أثار فيلم «في سبع سنين» والذي بُث مؤخرًا على شاشة الجزيرة كثيرًا من الجدل في الأوساط المجتمعية بالعالم الإسلامي، حيث انقسم الجميع لثلاثة تيارات: الأول، ينكر ما جاء في الفيلم ويسبه وينعته بل وصل لتكفير المُنتجين، أما التيار الثاني فيحاول الجمع بين النقد البنّاء وبين التهجم على طرح الفكرة، والتيار الأخير الذي يرى أن ما عُرض هو أمر واقع ويجب مناقشته والبحث في أسبابه.

لكن في الحقيقة أن الفيلم فتح الباب على مصراعيه على عددٍ من الأسئلة حول ظاهرة أخرى تتعلق بالأمر وهي هجران أبناء التيارات الأحزاب الإسلامية لأحزابهم ومبادئها، وهنا نتحدث عن عددٍ لا بأس به من الحالات التي ترتقي لمستوى الظاهرة من هجران الشباب لأحزابهم الدينية التي تَعتبر نفسها «وسطية» بالتوجه نحو التشدد الديني أو التحرر من القيود والمبادئ التي نشأوا عليها في يوم من الأيام داخل أروقة تلك الأحزاب والتيارات الدينية.

الظاهرة هذه لم تقتصر على مجتمعات عربية بعينها، لكنها وصلت للجميع كالمجتمع السوري والمصري والفلسطيني إلخ..، وكان في معظمها مجتمعات تعرضت لصدمة كبيرة وظلم وقتل بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية كانت مجتمعات هاجر أبناؤها وتركوا بلدانهم طواعية أو رُغمًا عنهم، حيث منحت الغربة هؤلاء الشُبان الفارين فرصة لحياة جديدة، ونتيجة للصدمة التي تلقوها وأرادوا أن تكون حياتهم الجديدة وأفكارهم ليست كالتي سبقت.

وفي الدرجة الثالثة كانت الأخطاء الداخلية داخل تلك التيارات والتعاطي فيها أحد أهم الأسباب التي دفعت هؤلاء للهجران، فكيف لشابٍ التحق بتيارٍ يدعي أنه يقيم الحق ويزهق الباطل أن يقبل بوجود باطلٍ وبحقٍ يزهق؟ إن الإشكالية في إزهاق الباطل وإقامة الحق نسبية بالدرجة الأولى، فلا عدل مطلق على هذه الأرض، لكن الخطاب الإعلامي والديني لهذه التيارات يجعل من الشباب ينسى فكرة أن هناك نسبية في الخطأ، وجعلهم ينتمون لفكرة التيار ويعملون بها لكن في أول اختبار حقيقي يرى فيه هذا الشاب الظلم يكفر بما قد آمن به يومًا من الأيام.

كذلك فإن التيارات الإسلامية غالبًا ما تصدر خطابًا تعبويًا يعطي صك النصر الأبدي لها، فمثلًا الخطاب الديني الذي مارسته جماعة الإخوان المسلمين في اعتصام رابعة قد أشعر الجهمور أن النصر قاب قوسين أو أدنى وأن الله سخر لهم الملائكة للوقوف بجانبهم، لكنهم في الحقيقة تجاهلوا حقيقة قالها يومًا د. مصطفى محمود: «إذا نزل مؤمن وكافر إلى البحر، فلا ينجو إلا من تعلم السباحة فالله لا يحابي الجهلاء»، وعليه حدثت صدمة التيار الإسلامي في مصر وما تبع ذلك من صدمات كانقسام أبناء التيار الإسلامي فيما بينهم وموالاة بعضهم للحكم العسكري.

بالإضافة للغربة التي فُرضت على الشباب العربي «الملتزم إسلاميًا» في بلادٍ منفتحة شكلت أيضًا عاملًا أساسيًا لتغير أفكارهم بعد أن كانت الصورة المرسومة في مخيلتهم عن هذه المجتمعات متسمة بالكراهية والعنصرية والحقد على المسلمين، لكنهم بعد أن اختلطوا بها وجدوا عكس ما هيئ لهم في منابر المساجد ووجدوا أن التعامل الأساسي لهذه المجتمعات هو الإنسانية مع وجود لحالات عنصرية ترتقي لمستوى الظواهر أيضًا.

هذا لا يعني بالمُطلق أن الهُجران كان نتيجة لممارسات قمعية من داخل التيار الديني أو صدام مع سلطات حكومية، بل هناك حالات أخرى كانت نتيجة لعملية الاطلاع والقراءة والمعرفة الواسعة التي كانت تقوم بها، ونتيجةً لها خُلقت لديهم الكثير من الأسئلة الوجودية والفكرية التي عجزوا عن الحصول على إجابتها من قيادات ورموز هذا التيار.

يقول أحد هاجري التيار الإسلامي في الفترة الأخيرة: «إن الإسلاميين ما من ثورة دخلوا بها حتى أفسدوها»، حديثه كان تعقيبًا على معارك شنتها جبهة النصرة الفرع السوري من تنظيم القاعدة ضد التنظيمات السورية الوطنية المعارضة للنظام السوري، والتي تشكلت بطبيعة الحال قبل نشوء جبهة النصرة بأعوام، جبهة النصرة ذاتها ذاقت الويلات يومًا ما على يد تنظيم داعش إبان محاولة الأخير إخضاع النصرة له.

ومن هنا نستنتج أن الممارسات السياسية الهوجاء للأحزاب والتيارات الإسلامية خلقت حالة من الرفض الداخلي لها ورغبة بالتخلي والهجران عنها والخروج من قوقعة التيار ورفض القطيع. مؤخرًا ومنذ سبعة أعوام مارس تيار الإخوان المسلمين المصري الكثير من الأخطاء بحق نفسه وبحق أبنائه واستأثر البعض بزعامة التيار غير آبهٍ برغبة الشبان في التغيير الداخلي وضخ دماء جديدة، مما دفع بعضهم للتخلي عنهم والبحث عن فرص نجاة جديدة أو بل قُل حياة جديدة.

لا يُعتب على الشباب هجرانه للتيار الإسلامي بل يعتب على من يمسك بزمام قيادة التيار تخبطه في السياسة وفي الإفتاء أيضًا. من كان يتخيل يومًا أن الوهابية – وهي العماد الأساسي للتيارات الإسلامية في مصر والشام- التي حرمت على المرأة قيادة المركبة منذ عقود تحلله اليوم نتيجة لتغير ولي العهد السعودي فحسب؟

من كان يتخيل يومًا أن يتم تبرير قتل إنسان بريء وتجزئة جسده وتذويبها في الأحماض بالاعتماد على نصوص دينية وإرث إسلامي؟ التخبط الذي يعانيه التيار الإسلامي يضع الشباب أمام الاختيار بين اثنين؛ الأول التشدد والتكفير، والثاني التحرر والاغتراب.

هل تملك التيارات الإسلامية الشجاعة للإقرار بوجود أخطاء وبوجود حالة هُجران لها من قبل الشباب عقب فشل الثورات العربية؟ هل تملك تلك التيارات الشجاعة للتغيير والانفتاح ولتغيير الخطاب الديني والرسمي لها كي لا تفقد المزيد من شبابها؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.