهم حقوقهم الاجتماعية، لم يلتزموا بساعات العمل المحددة رسميًا، ولم يدفعوا مقابلاً عن الساعات الإضافية.

رغم التجاهل والتكتم الُمتعمد من قبل الحكومة وأصحاب العمل على هذا الوضع، لكنه ليس سرًا أو أمرًا غير معروف، إذ تحدثت عنه الكثير من التقارير والتحقيقات والتي كان أشهرها تحقيقات منظمة تشاينا لابور واتش China Labor Watch وهي منظمة أمريكية معنية بالدفاع عن حقوق العمال.

 أكدت المنظمة أن ساعات العمل تراوحت بين 11 و13 ساعة، حتى أن كثيرًا من العمال ينامون في المصانع لحين انتهاء العمل وإصدار المنتج الجديد، كما أنهم لا يتقاضون أجرًا مرة ونصف مقابل هذه الساعات كما نص قانون العمل.

أما العمال من المناطق البعيدة الذين يعيشون بمساكن تابعة للمصانع، فلم تتوقف معاناتهم عند ساعات العمل الطويلة والقاسية، بل تضاعفت مع عدم السماح لهم بزيارة أسرهم إلا مرة واحدة في العام، وتلك المساكن القذرة والمزدحمة التي عادة ما يصل عدد الأشخاص بالغرفة الواحدة منها إلى 8 وأحيانًا 24 شخصًا يتقاسمون مرافق غير صحية بالمرة، وفي حالات أخرى لا يجدون تلك المرافق فيضطرون للتوجه إلى المراحيض العامة.

لم تكن تلك التأكيدات نتيجة التحقيق في مصنع أو شركة واحدة بل هو الحال في مختلف المصانع التي تمكنت المنظمة من دخولها. ففي مصانع الألعاب التي تصنع ألعابًا مثل باربي وهوت ويلز، والتي تبيعها شركات كبرى من أمثال ديزني وماتل وول مارت، يبلغ متوسط ساعات العمل 11 ساعة يوميًا، وأكثر من 50 ساعة إضافية في الشهر. ويصل المعدل ببعض المصانع إلى 130 ساعة في الشهر. في هذه المصانع أيضًا، يعيش العمال حياة كاملة داخل المصنع فيأكلون ويشربون وينامون بمناطق غير آدمية يضم بعضها أسلاكًا كهربائية مكشوفة.

وفي شركة فوكسكون تكنولوجي جروب، وهي إحدى كبرى الشركات المتخصصة في صناعة الإلكترونيات، التي تنتج آيفون وآي باد وإكس بوكس وبلاك بيري وغيرها الكثير، تصل ساعات العمل الإضافية إلى 100 ساعة بالشهر، أي ثلاثة أضعاف الساعات المسموح بها قانونيًا. ولا يتقاضى العمال مقابلاً عن هذه الساعات، بل تدعي الشركة أنه يتم طوعًا. وعند سؤال العمال عن ساعات العمل الطويلة والأجور المنخفضة، لا يتمكنون من قول الحقيقة، حيث يتعرضون للتهديد بالطرد؛ أما من يرغب بالاستقالة منهم فيتم تهديده بعدم دفع مستحقاته المالية وحرمانه من أي حقوق له.

أدت ظروف العمل القاسية واتباع الشركات نظام الغرامات المرهقة وطرق التعامل المُذلة بحق عمالها، فضلًا عن وعودها الكاذبة بشأن الترقيات وزيادة الأجور إلى انتشار الاكتئاب بين العمال وسيطرة شعور بالقلق من فقدان عملهم وتجويع أسرهم ما دفع العديد منهم إلى التخلص من هذا القلق وإنهاء حياته بالانتحار، إذ ألقى 18 عاملاً بأنفسهم من أعلى مباني فوكسكون. وبدلًا من أن تعمل الشركة على إنهاء المعاملة المُهينة وسياسات العمل المجحفة التي دفعت لعمليات الانتحار هذه، قامت بتركيب شبكات أمان وحواجز كبيرة خارج مبانيها لمنع العمال من القفز .

الحكومة تتواطأ مع المستثمر

رغم أن الشركات التي تدير هذه المصانع يمكنها تحقيق مطالب العمال بتخفيض ساعات العمل ورفع الأجور والمعاملة الإنسانية، دون أن يتسبب ذلك في تكبدها خسائر مالية، إلا أنها اختارت عدم الاستجابة وتحقيق مزيد من الأرباح، بل وعمد الكثير منها إلى الاستقطاع من الأموال المخصصة للتأمين الاجتماعي للعمال وإجبارهم على التخلي عن حقهم في الحصول على تلك التأمينات.

وبدلًا من أن تعمل الحكومة على مواجهة تلك السياسات، تواطأت مع المستثمرين لجذب مزيد من الاستثمارات على حساب العمال عبر التجاهل تارة، والخروج بتصريحات تلقي اللوم عليهم تارة أخرى، لكن دون أن يصاحب هذه التصريحات أي إجراءات فعلية لمنع هذه الانتهاكات.

في كثير من الأحيان كانت الحكومة السبب الرئيس في قمع أي احتجاجات قام بها العمال للمطالبة بحقوقهم. ظهر ذلك بوضوح عام 2016، حينما أصدرت حكمًا بالسجن 8 أشهر على 8 عمال لمجرد احتجاجهم على انخفاض الأجور، حيث وجهت إليهم تهمة عرقلة النظام الاجتماعي والإداري.

كذلك، حجمت الحكومة من قدرة الحركات العمالية على التحرك بحرية عبر عدم الاعتراف بأي نقابات أو اتحادات يكونها العمال للمطالبة بحقوقهم. فالاتحاد النقابي الوحيد المعترف به من قبل الحزب الشيوعي الصيني هو اتحاد عموم الصين لنقابات العمال (ACFTU)، وهو بالطبع يعمل وفقًا لتوجهات الحكومة وليس مصالح العمال.

كان هذا الاتحاد والتواطؤ الحكومي أحد الأسباب الرئيسية لعدم تمكن العمال أصحاب الأجور المنخفضة من الحصول على دخل لائق يسد الفجوة بينهم وبين الطبقة الوسطى. فالاحتجاجات المتكررة للعمال على مدى العقد الماضي أثبتت أنهم يمتلكون القدرة على التنظيم لشن الإضرابات، لكن ما لا يمتلكونه هو تلك النقابة التي يمكن أن تمثلهم في المفاوضة الجماعية مع أرباب العمل.

حتى الموظفين لم يسلموا

إذا كانت هذه أوضاع وظروف العمل المجحفة بحق العمال داخل المصانع، فالموظفون بالشركات لم يكونوا أفضل حالًا، إذ تعرضوا هم الآخرين لضغوط شديدة وعقوبات مُذلة خرج بعضها إلى العلن فيما توارى الكثير منها.

فسعيًا وراء الأرباح وتحقيق التارجت، تفننت الشركات الصينية في ابتكار آليات العقاب الغريبة والمهينة والمُقززة. تنوعت هذه الآليات بين إجبار الموظفين على الزحف على الأرض وسط الشوارع المزدحمة بالمارة والسيارات، والسير بالسراويل الداخلية فقط في خط مستقيم، والمشي 180 ألف خطوة على الأقل شهريًا بما يمثل 6 آلاف خطوة على الأقل في اليوم، خارج ساعات العمل، مع الخصم من الراتب مقابل أي نقص في عدد الخطوات.

اتبعت بعض الشركات أسلوب الضرب المُهين، إذ أقدمت شركة عقارية على إيقاف موظفيها الذين لم يحققوا التارجت في خط مستقيم وكانوا 6 رجال، وقامت موظفة أخرى بصفعهم أمام بقية موظفي الشركة ليكونوا عبرة لهم.

حينما ظهر المقطع على شبكة الإنترنت زعمت الشركة أن موظفيها تطوعوا للعقاب من تلقاء أنفسهم ولم يجبرهم أحد، لكن هذا لم يكن المشهد الوحيد، حيث ظهر مشهد آخر يقوم به الموظفون بالزحف حول مديرهم مقلدين الكلاب، ومشهد ثالث قامت به الموظفات بإحدى شركات مستحضرات التجميل بصفع بعضهن البعض أمام بقية الموظفين.

إلى جانب هذه العقوبات المُذلة، اعتمدت شركات أخرى على العقوبات الغريبة من قبيل إجبار موظفيها على ارتداء سماعات رأس تتعقب أفكارهم وتراقب حالة اليقظة والإنتاج لديهم، وذلك بتركيب جهاز قراءة العقل الذي يعرف باسم تخطيط كهربية الدماغ (EEG) على رأس الموظف، لتتبع الإشارات الكهربائية التي ينتجها الدماغ.

ولجأت بعض الشركات إلى اتباع أسلوب العقوبات المقززة، فأجبرت موظفيها على شرب البول وتناول الصراصير والديدان، إذ قام مدير إحدى الشركات في هانتشونغ بجمع أكثر من 40 موظفًا في ميدان عام، وقرأ أسماء الموظفين الذين فشلوا في تحقيق التارجت، ثم أخرج حقيبة كبيرة مملوءة بالديدان، وأجبرهم على تناولها. وعلى المسار ذاته، أجبر مدير آخر موظفيه على شرب الماء من المرحاض كعقوبة لعدم جديتهم في تحقيق الأهداف المطلوبة منهم في العمل.

في ظل هذه الأوضاع، يبدو أنه لا يوجد حد للعقوبات التي ستتجه إليها بعض الشركات الصينية لإجبار موظفيها على الخضوع لها باسم روح الشركة وتحقيق أهداف المبيعات.