يميل البشر بوجه عام إلى التقارب والتلامس الجسدي مثل التقبيل والعناق، خاصةً عند لقاءاتنا اليومية ببعضنا البعض، ولكن جاءت جائحة كورونا لكي تحرمنا من مثل هذا التقارب، فبحسب منظمة الصحة العالمية، يُعد التباعد الجسدي –الذي يصل إلى واحد متر بين الشخص والآخر- ضرورياً للحد من انتشار فيروس كورونا، فأصبحنا نقع في حيرة بين الحرص على الالتزام بالإجراءات وشعور دفين بداخلنا -يطفو أحياناً على السطح- إلى التفاعل الجسدي مع الآخرين المتمثل في التلامس، مثل العناق والتقبيل والسلام بالأيدي.

ويأتي السؤال هنا في مخيلة البعض: ما سبب تلك الحيرة؟ وما أهمية التفاعل الجسدي أو التلامس بشكل عام؟

تجار العملة

الإنسان كائن اجتماعي يسعى دائماً لخلق علاقات مع من حوله، ثم يحاول الحفاظ على هذه العلاقات عن طريق بعض التفاعلات الاجتماعية، سواء اللفظية مثل الإطراءات والمجاملات، أو الغير لفظية مثل الإيماءات وتعبيرات الوجه والتلامس. ويعد التلامس بمثابة العملة التي نتداولها طوال الوقت للتعبير عن الترابط بيننا وبين الآخرين، وقد يصل الأمر بالشعور بالغرابة عندما تقابل أحداً ممن تعرفهم وتستشعر منه عدم المبادرة بأخذك بالحضن أو التقبيل على جانبي الوجه كما المعتاد.

يتمثل التلامس في العناق والقبلات والسلام بالأيدي، ويعد عناق الآخرين حالة فريدة من حالات التفاعلات الاجتماعية، حيث يصبح له معنى مختلف في كل موقف، فيعبر أحياناً عن الحب والرومانسية، وأحياناً- أثناء تقديم التعازي- يعبر عن الدعم المعنوي، وأحياناً أخرى نعانق بعضنا بشكل تلقائي أثناء السلام اليومي.

وقد أوضحت دراسة نُشرت عام 2012 أن تبادل العناق هي عادة اجتماعية ليست عند البشر فحسب؛ بل توجد أيضاً بين بعض الثدييات، مثل الشمبانزي وإنسان الغاب، بل ويتميز الإنسان بإضافة القبلات أثناء الأحضان عند تحية أحدهم.

التفاعل الجسدي الأول

يقترح عالم النفس «روبن دونبار» في فرضيته المُسماة «التنظيف والنميمة»Gossip and Grooming Hypothesis ، والتي تحاول شرح أسباب زيادة حجم مخ البشر على مدار آخر أربعة ملايين عام، أن المخ تمدد بازدياد احتياجات الإنسان للمراقبة والتنبؤ بالأحداث من حوله وتحليل المواقف التي يتعرض لها، ولأن الحياة وقتها كانت تعتمد على التنقل والترحال المستمر بحثاً عن الطعام والمأوى، فكان لا بد من تكوين التحالفات، وأول مظاهر التحالف بين البشر كانت من خلال التفاعلات الجسدية، المتمثلة وقتها في تنظيف بعضهم البعض من الطفيليات العالقة بأجسادهم، هذا الفعل لا يقتصر على كونه عملية للتنظيف ولكن كان بمثابة أداة فعالة لتكوين التحالفات والترابط بين البشر حينئذ قبل اكتشاف اللغة، وما زالت بعض الرئيسيات تعتمد على ذلك لتكوين التحالفات فيما بينهم.

لكن مع ازدياد حجم المجموعة الواحدة، صارت عملية التنظيف تأخذ وقتاً طويلاً، هنا كان الوقت مناسباً لتطور اللغة بين الأفراد في التحالف الواحد، والتي تمثلت في النميمة والتحدث عن الأحلام والطموحات الشخصية، وكذلك استخدام اللغة أثناء الصيد وجمع الطعام.

يساعد التقارب الجسدي كذلك في حل الصراعات والحث على التعاون بين الأفراد وبعضهم البعض؛ لأن هذا التقارب يزيد من الرصيد العاطفي لدى الأفراد، هذا الرصيد مليء بالمشاعر الطيبة والخبرات المشتركة التي تساعد الأفراد على تخطي العقبات التي يواجهونها، كذلك يشعر الفرد بقبول المجتمع له، وبأنه جزء من نسيج المجتمع، مما يُشعره بتقدير الذات، كما وجد الباحثون في دراسة نُشرت في دورية Emotion، أن التلامس بين اللاعبين في الفريق الواحد بالاتحاد الوطني لكرة السلة بالولايات المتحدة يزيد من فرصهم في الفوز بمبارياتهم.

تاريخ من التلامس والتقارب الجسدي

نتلقى جرعات من التعاطف والحنان منذ اللحظات الأولى في عمر كلٍ منّا؛ بل وحتى قبل ذلك؛ إذ يبدأ التقارب منذ أن كنّا أجنة في بطون أمهاتنا، لمسات الأم الحانية على بطنها أثناء الحمل تُحدِث استجابة لدى الجنين خاصة في آخر 3 أشهر. يكتشف الجنين في تلك الفترة تحديداً حدود بيئته المتمثلة في جدار الرحم الداخلي، ثم بعد ذلك يصرخ الطفل مُعلناً بذلك أول أيامه على كوكبنا. لحظات من الشعور بالدفء في أحضان الأم أثناء الرضاعة، ولحظات من الشعور بالأمان والسلام في أحضان الأب أثناء اللعب.

هذه الجرعات المتتالية أعطتنا المعاني الأولية للمشاعر مثل الدفء والفرحة والأمان، فأصبحنا في بحث متواصل عن هذه المشاعر الإيجابية مع مرور السنوات فيمن حولنا، وقد وجدت دكتورة «تيفاني فيلد» -الدكتورة بكلية الطب جامعة ميامي بالولايات المتحدة الأمريكية ومدير معهد أبحاث اللمس- أن نقص التقارب الجسدي بين الآباء وأبنائهم في مرحلة ما قبل المدرسة يؤدي إلى عدوانية الأبناء تجاه أبويهم وأقرانهم، ثم يدخل الطفل المدرسة فيُظهِر التقارب الجسدي أثناء اللعب مع الأصدقاء ليصل بعد ذلك إلى مرحلة البلوغ وما بعدها، وتظهر هنا التفاعلات الجسدية المرتبطة بالعلاقات الرومانسية مع الجنس الآخر.

الفوائد الصحية للتلامس

أظهرت دراسات تمت على مدار عقود أن هناك ما يُدعى نظام التلامس الاجتماعي (Social Touch System)، حيث إن التربيت اللطيف والبطيء على الجلد من جسم ذي درجة حرارة قريبة من درجة حرارة الإنسان يجعل الخلايا العصبية المسماة (C-Touch Fibers) والموجودة في جلد الإنسان المكسو بالشعر تنقل إحساس إيجابي بالسعادة إلى المخ، وتؤثر على عضلات الوجه المسئولة عن تقلب الفم، مما يؤدي بالإنسان إلى التبسم. كما أن هناك دراسات تعد الـ(C-Touch Fibers) وسيطاً لإطلاق هرمون الأوكسيتوسين صاحب التأثير الجلي في الترابطات والعلاقات الاجتماعية.

يفرز هرمون الأوكسيتوسين من الفص الخلفي للغدة النخامية بالمخ في عدة حالات، مثل الرضاعة، حيث يعطي للأم شعور بالسعادة أثناء إرضاع وليدها ويُعلِي من رغبتها في إرضاعه أكثر وأكثر، لتعزيز الرابطة المقدسة بينها وبين وليدها، كما أظهرت الدراسات أن الأوكسيتوسين يعزز الثقة بين الشخص ومنْ حوله.

تشير الدراسات كذلك إلى أن التلامسات الجسدية بين الشركاء، مثل الأحضان ومسك الأيدي تقلل من الشعور بالحزن وتقلل من أمراض القلب وإفراز الكورتيزول، كما أنها تقلل من الضغط النفسي. وبحسب أكثر من دراسة، فإن التقارب بين الأفراد يُقلل من نسبة الإصابة بعدة أمراض مثل أمراض القلب والسرطان والأمراض المعدية.

وفي تجربة نُشرت في دورية Psychological Science، اختبر باحثون من جامعة «كارنيغي ميلون» وجامعة «بيتسبيرج» وجامعة «فيرجينيا» فرضية أن تلقي الشخص للدعم الاجتماعي يحميه من الأمراض المعدية مثل نزلات البرد، فوجدوا أن احتمالية ظهور الأعراض تقل مع الأشخاص ذوي الاختلاط الاجتماعي الأعلى. وفي تجربة أخرى وُجد أن الدعم الاجتماعي المتمثل في مسك الأيدي يُقلل من الشعور بالألم.

كل تلك المزايا الصحية دعت باحثين من اليابان لتصنيع الـ Sense-Roid وهو عبارة عن عارض أزياء صناعي أو مانيكان مغطى بأجهزة استشعار وسترة مزودة بمحركات صناعية وعضلات صناعية، ما يُمكِّنك من أن تحضن نفسك ويعطيك شعور مماثل للأحضان.

أبوكاليبس: سيناريو نهاية العالم

تخيل معي السيناريو التالي، العالم بعد 1000 عام من الآن، حيث دمرت الحروب الحضارات المختلفة، وصار البشر مُشتتين في شتى بقاع الأرض، وأصبح الصراع الرئيسي فقط من أجل البقاء، ونشبت منافسة شرسة على الموارد المحدودة وأهمها المياه بالطبع، في ظل هذه الأجواء الأبوكاليبسية أو أجواء نهاية العالم- كما تصورها فيلم «The Book Of Eli» أو كما شاهدها معظمنا في فيلم «Mad Max: Fury Road» نجد أن مجتمعات البشر الكبيرة قد فَنت، وأن كل ما تبقى هي تجمعات بشرية صغيرة ومحدودة تحارب تجمعات مثلها من أجل الموارد.

ولكن إذا حدثت المعجزة وبدأت هذه التجمعات في الاندماج لتشكيل مجتمع واحد يبدأ من جديد في بناء الحضارة، ما هي أول الأفعال التي سوف يقومون بها لتوطيد العلاقات بينهم وإشعار بعضهم بعضاً بالأمان والسلام؟ بالتأكيد المصافحة بالأيدي والعناق أو أي أشكال أخرى من أشكال التقارب الجسدي سوف تكون حاضرة في هذا المشهد وبقوة.

الحجر الصحي

نشرت عالمة النفس «سامانثا بروكس» وزملاؤها دراسة يتحدثون فيها عن الآثار الضارة للحجر الصحي على الصحة النفسية وكيف نقلل من هذا الأثر قدر الإمكان، فأوضحت الدراسة أن الفترات الطويلة من الحجر تؤدي إلى الضغط العصبي والغضب وتجنب الآخرين، والشعور كذلك بالرفض وعدم رغبة الآخرين في التعامل مع بعضهم البعض إلا بمزيد من الحذر والشك.

أضافوا كذلك بعض التوصيات للتقليل من هذه الآثار، مثل تقليل فترة الحجر الصحي ولكن في الحدود المقبولة علمياً، وإعطاء الناس معلومات مستمرة عن الحالة الصحية وعن أهمية الحجر وضرورته، وتحسين آليات التواصل بين الناس لتقليل الملل، وكذلك وضع إرشادات واضحة للتكيف على الوضع الراهن قدر الإمكان، وفي خطوة جيدة خصصت وزارة الصحة المصرية خدمات للدعم النفسي للمواطنين أثناء فترات العزل المنزلي وكذلك للمصابين والمخالطين.

التحايل على الكورونا

تضاعف استخدام بعض تطبيقات التواصل عبر الإنترنت مثل Zoom وGoogle Meet وSkype بشكل غير مسبوق خلال الآونة الأخيرة، بجانب الاستخدام المهني من قبل الشركات والمؤسسات للتواصل بين الموظفين والرؤساء، اُستخدمت هذه التطبيقات في التواصل بين الأفراد وبعضهم البعض في محاولة لتعويض التلامس الجسدي قدر الإمكان.

بحسب البروفيسور «عاصم شاه»، نائب الرئيس التنفيذي بقسم الطب النفسي بكلية «بايلور» للطب بولاية تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن التواصل عبر الفيديو يحقق 80% من مزايا التلامس، بينما التواصل عبر التلفون يحقق 50% من تلك المزايا.

ولكن، كيف نعوض عناقنا للآخرين والتفاعل الجسدي والتلامس بيننا؟

حقيقة العقل البشري لا يتوقف عن إنتاج الأفكار المختلفة والمبدعة لكي يتخطى العقبات التي تواجهه دوماً، فمثلاً في ولاية نيوجيرسي قامت الجدة «مورين سويني» صاحبة الـ58 عاماً بارتداء ملابس وحيد القرن لزيارة أحفادها وعناقهم بعد فترة اشتياق طويلة لمثل هذا العناق.

وصنعت جدة أخرى من ولاية كاليفورنيا زياً من أكياس القمامة الشفافة وغطى به جسده بالكامل، واستخدمت أنبوبة التنفس الخاصة بالغطس، بينما وجدت «كارولين إليس» من كندا حلاً لمعانقة والدتها في عيد الأم تحت مسمى (ستارة العناق)، والتي أتاحت لهما العناق دون التلامس المباشر لجسديهما وانتشرت الفكرة بعد ذلك في أكثر من مكان.

كذلك ظهرت فكرة الفقاعات الاجتماعية، والتي تتلخص في أنك تستطيع التواصل بشكل طبيعي مع مجموعة صغيرة من الناس يسكنون بجانبك مُشكلين فقاعة اجتماعية، مع ممارسة مبدأ التباعد الاجتماعي مع بقية الناس. بحيث إنك تحقق مبدأ التفاعل مع الآخرين ولكن إن حدث وأُصيب شخص ما بداخل تلك الفقاعة، فلا يحدث انتشار للمرض بين بقية الناس ويبقى محصوراً داخل تلك الفقاعة.

وليبقى التلامس الجسدي في أضيق الحدود، مع الالتزام بلبس الكمامة ونظافة الملابس وبالطبع إلغاء الفكرة تماماً إذا أحس الفرد بأقل الأعراض الخاصة بالكورونا مثل ألم الحلق وارتفاع درجة الحرارة والكحة وغياب حاسة الشم أو التذوق.

ولا مشكلة من التفاعل الجسدي مع أسرتك المحيطة بك خلال فترة الحجر داخل المنزل، بالأخص لو كان خروج أحد الأفراد شيئاً نادراً للغاية.

الخلاصة

حسناً، نحن دائماً كنّا قادرين على التكيف على الظروف المحيطة بنا، وسوف نبتكر يوماً تلو الآخر حلولاً نتخطى بها مشاكلنا والتحديات التي نواجهها، ولكن يمكننا حتى ذلك اليوم أن نستمتع قدر الإمكان بالتقارب الأسري غير المسبوق خلال هذه الفترة، والذي يُعوضنا كثيراً -على المستوى الفسيولوجي على الأقل- عن التقارب الاجتماعي مع منْ هم خارج المنزل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.