بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، واتفقوا على أن يتولى «سعد بن عبادة» زعيم الخزرج أمر المسلمين في المدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان المهاجرون في هذا الوقت قد اجتمعوا في المسجد ينتظرون تجهيز النبي (صلى الله عليه وسلم) للدفن، حتى جاء رجل يخبرهم أن الأنصار قد اجتمعوا لاختيار الخليفة.

فتحرك الصديق أبو بكر والفاروق عمر بن الخطاب، ولقيا في الطريق أمين الأمة أبو عبيدة بن الجراح فاصطحباه حتى أتوا إلى السقيفة التي اجتمع فيها الأنصار مع سعد بن عبادة، فجلس أبو بكر وعمر وأبو عبيدة مع القوم يشاورونهم في أمر اختيار الخليفة، حتى قام خطيب الأنصار فأثنى على الله بما هو أهله، ثم بدأ يعدد مناقب وفضائل الأنصار، حتى انتهى من كلامه.

فأراد سيدنا عمر أن يتكلم فأسكته أبو بكر وتكلم هو. حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم جعل يذكر مناقب الأنصار وفضائلهم حتى لم يترك آية في كتاب الله، أو حديثًا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضائل الأنصار إلا وذكره، ثم قال:

وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو سلك الناس واديًا، وسلك الأنصار واديًا لسلك وادي الأنصار، وما ذكرتم من خير فأنتم أهله، وإنا والله يا معشر الأنصار ما ننكر فضلكم ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا، ولكن العرب لا تعرف هذا الأمر [الرياسة والقيادة] إلا لهذا الحي من قريش، وهم أوسط العرب دارًا وأنسابًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم. ثم أخذ بيد عمر ابن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بينهما، يقول عمر بن الخطاب: فلم أكره مما قال غيرها، والله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من أثم أحب إليّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.

بذلك ظهر أن هناك انقسام في الرأي بين الحاضرين. فالأنصار كادوا قبل قليل يحسمون أمر البيعة لسعد بن عبادة قبل أن يحضر أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، ثم الآن عندنا رأي المهاجرين الذي أعلنه أبو بكر بأن يتولى الخلافة واحد من المهاجرين، فهل كان هذا حرصًا منهم على الدنيا والسيادة فيها، أم كان لكل وجهة نظر من هاتين حجة وبرهان تعتمد عليه؟

إن القائلين بأن الخليفة يجب أن يكون من الأنصار يعتمدون على معنى بسيط ظاهر هو أن المهاجرين في المدينة ليسوا من أهل البلد الأصلين بل هم ضيوف أتوا من مكة إلى المدينة كلاجئين فارين بدينهم فاستقبلهم الأنصار خير استقبال وأكرموهم ووقروهم لكن عند اختيار حاكم للمدينة وما يتبعها من البلاد فليس من الطبيعي أن يكون هذا الحاكم من الضيوف اللاجئين.

ثم إن هؤلاء الضيوف -المهاجرين- كانوا أقل عددا في الغزوات التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان الأنصار في بدر مثلا 231 بينما كان المهاجرون 82 فالأنصار أكثر عددا وهم أهل البلاد وهذه أرضهم وحياتهم، ثم إن المهاجرين قد يعودون إلى بلدهم الأصلي – مكة – في أي وقت مما يجعل فكرة اختيار الخليفة من المهاجرين أمرا مستبعدا، وبالتالي فاجتماع الأنصار منفردين لاختيار الخليفة أمر لا غرابة فيه فهم أهل البلد ومن حقهم اختيار من يحكمهم.

ولكن لما حضر سيدنا أبو بكر وعمر وأبو عبيده ظهرت وجهة نظر أخرى تحتاج إلى التأمل وهي أن القبائل العربية لن تذعن وتقتنع وترضى أن تكون تحت سلطة أي قبيلة أخرى غير قريش لعدة أسباب أهمها أن العرب أصلا تصعب عليهم فكرة الانضواء تحت لواء واحد يجمعهم جميعًا، فإن كان لابد من هذا الأمر وهو توحدهم تحت راية واحدة فلن تكون هناك راية مناسبة غير راية قريش، لما لقريش من مكانة دينية في قلوب العرب قبل الإسلام، بسبب خدمتهم للبيت الحرام ورعايتهم للحجيج وغير ذلك.

فالأمر ليس على سبيل التعصب لقبيلة بعينها، بل فهم لطبيعة الوضع القائم وبحثًا عن مصلحة الإسلام والمسلمين. وما يطرحه سيدنا أبو بكر أمر مهم يستحق من الأنصار أن يفكروا فيه. هنا ظهر اقتراح ثالث بحثًا عن المساحة المشتركة بين الفكرتين. فقال الحباب بن المنذر رضي الله عنه:

«منا أمير ومنكم أمير» أي أنه يقصد أن يكون الحكم مقسومًا بين رجلين أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار، والغرض من ذلك أن نجمع بين المميزات المختلفة التي يتميز بها كل رأي من الرأيين السابقين.

وهنا قد يقول قائل:

إذا كانت فكرة المهاجرين تبدوا مقنعة بالنسبة للأنصار بدليل أنهم تنازلوا عن رأيهم الأول المتعلق بإسناد الأمر كله إلى سعد بن عبادة إلى حل وسط جديد، هو أن يتولى الأمر رجل من المهاجرين، وآخر من الأنصار مشاركة، فلماذا لا يتنازلون عن الأمر بالكلية ويتركونه للمهاجرين إذا كانوا يعرفون أن العرب فعلًا لن يسمعوا ويطيعوا إلا لرجل قرشي؟ ولماذا هذا الإصرار على وجود أمير من الأنصار؟ هذا ما يوضحه الحُباب في باقي الجملة فيقول : «والله ما ننفس عليكم هذا الأمر ولكنا نخاف أن يليها أقوام قتلنا آبائهم وإخوتهم».

يشير هنا إلى أن الأنصار كانوا هم الأكثر عددًا في الغزوات المختلفة، وقد قتلوا عددًا كبيرًا من القرشيين في هذه الغزوات. فهم يخافون إذا تولى أحد المهاجرين الحكم أن يثأر بشكلٍ مباشر أو غير مباشر لمقتل قومه القرشيين.

نعم جاء الإسلام فجعل أخوة الدين مقدمة على أخوة النسب، لكن النفس البشرية لها تقلبات تجب مراعاتها عند التفكير في الأمور بقدر من الاتزان والتعقل. وعليه فقد قرر الأنصار أن يختاروا الخليفة من بينهم لهذه الأسباب؛ أنهم أهل البلد الأصلين، وعادة العرب أن كل قبيلة وإن صغرت لا يتولى أمرها إلا واحد من أبناءها.

ثم إن المهاجرين قد يرجعون إلا بلدهم مكة بعدما فُتحت ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما لم يعد هناك داع عند كثير منهم للبقاء في المدينة، وأخيرًا رعاية للجانب النفسي البشري وخوفًا من تجدد ثارات قديمة في نفوس بعض الناس إذا حدث ما يستدعي تجددها.

هنا قال عمر بن الخطاب معترضا على هذا الرأي:

لا يصلح سيفان في غمد واحد، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين.

وتطور الحوار بين الحاضرين في السقيفة حتى استقر أمرهم أخيرًا على اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه خليفة للمسلمين، واستدل أبو بكر بأدلة نقلية وعقلية على صدق حجة المهاجرين وقوة أدلتهم، واتفق الناس على أن الخليفة من قريش.

بادر عمر بن الخطاب فبايع أبا بكر الصديق بالخلافة، فتتابع الحضور مبايعين وحسم الخلاف بذلك، وتمت البيعة الأولى بمن حضر، ثم كانت البيعة العامة بعد ذلك في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من بايع أميرًا عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له».

وهنا نتساءل: ما هي الشروط والمعايير التي يجب توفرها في الخليفة حتى يكون شرعيًا؟ وهل العبرة هي رضا الناس فقط، أم أن هناك شروطًا أخرى؟ وما هي هذه الشروط؟ وكيف نعرف هذه الشروط؟

هذا ما نحاول الإجابة عنه في اللقاء المقبل إن شاء الله تعالى… وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.