نعود بعد طول انقطاع إلى الأسئلة التاريخية الفارقة، التي إذا تمكنا من فهمها والجواب عنها فسينتقل وعينا التاريخي نقلات مهمة، مما يؤثر بشكل مباشر على قراءتنا للواقع، ورسمنا لخطط المستقبل، ونحن نختار في هذه السلسلة عددًا من المواقف التاريخية المهمة التي أثرت تأثيرًا كبيرًا في مجريات الأحداث بعد حصولها، نتساءل ونفكر ونتأمل ونحاول أن نجيب، فعلى بركة الله تعالى نبدأ.

بدأنا سلسلتنا في الأسئلة التاريخية الفارقة من بعد وفاة سيدنا «محمد» -صلى الله عليه وسلم- فتساءلنا عن معايير اختيار الخليفة والحاكم، ولماذا لم يحدد النبي شخص الخليفة من بعده؟ ولماذا تم اختيار الخليفة من المهاجرين دون الأنصار؟ وماذا نفعل لو لم نجد القوي الأمين القادر على تولي أمور الحكم؟ ثم نقف الآن مع التحدي الأول الذي واجه «أبا بكر الصديق» -رضي الله عنه- في أول خلافته، وهذا التحدي هو جيش «أسامة بن زيد» الذي جهزه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعقد له الراية حتى يخرج لقتال الرومان في بلاد الشام شمال الجزيرة العربية.

حتى نفهم هذا الموقف نعود للوراء بالزمن قليلًا، وتحديدًا إلى شهر جمادى الأولى من العام الثامن للهجرة، حيث وقعت غزوة مؤتة بين المسلمين والروم، هذه الغزوة –أو السرية- التي أمر النبي بخروجها للرد على مقتل الصحابي «الحارث بن عمير الأزدي» الذي أرسله النبي برسالة إلى الحاكم الروماني لمنطقة بُصرى من بلاد الشام، لكن «شرحبيل بن عمرو الغساني» حاكم منطقة البلقاء من قبل القيصر الروماني قتل الحارث بن عمير، وقتل الرسل جريمة كبيرة وخروج عن معاني النبل والخلق التي يجب أن يتحلى بها المحاربون الشرفاء، فجهز النبي جيشًا كبيرًا بمعايير المدينة، قوامه ثلاثة آلاف محارب، وجعل قائد الجيش هو الصحابي الجليل «زيد بن حارثة» -رضي الله عنه- الذي كان خادمًا للسيدة «خديجة» ثم وهبته للنبي فأعتقه وتبناه، ثم حرم الله التبني فعاد اسمه زيد بن حارثة، وقد زوجه النبي من امرأة شريفة كريمة هي السيدة «أم أيمن» حاضنة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنجبت له السيدة أم أيمن ولده الشجاع الكريم أسامة بطل قصتنا اليوم.

نعود إلى مؤتة، فقد جعل النبي قائد الجيش هو زيد بن حارثة، فإن قُتل فـ«جعفر بن أبي طالب» (ابن عم النبي)، فإن قُتل فـ«عبد الله بن رواحة». وسار الجيش للقتال الخطير، إذ هي سابقة تُعد الأولى من نوعها تقريبًا، أن يتجرأ بعض العرب على قتال الرومان الأشداء الذين تعتبر دولتهم أعظم دولة في زمانها، تحكم أكثر من نصف الدنيا، وتقتسم حكم العالم مع جارتها الدولة الفارسية القوية، فمن ذا الذي يتجرأ من العرب المتفرقين الضعفاء على أن يقف لهذه الدولة القوية، لذلك كانت غزوة استثنائية وخطيرة، وفيها رسالة للعالمين أن سلطان المسلمين المنبسط على الجزيرة العربية كلها قد آن أوان خروجه عن الجزيرة وانطلاقه في آفاق الأرض الواسعة.

خرج الجيش، ووقع القتال في مؤتة، التي تقع الآن في الأراضي الأردنية جنوب غرب عمان، قريبًا من فلسطين، وكان عدد جيش الروم مائتي ألف مقاتل، وقُتل الأمراء الثلاثة تباعًا، واتفق المسلمون على تولية «خالد بن الوليد» أمر الجيش، فقام ببعض الحيل الاستراتيجية المهمة، واستطاع أن ينسحب بالجيش المسلم بأقل مستوى ممكن من الإصابات، إذ قُتل من المسلمين في هذه الواقعة اثنا عشر رجلًا فقط، وعاد جيش المسلمين إلى المدينة، وواجههم أهل المدينة بصيحات السخرية والإنكار وقالوا لهم: «يا فُرَّار، يا فُرَّار» –أي: يا من فررتم من القتال ولم تثبتوا فيه- فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «بل هم الكُرَّار إن شاء الله»، أي: سيعودون إلى الكر والهجوم مرة أخرى قريبًا.

انتهى الأمر بتسجيل الموقف المراد تسجيله، وهو أن الخطر الإسلامي على الظلم العالمي وأهله قد أصبح قريبًا ووشيكًا، وإذا كانت المحاولة الإسلامية الأولى للخروج بالسلطان الإسلامي إلى أوسع من حدود الجزيرة العربية لم تثمر نجاحًا قاطعًا وهزيمة ماحقة للرومان، فيكفي أنه أظهر للجميع أن الفكرة قد أصبحت مطروحة وبقوة، وأن الإسلام قادم إليكم مرة أخرى ولو بعد حين، وهو ما حدث بالفعل، إذ استمرت المواجهات العسكرية بين المسلمين والرومان حتى تم فتح القسطنطينية عاصمة الروم البيزنطيين بعد يوم مؤتة بثمانمائة وخمسين عامًا.

انتهت مؤتة أولى حلقات سلسلة المواجهات بين المسلمين والروم، ووجب أن تكون هناك حلقة أخرى في السلسلة، فكانت غزوة تبوك في العام التاسع من الهجرة، ثم كان جيش أسامة إذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاثة أعوام من مؤتة بتجهيز جيش إسلامي بقيادة الصحابي الشاب أسامة بن زيد، إنه ابن شهيد مؤتة الذي أرسله النبي ليعلم الناس أن أبناء الشهداء على درب آبائهم نورًا وهداية ورشادًا.

في صفر من العام الحادي عشر من الهجرة يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد أن يتجهز للخروج على رأس جيشه، وهو الجيش الذي يضم كبار المهاجرين والأنصار من الشيوخ أصحاب الشيبة في الإسلام، وهنا ترد بعض الاعتراضات، إذ كيف يجعل النبي شابًا في السابعة عشرة من عمره على رأس جيش يضم هؤلاء الكبار؟ ويعلم النبي بأمر هذه الاعتراضات فيخطب في الناس قائلًا:

أيها الناس، فما مقالة قد بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة! ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وايم الله إن كان للإمارة لخليقًا، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإنهما لمخيلان لكل خير، فاستوصوا به خيرًا فإنه من خياركم.

إن الكفاءة هي المعيار الأول في القانون المحمدي، وإن قيادة الشباب لتدل على نضج الأمة وقوتها وحيويتها وقدرتها على مواجهة ما هي مقبلة عليه من الأخطار الجسام والمهام العظام.

يبدأ جيش أسامة في التحرك، ولكن يحدث ما يعطله ويجعله يعود أدراجه إلى المدينة، وهو وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي جعل يوصي كثيرًا وهو على فراش الموت بإخراج جيش أسامة، وما ذلك إلا لشدة أهمية هذا.

يعود الجيش فيصلون على رسول الله ويدفنونه، ويقوم المسلمون باختيار أبي بكر الصديق لخلافة النبي وتولي أمر المسلمين، فيكون أول ما يأمر به أبو بكر أن يخرج جيش أسامة، وهنا لنا وقفة!

جيش أسامة متوجه إلى فلسطين من أرض الشام، بعيدًا عن المدينة بمسافة تقطع في أسبوعين أو ثلاث، وقد ارتدت أغلب القبائل في شبه الجزيرة العربية عن الإسلام بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يبق إلا المدينة ومكة والطائف، والخطر العربي الذي كان قد تبدد وانتهى وفكر المسلمون بعد انتهائه في التمدد بجيوشهم خارج الجزيرة العربية عاد للظهور مرة أخرى، والمدينة النبوية الآن في خطر كبير بسبب المرتدين ومانعي الزكاة واضطراب الأوضاع الداخلية في الجزيرة العربية اضطرابًا شديدًا لا يسمح بتفريغ المدينة من مقاتليها الأشداء بإرسالهم للقتال في الشام خارج حدود الجزيرة العربية، بل ابتعادهم الشديد هذا قد يغري الناس بالهجوم على المدينة واستغلال غياب جيشها، فيكون ذلك في غاية الخطورة على الوجود الإسلامي كله الذي قد ينتهي أمره بانتهاء أمر عاصمته، نعني المدينة المنورة.

الأمر خطير كما ترون، ويقترح الناس على أبي بكر أن يؤجل خروج جيش أسامة بن زيد كي لا تتعرض المدينة للخطر، ولكن سيدنا أبا بكر يصر بقوة على خروج الجيش الذي عقد لواءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل يقول:

والله لا أحل عقدة عقدها رســـــــــول الله، ولو أن الطير تخطفنا، والسبـاع من حول المدينـــــة.

ولما رأى الناس إصراره الشديد على خروج الجيش تنفيذًا لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- حاولوا إقناعه بأن يغير القائد، وأن يولي أحد الكبار مكان الشاب أسامة ابن السابعة عشرة، ويحدّث عمرُ بن الخطاب أبا بكر الصديق في هذه المسألة، فيغضب أبو بكر ويأخذ بلحية عمر بن الخطاب ويقول:

ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أمنع أميرًا أمّره رسول الله عن إمارة جـيـشه؟

ويخرج جيش أسامة، ويسير معه أبو بكر الصديق على قدميه وأسامة على فرسه، ويقول أسامة لأبي بكر: «إما أن تركب أو أنزل». فيقول أبو بكر: «لا أركب ولا تنزل، ما علي لو غبرت قدمي في سبيل الله ساعة؟»، ثم يستأذن أبو بكر أسامة بن زيد أن يترك له عمر بن الخطاب في المدينة ليسترشد برأيه، فيأذن أسامة لعمر بالبقاء، ثم ينطلق أسامة بجيشه لما أمره به رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وهذا أوان السؤال، لماذا أصر أبو بكر هذا الإصرار الشديد على خروج الجيش رغم ما في الأمر من خطر ورغم معارضة الصحابة؟

نقول: إن المهمة الأكبر لخلافة أبي بكر كما يظهر ذلك جليًا في سيرته هي الحفاظ على الإسلام من أن يعتريه نقص، والحفاظ على المنهج النبوي من أن يطرأ عليه تغيير، لذلك نجده يعلنها جلية واضحة عندما تظهر فتنة مانعي الزكاة فيقول:

أينقص الدين وأنا حي؟

كانت هذه المهمة المقدسة وهذه الغاية النبيلة واضحة في ذهن أبي بكر أشد وضوح، سأحافظ على رسالة النبي وأوامره حتى تنتهي العاصفة، لذلك كنا نجده حذرًا من مواقف كثيرة لم تكن في زمان النبي، منها جمع المصحف مثلًا، وغير ذلك، وكان يريد أن يلتزم المسلمون حرفيًا بما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك كاد يعتبر أي اقتراح بتغيير بعض الأوامر النبوية لتغير الزمان بداية شر وفساد وإفساد للدين والمنهج، لذلك أصر على تنفيذ الأمر النبوي مهما كلفه ذلك من خسائر، ومهما كان في الأمر من أخطار محتملة، فهذا هو السبب الأول.

السبب الثاني لهذا الإصرار هو أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، وإذا بقي الجيش في المدينة لتحصينها في انتظار هجوم القبائل المجتمعة المحيطة بالمدينة فإن هذا الجيش لن يقوى على المدافعة والثبات أمام الأعداد الضخمة، وستكون المدينة ساعتها في خطر حقيقي، وأبو بكر يعلم أن النبي ودعوته نصرت بالرعب، لذلك فإن خروج جيش أسامة يعلن بما لا يدع مجالًا للشك أن الإسلام باقٍ على قوته التي كان عليها أثناء حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن جيوشه ستخرج لمواجهة الروم خارج حدود الجزيرة العربية، فكان جيش أسامة كلما مر على قبيلة من القبائل المرتدة أو سمعت به وبتحركه لمواجهة الروم قالوا: «ما أخرج أبو بكر هذا الجيش إلا وعنده غيره»، وكانت هذه الفكرة بداية الهزيمة النفسية في قلوب المرتدين، مما دفعهم إلى العودة للإسلام حذرًا من مواجهة الجيوش الإسلامية القوية التي تحارب الروم ولا تخشاهم، فكيف بقدرتها على محاربة العرب؟

استمرت رحلة أسامة نحو خمسة وثلاثين يومًا، تحقق خلالها للمسلمين عدد من الفوائد والمكاسب، على رأسها التأكيد على أن سلسلة الحروب مع الرومان وقوى الشر العالمية مستمرة حتى بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن وفاة النبي لم تضعف من عزيمة المسلمين وقوتها شيئًا، وأنه على العرب المرتدين أن يخافوا مواجهة جيش المسلمين لأنهم أضعف من أن يقدروا على هذه المواجهة، وأن جيش المسلمين من القوة والنظام والانضباط بحيث ينقاد إلى قائد شاب ممتلئ بالطموح والقدرة، كل هذه الفوائد وغيرها تحقق ببركة إصرار أبي بكر الصديق على تنفيذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنفاذه بعث أسامة في الوقت المحدد بلا إبطاء ولا تأجيل أو تغيير، والاتباع كله خير وبركة وهداية ورشاد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.