كما هي العادة، تبدأ القصة بمقاطع فيديو ملحقة بعناوين جذابة لضمان سرعة الانتشار، على شاكلة «شاهد المهارات الإعجازية للاعب فلان». ولمزيد من الانتشار، عليك اتباع آخر خطوتين: الأولى بجعل هذا الصغير خليفة للاعب عظيم، وليكن ميسي.

أما الثانية أن تجد له قصة صعود مؤثرة تساعده على كسب تعاطف الجماهير، ثم انتظر بضع سنوات وشاهد مسيرة هذا الناشئ وهي تنحدر، هذا لو استطاع من الأساس أن يشق طريقه إلى الفريق الأول.

هذه هي دورة حياة كثير من الناشئين، لكن من بين كثير من الأندية كان نادي برشلونة يحاول أن يمنح ناشئيه فرصًا أكثر. فبرزت أكاديمية الفريق المسماة بـ «لاماسيا»، وقدمت للفريق الأول العديد من المواهب، كان آخرها صغير يدعى أنسو فاتي، والذي تنطبق عليه بالصدفة كل المواصفات السابقة.

آخر المنتجات الفاخرة

عندما انضم إلينا في معسكر الإعداد بروسيا، كان يعاني من آلام شديدة في قدميه، فنظرت إلى حذائه فعرفت السبب، لقد كان الحذاء باليًا لدرجة كارثية، وبسرعة ذهبنا واشترينا له آخر جديدًا.
مدرب فريق الشباب ببرشلونة، فيكتور فالديز يحكي عن أنسو فاتي في معسكر الإعداد لموسم 2019/2020

مشهد معتاد خاصة إذا علمنا أن أنسو من مواليد غينيا بيساو، ولم يقابل والده إلا بعد بلوغه السادسة، لأن الوالد كان قد غادر إلى إسبانيا بحثًا عن مستقبل أفضل للأسرة. وبعد أن اجتمعت العائلة في منطقة الأندلس بإسبانيا عام 2009، طلب أنسو من والده أن يلعب كرة القدم.

كان الفتى معتادًا على اللعب بكرة مصنوعة من الجوارب الملفوفة حول بعضها كعادة أطفال القارة السمراء، وعندما أتيحت له كرة عادية، ظهرت مهاراته غير العادية. انضم أنسو إلى أكاديمية إشبيلية في العام التالي(2010)، ومنها إلى أكاديمية لاماسيا، بعد أن فضلها على ريال مدريد.

وفي لحظة من العبثية، يرسل القدر هديته إلى أنسو بإصابة كل من: ميسي، سواريز، ديمبيلي، وفشل الفريق في التعاقد مع نيمار – ليجد نفسه في الفريق الأول دون أن يلعب مباراة واحدة مع برشلونة B. وبالطبع لسنا بحاجة لإخبارك عن مشهد الأبوين عندما سمعا هذا الخبر، كان الأمر أشبه بالحلم.

وبعد انتهاء الجولة الثالثة من الليجا موسم 2019/2020، سجل أنسو فاتي اسمه في تاريخ البلوجرانا كأصغر مسجل في تاريخهم بالليجا عقب إحرازه أول أهدافه مع الفريق الأول بمرمى أوساسونا عن عمر 16 عامًا، 304 يومًا.

لكن بعيدًا عن قصة الكفاح أو الصعود تلك، فإن ظهور أنسو فاتي في الفريق الأول لبرشلونة له أبعاد أكبر من ذلك. فأكاديمية لاماسيا تمر حاليًا بمرحلة شك، وسياسة برشلونة نفسها اختلفت عما سبق، وقد يكون ظهور ناشئ مميز مثل أنسو هو بداية لنهاية ذلك الشك، أو مجرد حدث عابر.

قمة المجد

في عام 2010، كانت أكاديمية لاماسيا تعيش لحظات ذهبية عندما فازت إسبانيا بأول كأس عالم لها في جنوب أفريقيا، حيث ساهمت بـ 9 لاعبين في تشكيلة إسبانيا، ثم اكتمل الإنجاز بوصول الثلاثي: ميسي، وتشافي هيرنانديز، وانيستا إلى القائمة النهائية للكرة الذهبية، وكانت هذه المرة الأولى التي يتواجد بها ثلاثة لاعبين من فريق واحد.

بعد ذلك بعامين وتحديدًا في الـ 25 من نوفمبر عام 2012، استُبدل داني ألفيش في الشوط الأول أمام ليفانتي ليحل محله مارتن مونتويا، ويصبح على أرض الملعب 11 لاعبًا من خريجي لاماسيا. كانت حقبة تاريخية مليئة بالألقاب، وتمثل في ذات الوقت الحالة المثالية لمنظومة قطاع الكرة ككل: أكاديمية تنتج المواهب المناسبة، والفريق الأول يمنحهم الفرص.

هذا هو جوهر اللاماسيا منذ إنشائها عام 1979 بإلحاح من العراب الهولندي يوهان كرويف، حيث انتقاء اللاعبين بعناية، وتجهيزهم لأسلوب لعب مميز والذي يُختَصر في المبادئ الثلاثة (الاستحواذ Possession، التمركز position، الضغط pressing)، المقتبس من أفكار الكرة الشاملة للهولندي الآخر راينوس ميتشلز، بجانب خلق روابط عائلية بين اللاعبين والنادي، تجعلهم أكثر ارتباطًا.

أصبح الأمر أشبه بثقافة نادٍ شعاره «أكثر من مجرد نادٍ»، إرث ينتقل من حقبة إلى أخرى، ومن إدارة إلى التي تليها، إلى أن أتى من لا يرغب بتمرير هذا الإرث.

تغير المفاهيم

اعتاد كرويف على سؤالنا عن الأداء وليس النتائج، لكن اليوم أصبحت النتائج أهم حتى على مستوى الناشئين، وقد أثر ذلك على طريقة الاختيار، فبات من الممكن رفض لاعب لصغر حجمه.
«What you hear in the trials at La Masia now is «What a shame, he’s so small
مدرب سابق بأكاديمية لاماسيا لموقع جول العالمي

أحد مدربي الأكاديمية السابقين، والذي رفض ذكر اسمه، لمس تغيرًا في المفاهيم داخل الأكاديمية، وبات واضحًا أن طريق المواهب نحو الفريق الأول أصبح أصعب من قبل؛ لأن هذا التغير صاحبه توجه مماثل لقمة الهرم، والمتمثل في الإدارة الفنية للفريق الأول وإدارة النادي.

 

بدأ الأمر في حقبة المدرب تاتا مارتينيو، عندما فرط الفريق في تياجو ألكانتارا. أتى إنريكي في العام التالي ليستبدل تشافي براكيتيتش. وشيئًا فشيئًا، ظهر عدم ثقته بلاعبي الأكاديمية وإعطاء الأولوية للتعاقدات من خارج النادي، كأندريه جوميز وألكاسير، وغيرهما.

بدأ الفريق يبتعد تدريجيًا عن أسلوب لعبه، وفقد اتصاله التاريخي باللاماسيا حتى اكتمل المشهد بتولي إرنستو فالفيردي القيادة الفنية. وباتت تشكيلة الفريق الأساسية تحتوي فقط على 5 عناصر من الأكاديمية «ميسي، بوسكيتس، بيكيه، ألبا، سيرجي روبيرتو» وجميعهم فوق سن الـ30 باستثناء روبيرتو، أي أن لاماسيا توقفت عن الإنتاج منذ مدة ليست بالقصيرة.

قناع بيريز

بالعودة لما ذكره ذلك المدرب السابق بالأكاديمية، فإنه لم يشر من قريب أو من بعيد إلى أصل هذا التغير، أي الإدارة. فبضغطة زر، كان يمكن للإدارة برئاسة جوزيب بارتيميو أن تعيد ترتيب البيت من جديد، وتمنح الأولوية لأبناء لاماسيا، لكنهم قرروا مشاهدة ما يحدث، وتطويعه لخدمة مصالحهم وفقًا للتفسير الذي سنقدمه لك.

فالشيء الوحيد الذي قد يدفع بارتيميو للتفكير بجمع جريزمان ونيمار بسواريز وميسي وديمبيلي هو أن يمتلك قدرًا من تفكير فلورنتينو بيريز رئيس ريال مدريد الحالي. سأوضح لك أكثر: عندما بدأ بيريز ولايته الثانية، كان النادي الملكي يملك مجموعة جيدة من اللاعبين، على رأسها ويسلي شنايدر وأريين روبين.

لكنه قرر الإطاحة بهما على غير رغبة المدرب مانويل بيليجريني والتعاقد مع بنزيما، كريستيانو رونالدو، كاكا، تشافي ألونسو. تخيل قوة الفريق حينها لو بقي الاثنان! لكن بيريز لم يتخيل ولم يفكر بالأمر من الأساس؛ لأنه أراد أن ينسب أي نجاح في المستقبل له فقط، لصفقاته فقط، وعليه فإن لاعبي الإدارة السابقة ليس لهم مكان.

أغلب الظن أن بارتيميو وإدارته تسعى لأمر مشابه، يريدون نجاحًا وفقًا لسياستهم لا سياسة النادي. لكن بيريز كان يصطدم بأفراد، أما هؤلاء فاصطدموا بإرث وثقافة ارتبط بها النادي ومشجعوه، وكانت النتيجة هي تبادل الأدوار بين الناديين وتحول برشلونة إلى تكوين الجلاكتيكوس.

وبسبب مسعى الإدارة الحالية، تراجع دور لاماسيا بشكل لافت حتى ظهر أنسو فاتي بمحض الصدفة محاولاً إعادتها للواجهة، خاصة أن ذلك الظهور أتى بعد رحيل تشافي سيمونز، أشهر ناشئي البلوجرانا، إلى باريس سان جيرمان، وتفضيل ناشئ لاماسيا السابق، كوبو تاكيفوسا الملقب بميسي اليابان الذهاب لريال مدريد، وأكيد أن هذا الثنائي وغيرهما لم يكن يتخيل أن أحدًا بعمرهم أو أصغر سوف يحظى بفرصته بهذه السرعة.

لكن في الأخير، سيظل الوضع الحالي أعقد من أن يغيره ناشئ بعمر الـ 16 عامًا، وعلى الأرجح لن ترى اللاماسيا عصرًا ذهبيًا جديدًا إلا بعد تجدد الثقة بأبنائها من قبل الإدارة والمدرب، ووفقًا للمؤشرات الحالية فعلى الجماهير الانتظار فترة أخرى.