لا يمكن الولوج إلى المستقبل بثقة، وقبله تخطي الحاضر المأزوم، دون حسم إشكالات الماضي التي لا تزال بعضُ ظلالِها الثقيلة تحجب الكثير من الأنوار عن الوعي والقول والفعل، والفترة العصيبة – قبل أكثر من 14 قرنًا – التي اصطُلِح على تسميتها فترة «الفتنة الكبرى»، التي بدأت باغتيال الخليفة الثالث عثمان بن عفان، رضي الله عنه، أواخر عام 35هـ، وانتهت باغتيال خليفته الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهَه عام 40هـ، لا تزال إلى اليوم تؤثر على مصائر الأمة الإسلامية سياسيًا ومذهبيًا.

كلما انفتحَ النقاش -الذي لم ينغلقْ أساسًا- حول تلك الفترة العصيبة، ثارت الألسُنُ بالهجوم، واستُخدِمَت في غير موضعها الآية القرآنية الكريمة التي تكرّرت مرتيْن في سورة البقرة 134، 141:

تلك أمةٌ قد خَلَتْ لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسأَلون عما كانوا يعملون

لكي تغلق باب الحديث فيها بالشمع الأحمر، مع أننا لو عدنا إلى التفاسير، مثل تفسير الطبري، لوجدنا أن استخدام تلك الآية في هذا السياق عكسي تمامًا، فالحق، سبحانه وتعالى، فيها يحذر بني إسرائيل من التقصير في واجب الشهادة بالحق عمن سبقوهم من الأنبياء، وأن جحود الحقائق لن يحميَهم من المحاسبة عليها أمام الله.

ولذا، فنحنُ نخوض في هذا النقاش للأسباب الآتية:

أولًا: مبدأ إقامة الشهادة بالحق «ومن يكتُمها فإنَّهُ آثمٌ قلبُه» ولو كان بعض هذا الحق لا يتفق مع الأفكار والمذاهب الرائجة التي نشأنا عليها.

ثانيًا: إنصاف بعض الشخصيات التاريخية التي ظلمتها الروايات التاريخية السائدة، والتي كثيرًا ما رعتْها السُّلطة المنتصرة تاريخيًا.

ثالثًا: لم يعد من المنطقي في عصرنا الحالي الذي أصبح فيه الوصول إلى المعلومات غثِّها وسمينِها، لا يحتاج إلا لبضع لمسات، دفن بعض المسائل بغلق باب النقاش فيها، لاسيَّما وهي مسائل تاريخية حسّاسة تؤثر في الوعي، وذات أبعاد طائفية ومذهبية خطيرة في عصرنا الحالي.

وغني عن الذكر أننا لا نناقشُ – وأنَّى لنا هذا – المصير الأخرويّ للأشخاص، إنما نركز على المواقف السياسية ومآلاتُها، ونحاولُ بناءَ أجزاء من سردية لأحداث الفتنة الكبرى لا تطغى عليها النزعات السلطويّة، أو التعصب المذهبي، وما يرافقهما من ميول تبريرية تلوي عنق الوقائع.

من هم «قتلة عثمان»؟

في عنوان المقال، ذكرنا أن الإمام علي في خلافته اعتمد على بعض «قتلة عثمان»، واستخدمنا هذا الوصف (قتلة عثمان) الذي عمّمته – بشكل مباشر أو غير مباشر – الروايةُ السُّنية الغالبة على كل من اشترك في الثورة ضد الخليفة عثمان بن عفان، لا سيّما في فصلها الأخير بحصاره، رضي الله عنه، في منزله أواخر عام 35هـ.

وكان السبقُ في الترويج لهذا التعميم للسلطة الأموية التي بنت شرعيتها الأخلاقية – منذ تمرد والي الشام معاوية على الخليفة الرابع علي بن أبي طالب – على شعار (الثأر لعثمان)، وفي منظورهم أنَّ كل من جاهر بالاعتراض على عثمان، لا سيَّما من تجمهروا من الأمصار المختلفة، هم جميعًا من «قتلة عثمان»، لا من ارتكبوا واقعة القتل فحسب، الذين تضطرب المصادر التاريخية في تحديد أسمائهم.

وقد تسلَّلَ هذا الرأي، ثم هيمنَ بقوة على المنظور التاريخي السني بوجه عامٍ، ووجد من يناصره من أصحاب السلطة وشيوخ السلطان الذين يريدون تعميم الذم على كل ثورةٍ وتمرد، وسحب بساط الشرعية من تحت أقدام معارضي الاستبداد قديمًا وحديثًا بوصمِهم أبديًا ولو من طرفٍ خفي بجريمة قتل عثمان.

اقرأ: تعظيم معاوية وشبهة إضفاء القداسة على الظلم.

وقد قبل الكثير من المسلمين قديمًا وحديثًا بحسن نية تعميم هذا الذم على كل من تظاهروا ضد الخليفة عثمان، كردّ فعل على شناعة جريمة قتل الخليفة غدرًا في منزله، وهو من صحابة الرسول، عليه الصلاة والسلام، الذين لهم سوابق في الإسلام، والذي رفض بنُبلٍ مواجهةَ الثائرين ضده بالسيف، ويرى هؤلاء أن أي تهاون في كيل الذم لمن ثاروا على عثمان سيكون ذمًا خفيًا لعثمان، وتهوينًا من شأن دمائه البريئة التي سالت.

لكن قد لا يُدرك هؤلاء أنهم بذلك الموقف يسيؤون إلى رموز مهمة من الصحابة وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب، الذي قَبلَ بيعة هؤلاء الثائرين له بالخلافة بعد استشهاد عثمان، وضمَّ كثيرين منهم إلى جيوشه، وولّى بعضهم مناصب حسَّاسة في دولته كما سنبيِّن.

ويتجه آخرون إلى منطق تبريري ذائع، يلقي باللائمة في قضية الفتنة الكبرى ككل على متآمر يهودي مستتر هو عبد الله بن سبأ، الذي تلاعب بخبثٍ بالمئات أو بالآلاف من الناس، ومنهم كثير من الصحابة والتابعين وجرَّهم للثورة ضد عثمان وقتله، وهذه المبالغة في وصف دور ابن سبأ أراها تحمل الكثير من الإهانة إلى هذا الجيل الأول ككل، وإظهارهم غافلين مخدوعين ينجح شخص واحد في سبك المؤامرة عليهم وضرب بعضهم ببعض دون أسبابٍ واقعية حقيقية، بل جنح البعض إلى أنه من قتل عثمان بنفسه، فيكون بذلك قد لعب كافة الأدوار على مسرح الأحداث.

وكل تلك المواقف السابقة، هي مواقف اختزالية تنميطية، بينما الوقائع والأحداث التاريخية المعقدة تحتاج إلى آراء مركبة في الأحداث والشخوص، بعيدًا عن ثنائيات أحكام الأبيض الناصع والأسود القاتم، فدرجات الرماديِّ وتدريجاتها من الأبيض والأسود هي الأقرب للحقيقة في دنيا البشر.

بعض رموز الثورة ضد عثمان

كما أشرنا آنِفًا، توافقت أكثرية الروايات السًّنيَّة السائدة لأحداث الفتنة الكبرى على إلحاق كل مذمَّة ومنقصة بكل من ثار على الخليفة عثمان، وتعميم الوصف لهم بأنهم من العناصر الإثارية التي لا يُعجبُها العَجب، ويسوقها الغضب، وأنهم من شُذّاذ الآفاق، والمطعون في دينهم وشرفهم … إلخ، بينما لو طالعنا سيَر العديد منهم، لوجدنا منهم الكثير من المقدّمين في قبائلهم، ومن أصحاب السابقة في الإسلام، وأهل الشجاعة والرأي، وسنقدم أمثلة سريعة على بعض هؤلاء لنرى جوانب أخرى في الصورة.

مالك الأشتر النخعي

يصفه الذهبي في «تاريخ الإسلام» بأنه كان شريفًا كبيرَ القدر في قبيلته، وقد أصيبت عينه في معركة اليرموك الشهيرة ضد الروم عام 15هـ. وكان من أشد المؤلبين ضد عثمان، ومن قادة الثورة ضده، ثم أصبح من أبرز قادة جيش علي بن أبي طالب، وحارب بضراوة ضد جيش معاوية في وقعة صفين عام 37هـ، وفي نهايتها فطن إلى خدعتهم برفع المصاحف على الرماح عندما أوشكت أن تحل بهم الهزيمة، لكنه أوقفَ القتال التزامًا بأوامر الخليفة علي بن أبي طالب.

وقد اغتاله معاوية بالسم على أرجح الروايات التاريخية عندما كان في طريقه إلى مصر واليًا عليها من قِبَل الخليفة علي، خشية من أنَّ قوته وحزم إدارته سيصعِبان مهمة انتزاع مصر، وينقل الكندي في «ولاة مصر وقضاتها» أن الإمام علي تأثَّر كثيرًا بخبر وفاته، ونعاه قائلًا:

على مثل مالك فلتبْكِ البواكي

محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة

.. وَكَانَ بِمِصْرَ جَمَاعَةٌ يُبْغِضُونَ عُثْمَانَ وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِكَلَامٍ قَبِيحٍ – عَلَى مَا قَدَّمْنَا – وَيَنْقِمُونَ عَلَيْهِ فِي عَزْلِهِ جَمَاعَةً مِنْ عِلْيَةِ الصَّحَابَةِ، وَتَوْلِيَتِهِ مَنْ دُونِهِمْ أَوْ مَنْ لَا يَصْلُحُ عِنْدَهُمْ لِلْوِلَايَةِ ..
ابن كثير في (البداية والنهاية)

كان هذان المحمدان من أشهر أبناء الصحابة، وكانا يقيمان في مصر، وكانا من أشد المعارضين لعثمان، وفي ذلك نقم البعض على محمد بن أبي حذيفة؛ لأنه لم يحفظ جميل عثمان بن عفان عليه إذ ربَّاه وأنفق عليه بعد استشهاد والده أبي حذيفة، رضي الله عنه، في معركة اليمامة 12هـ، وينقل ابن حجر العسقلاني في «الإصابة» أن محمد بن أبي حذيفة وثب في مصر عام 35هـ مستغلًا استدعاء عثمان لواليه عليها ابن أبي السرح إلى المدينة للتشاور في أمر الثائرين عليه، وقد ثبَّته الخليفة علي في ولاية مصر، لكنَّه ما لبث أن وقع في أسر معاوية، والذي لم يقتله على الرغم من أنه كان من أشرس المحرضين على الثورة ضد عثمان؛ لأنه كان ابن خاله، لكنه ما لبث أن فرّ من معتقله ثم تتبعه أحد المتعصبين من أنصار معاوية فقتله، فولى مصرَ بعده محمد بن أبي بكر.

وقد تضاربت الروايات التاريخية في كونِ محمد بن أبي بكر قد اشتركَ بشكلٍ مباشر في قتل عثمان بن عفان أم إنه غادر بيت عثمان مُحرجًا من عتاب الخليفة المحصور له بأن أباه الصديق لم يكنْ ليسعد بابنه وهو يهينُ لحية طالما أكرمَها الأب، والأشهر أنه غادر المنزل.

وقد ولى عليٌّ محمدًا بن أبي بكر ولاية مصر كما أسلفنا، وظلَّ واليها حتى هاجمه جيشٌ كبير أرسله معاوية عام 37هـ بقيادة عمرو بن العاص، وانضم إليه معاوية بن حُديْج بالموالين لمعاوية داخل مصر، واستغلوا انشغالَ الإمام علي بالصراع مع الخوارج في العراق الذي أعجزه عن إرسال المدد إلى محمد بن أبي بكر، فنجحوا في انتزاع مصر منه، ثم قتلوه حرقًا بعد أسره.

وينقل الطبري أن أختَه أم المؤمنين عائشة جزعت لمصرعه الوحشي، فتبنّت أبناءَهُ، وأخذت تدعو على عمرو بن العاص ومعاوية بن حُديج بعد كل صلاة. وأراد الإمام علي أن يرسل جيشًا من الكوفة لاستعادة مصر، لكنه لم يستطِع أن يحشد قوةً كافية لذلك.

عبد الرحمن بن عُديس البلوي

كان من قادة الثوار المصريين ضد عثمان، وينقل ابن عساكر في «تاريخ دمشق» أنه كان من الصحابة الذين بايعوا الرسول، عليه الصلاة والسلام، في بيعة الرضوان، ويذكر أبو نعيم أنه قُتِلَ في خلافة معاوية بعد وقت من فراره من السجن في الشام، ويروي أبو نعيم المشهد الأخير في حياة هذا الصحابي، حيث حاصره أحد الجنود المطارِدين، فأخذ ابن عديس يخوِّفه من أن يقتله فهو من أصحاب الشجرة (التي ذكرت في القرآن في سورة الفتح لأنها شهدت بيعة الرضوان) فسخر منه القاتل قائلًا الشجر كالجبال كثير، ثم قتله.

جهجاه بن سعيد الغفاري

أسلم في حياة الرسول، عليه الصلاة والسلام، ذكر ابن حجر العسقلاني في «الإصابة في تمييز الصحابة» أنه ممن شهدوا بيعة الرضوان مع الرسول، وكان من الثائرين ضد الخليفة عثمان، وسجّلت كتب التاريخ أنه هاجمه على المنبر ونزع عصاه فكسرها، ثم ما لبث أن مات بمرضٍ عُضال بعد هذه الواقعة بأشهر قليلة، ورأى بعض الرواة أن هذا كان انتقامًا من الله منه لاعتدائه على عثمان، والله أعلى وأعلم.

حكيم بن جبلة العبدي

يصفه الذهبي في ترجمته له في موسوعة «سير أعلام النبلاء» قائلًا:

أحد الأشراف الأبطال، كان ذا دينٍ وتألّه

بينما يذكر ابن عبد البر الأندلسي في «الاستيعاب» أنه قد أدرك زمن النبي (عليه الصلاة والسلام) من دون أن يرويَ عنه، وأنه كان مطاعًا في قومه، واشتهر بالتدين والصلاح، وعيَّنه عثمان بن عفان لفترة واليًا على منطقة السند ثم عزله. ويروي ابن عبد البر كذلك إن من أهم مناقد حكيم بن جبلة على عثمان، من ولَّاهم من أقربائه، وكان من أبرز رموز الثورة ضد عثمان، ثم بايع بعد مصرعه الخليفة علي، وحارب معه في موقعة الجمل، وقُتِل فيها بعدما قاتل بشراسة.

نيار بن عياض الأسلمي

ينقل ابن حجر العسقلاني في «الإصابة في تمييز الصحابة» عن الطبري أن نيار بن عياض كان من أصحاب الرسول، عليه الصلاة والسلام ، وكان في أثناء الفتنة شيخًا كبير السن وكان من الذين تحدَّثوا إلى الخليفة عثمان في أثناء حصاره، وناشده أن يتنحَّى عن الخلافة، وبينما كان ينادي على عثمان خارج البيت، رماه أحد موالي عثمان بسهم من داخل البيت، فقتله، فأثار هذا الفعل حفيظة الثائرين، وطالبوا بالقصاص له، واحتدمت الأجواء.

مَن عارضوا عثمان ولم يثوروا عليه

وهناك من عارضوا عثمان بن عفان لأسبابٍ شخصية بحتة، مثل عمرو بن العاص. يذكر ابن كثير الدمشقي في «البداية والنهاية» في سرده للمفاعيل السياسية التي أدت في نهاية المطاف إلى قتل عثمان، أن عمرو بن العاص كان من أشرس الناقمين والمؤلبين على عثمان، بعد أن عزله الخليفة عن ولاية مصر، ووضع مكانه عبد الله بن سعد بن أبي السرح أخا عثمان في الرضاعة، وقد لاقى تحريضه أرضًا خصبة في مصر التي خرج منها المئات ممن شاركوا في الثورة، ثم بعد استشهاد عثمان، انضمّ إلى معاوية مطالبًا بالثأر للخليفة المغدور! وقاد الجيش الذي انتزع مصر من كل خلافة الإمام علي كما ذكرنا آنفًا.

وممن نُقِل عنهم أيضًا معارضة عثمان بن عفان، العالِم الكوفي زيد بن صوحان، الذي أسلم في عهد النبي، عليه الصلاة والسلام، لكنه لم يقابله، وقد شارك في الفتوحات في عهد الفاروق عمر، حيث قُطعت يده في معركة جلولاء، ينقل الذهبي في «سير أعلام النبلاء» أن زيد بن صوحان وجّه نقدًا شديدًا لعثمان قائلًا:

يا أمير المؤمنين، مِلتَ فمالتْ رعيتك، فاعتدلْ يعتدلُوا

وقصة الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، ومعارضته لسياسات معاوية المالية في الشام، التي انتهت بنفي الخليفة عثمان له إلى قرية الربذة الصغيرة على مسافة 170 كم من المدينة المنورة، معروفة ومشهورة.

وممَّن جهرُوا بمعارضة عثمان أيضًا، عبد الرحمن بن حنبل الجمحي، وهو ممن أسلموا في فتح مكة، ثم شارك في فتح دمشق في عهد الفاروق، وينقل ابن حجر في «الإصابة» أنه انتقد عثمان بشعره معترضًا على مخالفته لبعض سياسات أبي بكر وعمر، قائلًا:

ولكنْ خُلِقتَ لنا فتنةً … لكي نُبتلى بك أو تُبتلى
دعوتَ الطّريد فأدنيته … خلافًا لما سنّه المصطفى
وإنّ الأمينيْن قد بيّنا … منارَ الطّريقِ عليه الهدى

فنفاه الخليفة عثمان إلى خيْبر، ثم شفع له عنده علي بن أبي طالب، فأطلق سراحَه، ثم كان من أنصار الإمام علي في خلافته، وحارب مع في وقعتي الجمل ثم صفين، التي استُشهِدَ فيها.

التفريق الواجب بين الثائر والقاتل

هذا هو مربط الفرس في طرحِنا الحالي، الذي نحتاج إليه في واقعنا الحاضر، التمييز بين الثائر والقاتل الغادر، والتأكيد على حق الأمة في مساءلة حكَّامها ومحاسبتهم، واستخدام وسائل التصعيد المختلفة لا سيَّما السلمية في حالة عدم رفع المظالم، وفي المقابل، تعظيم حرمة الدماء في الصراعات الداخلية، واستنكار سفكها إلا دفاعًا عن النفس ضد عدوان مسلّح.

ومن أدلة هذا التمييز، أن الخليفة عثمان بن عفان نفسه لم يكن على طول الخط رافضًا لكل طلبات المعترضين، فقد استجاب لبعضها، مثلما حدث عندما أخرجَ أهل الكوفة واليه على العراق سعيد بن العاص، وراسلُوه طالبين أن يتولى عليهم الصحابي أبو موسى الأشعري، قبل هذا كما ينقل خليفة بن خياط في أحداث عام 34هـ في تاريخه، كما ينقل ابن سعد في «الطبقات الكبرى» أنه في عام 35هـ عندما بلغَه اقترابُ وصول الثوار المصريين إلى المدينة، أرسل إليهم الصحابي محمد بن مسلمة ليتفاوض معهم، ويبلغه بأنه مستعدٌّ لإجابة طلباتهم.

وإذا عدنا الآن إلى مسألة اعتماد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب على بعض من ثاروا ضد عثمان، فإنني أراها بالغة الأهمية، إذ لا يكاد يختلف اثنان من المسلمين سنة أو شيعة، على أن الإمام علي كان نموذجًا في مثاليته وصراحته والتزامه المبادئ حرفيًا، ونُقِلَ في حقه عن الرسول، عليه الصلاة والسلام، ما لم يقُله في حق غيره «من كُنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاه»، فهل يمكن أن نصدق أنه كان يرى الثائرين جميعًا قتلة لعثمان، لكنه لأسباب «براغماتية» قرر التغاضي عن هذا والاستفادة منهم في جيشه ودولته؟ أم نفترض الأسوأ، أنه كان يتظاهر علنًا بالدفاع عن عثمان في أيام الحصار الأخيرة وأنه له ناصح أمين، بينما كان يحيك المؤامرات ضده في الخفاء؟

إن في هذا طعنًا أخلاقيًا جسيمًا في عليّ، إلى جانب ضعف هذا الطرح تاريخيًا، فلو كان الخليفة الرابع علي من أصحاب المناورات السياسية، لداهَن – مثلًا – معاوية والي الشام أغنى الولايات آنذاك، واشترى الولاءات بالأموال والوعود السياسية كما فعل معاوية حتى يرسخ حكمه، وتجنَّب الصدام العسكري الكبير الذي حدث في صفين عام 37هـ.

وقد حوَت المصادر التاريخية تكرار نفي الإمام علي لضلوعه في التآمر ضد عثمان، فمثلًا ينقلُ عنه، شيخُ الإسلام ابن تيمية – وهو في أطروحاته من أشد المدافعين عن خصومه من الأمويين لا سيَّما معاوية – تبرُؤَه من جريمة قتل الخليفة المغدور قائلًا:

والله، ما قتلت عثمان ولا مالَأْتُ على قتله … اللهم، الْعنْ قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل ..

وينقل ابن كثير في «البداية والنهاية» أن عليًا كان ينصح عثمان بما يفعل لتهدئة خواطر الثائرين ونزع فتيل الأزمة، فطلب منه أن يخرج في خطبة ويعتذر عما ظهر منه من بعض الميل لأقربائه في المناصب، ثم احتدَّ على عثمان عندما تراجع عن بعض تعهداته الإصلاحية للثائرين بتحريضٍ من مروان بن الحكم الأموي الذي كان يؤثر عليه في أواخر خلافته، وأنذره بأن نصائحَ مروان ستوردُهُ المهالك (وللأسف أثبت التاريخ صحة مخاوف الإمام علي).

في المقابل، ينقل الذهبي في «سير أعلام النبلاء» أن عليًّا قد امتدح بعض إنجازات عثمان، وعلى رأسها جمع القرآن الكريم، وتوزيع النسخة التي جُمعت في عهد الصدّيق وحُفظت في بيت أم المؤمنين حفصة على المناطق الإسلامية.

وبناءً على ما سبق – وغيره مما لم تتَّسع له المساحة المحدودة هنا – فأرى من المنطقي الاعتقاد بأن الإمام علي كان يميز بين المعارضين لعثمان والثائرين عليه من جهة، وبين من اشتطوا في الخصومة لما احتدمَ الصراع وحاصروه بشكل غير إنساني في منزله، رضي الله عنه، ثم قتلوه غدرًا في عتمة الليل، وذابوا وسط الجموع الثائرة فلم يُمكن تحديد شخوصهم بشكلٍ قطعي، أما لماذا لم يقتص منهم بعدما نال السلطة، فغالب الظن، إنه لم يتمكن الجزم بأعيانهم، ولن ينفذَ القصاص من القتلة بالشك والشبهة، وبالفعل، تضطرب المصادر التاريخية المتاحة – على اختلاف مشاربها – لدينا في تعيين أسمائهم، حتى يُنقَل عن نفس الشاهد على الواقعة ثلاثة أسماء لقتلة.

وقد واجه الإمام علي بعد ذلك جيشَ السيدة عائشة وطلحة والزبير، رضي الله عنهم، عندما تحركوا لمحاربة القبائل التي خرج منها ثوار العراق، وأدى هذا إلى فتنة كبيرة، آلت إلى وقوع موقعة الجمل 36هـ الشهيرة التي انتهت باستشهاد الآلاف وعلى رأسهم طلحة والزبير (وفي تلك الأحداث تفاصيل أكثر لا نحتاج للخوض فيها هنا).

ومما أراه نؤكد أن التوسيع في مفهوم (قتلة عثمان) من جهة معاوية بن أبي سفيان وأنصاره في وقت تمردهم على الخليفة الشرعي علي بن أبي طالب، كان من باب المزايدة السياسية ورفع السقف لتعجيز الإمام علي، ومحاولة إقامة الحجة الأخلاقية عليه أمام الرأي العام، ما نقله ابن تيمية في منهاج السنة من أنَّ معاوية عندما استتبَّ له الأمر بعد تنازل الحسن بن علي عام 41هـ، لم يشنّ حملة أمنية وقضائية لحسم قضية استشهاد عثمان، ولم يتتبعْ أكثر من بقوْا ممن ثاروا عليه وكانوا معروفين.

قد يرد البعض على ما ذكرته في الفقرة السابقة بأنَّ معاوية بعد استقرار الأمور لم يرغبْ في إثارة الفتنة، ولكن وفق هذا المنطق فكان الأولى بمعاوية أن يعذر الإمام علي في التأخر المزعوم في ملاحقة «قتلة عثمان» لأن الأمور لم تكن مستقرة بالفعل عندما بويع، كما أنه في المقابل من الثابت تاريخيًا أن ولاة معاوية على العراق بعد انتزاعه الخلافة، مثل زياد بن أبيه وعبيد الله بن زياد، قد شنوا على مدار سنوات حملات من القمع الشديد قتلًا وسجنًا (من دون مبرر حقيقيٍّ من الخروج المسلح) ضد أنصار الإمام علي وخصوم الأمويين من الخوارج القاعدين وغيرهم، مخاطرين بالاستقرار الهشّ الذي نشأ بعد اتفاق عام 41هـ بين الحسن بن علي ومعاوية، ولمزيد من التفاصيل عن هذا يمكن الرجوع إلى مقال سابق لنا: رجال حول معاوية: ظالمون ومظلومون في بلاط الملك.

وأيضًا اقرأ: أبو بلال مرداس .. خارجي عارضَ الأمويين والخوارج.

مسؤولية الفتنة بين الخليفة والثائرين ضده

ويجب هنا في خاتمة هذا الطرح أن نشير إلى أن تصاعد الأمور في تلك الأحداث إلى تلك النهاية المأساوية، يحمل شطرًا من مسؤوليته السياسية الخليفةُ عثمان بن عفان نفسه، فلم تكن في صالحه المقارنة بأداء سلفه الفاروق عمر الذي كان المقياس الذي يقيس عليه الناس آنذاك، لاسيما في سنوات خلافة عثمان الأخيرة، حيث تفاقمت ثقته الزائدة في قرابته من الأمويين وغيرهم، مما أعطى الفرصة للقيل والقال حوله توسعِه في إغداق المناصب والأموال عليهم، وعجزه نسبيًا – لكبر سنه ولين طباعه – عن السيطرة الحازمة على تصرفات بعض مرؤوسيه منهم، لاسيّما مروان بن الحكم الذي كان أشبه بمستشار شخصي له، وقد تظاهرت الروايات التاريخية على أنه كان يحرض عثمان على عدم تقديم أي تنازل سياسي للمعترضين عليه، فزاد الطين بلة في أيام الفتنة العصيبة.

ولعلَّه – رضي الله عنه – لو كان تنازل عن الخلافة عندما احتدمت الأزمة في الأيام الأخيرة وبان عجزه عن السيطرة على الأمور، وأعادها للاختيار بين من بقي كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار من أهل الشورى، لفوّت على المجرمين فرصة قتله، وكان هذا أنفع له وللأمة من الموقف السلبي المثالي الذي اتخذه، إذ لم يقدم حلًا سياسيًا بإصلاح كبير أو اعتزال، أو حلًا أمنيًا حتى، فيسمح لمن يريدون أن يدافعوا عنه أن يحموه بفاعلية، ولكن نخصص لهذا الحديث الهام مساحة لاحقة لنعطيَه حقَّه.

ولذا فخلاصة ما أراه، أن من اعترضوا على عثمان، ومن تمرَّدوا ضده بالقوة، لم يكونوا بالمُطلق ملائكة أو شياطين، فمنهم من خرج فعلًا للإصلاح وطلب الحق، ومنهم من خرج لأغراض أخرى تتنوع بين تعصبات قبلية أو مطامع مادية وسياسية ..إلخ، وليس من الإنصاف ولا من الصواب التاريخي تحميل كل من جاهر بالاعتراض على عثمان مسؤولية أن آلت الأمور إلى سفك دمه مغدورًا، فهو كان قائد الدولة المهيمن على مقاليد الحكم فيها، وكان يملك العديد من الصلاحيات السياسية والقضائية والأمنية التي كان يمكنها أن تستأصل ما حدث من جذوره، أو على الأقل الخروج منه بأقل الخسائر، وما يعنينا نحنُ في هذا الزمان المتأخر أن في تلك الأحداث دروسًا خطيرة لنا في السياسة والحكم والإصلاح والثورة وإدارة الأزمات.