لم نقدر على منع أنفسنا من الانفجار في الضحك عندما قرأ علينا الجزء الأول من رواية المحاكمة، وهو نفسه من شدة ضحكه كان أحيانًا لا يقدر على استكمال القراءة.
«ماكس برود»، صديق عمر كافكا.

هل ضحك كافكا؟ من الغريب ذكر كافكا والضحك في جملة واحدة، ومع ذلك فإن هذا ليس الموقف الوحيد الذي يضحك فيه كافكا، إذ يُذكر أنه «كان من المعروف أن كافكا كان يضحك باستمرار عند قراءة أعماله على الآخرين»، وفي رسالة إلى فيليس، خطيبة كافكا الثانية، يحكي كافكا لها عن أنه «ضحك في المكتب أمام المدير»، وذلك «ليثبت لها قدرته على الضحك»، وأنه «يريد من الناس أن يتذكروه بضحكه».

مشكلة كافكا

في بداية روايته الشهيرة «التحول» يتكلم كافكا عن شخص استيقظ ذات يوم إثر أحلام مزعجة، فوجد نفسه وقد تحول إلى حشرة. وفي روايته الأكثر اكتمالًا «المحاكمة»، يواجه شخص حكم بتهمة غريبة لا يدري إليها سبيلًا، وفي قصصه الأخرى يواجه الأبطال مفاجآت غريبة، ودائمًا ما تكون القصة متمركزة حول معاناة البطل لعواقب تلك المفاجأة، ودائمًا يفشل البطل في التغلب عليها، باستثناء رواية «أمريكا» التي اعتبر بعض النقاد نهايتها إيجابية.

ليس من السهل أيضًا النظر إلى كافكا باعتباره كاتب كوميديا سوداء، إذ إن كتاباته نادرًا ما تحتوي سخرية من أي شيء، بل إن كافكا يُعد على نحو مقبول في الأوساط الأدبية كاتبًا واقعيًّا مفرطًا في استخدام الوصف والتركيز على التفاصيل.

في الثقافة العامة، كافكا هو الكاتب الكئيب شديد الحزن والسوداوية، صيغ مصطلح kafkasque – كافكاوي بالعربية – للتعبير عن المواقف السريالية، شديدة الغرائبية والكابوسية، وأحيانًا عندما يفقد المرء السيطرة بشكل كامل. كافكا نفسه يتخيل الكتابة بأنها «يجب أن تكون الفأس التي تكسر الجليد الذي بداخلنا».

إذن كانت كتابات كافكا تخضع للتصنيف والتأويل المُسبق، فكافكا نفسه لم يكن خارجًا عن هذا الإطار.

فقط شيء واحد ضايق كافكا وأغضبه: عندما عامله الناس على أنه مجرد كاتب عن العزلة، والذنب والحظ العاثر.

هكذا كتب ديلوز وجويتاري عن كافكا، وعندما حكى زميل عمره برود حكاية ضحك كافكا – التي تعد مصدرًا أوليًّا لموقف الضحك عند كافكا – أشار إلى أن كافكا انفجر في الضحك رغم جدية الفصل الذي كان يحكيه، وهو ما يدلل عليه موقفه الدفاعي في رسالته لفيليس، حيث يذكر أنه «سيثبت لها أن بإمكانه الضحك». ففي حياته وبعد مماته على حد سواء أُسيء فهم كافكا تمامًا.

عندما ضحك كافكا

يحكي كافكا بنفسه في رسالته إلى فيليس حيثيات ضحكه:

تم استدعاؤه للمكتب هو وثلة من رفقائه، وكان مدير المكتب يلقي خطابًا يملؤه الفخر والاعتزاز بنفسه بما يتناقض مع مرتبته، حاول كافكا جهده كبت ضحكاته، لكنه في النهاية لم يقدر على منع نفسه من الانفجار في الضحك. استمر كافكا في الضحك بصوت عالٍ والمدير يتجاهله، ثم يقرر زميله أن يُلقي خطبةً مفاجئة ينصح فيها، مما دفع كافكا للانفجار في الضحك أكثر وأكثر، حتى تحول ضحكه و«انفصل» عنه ولم «يعد يعرف علامَ يضحك»، وفي النهاية اختلق كافكا أعذارًا غير مقنعة لتبرير موقفه، الأعذار التي قبلها المدير بسرعة حفظًا لماء وجهه، ثم سمح لهم بالانصراف، وكان كافكا أول من خرج من المكتب.

الموقف الأصلي أكبر وأكثر توسعًا، حيث يسهب كافكا بوصف تفاصيل المدير وتحليل الأسباب وراء ضحكته، والتنظير عليها كما لو أنها عمل فني. عندما يضحك كافكا فإنه يفسر ضحكه في البداية على أنه تراكم لنكات المدير القديمة التي تذكرها، ثم يتحدث عن وضعية المدير وتشابهه الشديد مع الإمبراطور بما يتنافى – أو يتماثل – مع أهميته الحقيقية، ويتذكر ردود فعل زملائه المُحرجين، وفي النهاية تفقد ضحكة كافكا تماسكها وتنفصل عنه كما يصف «أنا وضحكتي».

يحاول الناقد أنكا في بحث له تحليل «ضحك كافكا»، وحيث إن كافكا نفسه يقدم بالتفصيل شرحًا لمراحل ضحكه، فإن أسباب ضحك كافكا المحتملة وفقاً لأنكا هي:

  1. يضحك كافكا في البداية بسبب نكات الرئيس، ضحكًا عليها وليس بسببها – أي إنه يسخر منها – لذا فإنه لا يرى أي مبرر لحكاية أي من هذه النكات التي كانت البداية لضحكه.
  2. يتحول هدف الضحك إلى المدير نفسه، بسبب أسلوبه وخطابه الذي ينم عن اعتزاز واستعلاء ذاتيين غير متناسقين مع سلطته وأهميته الحقيقية، حيث يكتب كافكا أن «شخصًا مثله [المدير] … يستجلب الضحك». لكن كافكا كان يشعر بالتناقض إزاءه، لأنه كان صديقًا لوالده، وسببًا في حصوله على الوظيفة، رغم كون كافكا يهوديًّا، ويتردد موقف كافكا من المدير بين «صديق والده صاحب الفضل» و«المدير المغتر بنفسه».
  3. يلاحظ كافكا التناقض بين أهمية المدير الحقيقية واعتزازه بنفسه، في التناقض بين كرشه «المنتفخ» ووضعيته الجسدية المضحكة، في مقابل لحيته ذات المظهر المهيب.
  4. في موقف المدير يصف كافكا تشابهًا مع قصة شعبية عن الإمبراطور النمساوي، الذي أراد إظهار تواضعه وقربه من شعبه، فقرر إعطاء خطب خاصة مرتين أسبوعيًّا لفرد مختار من شعبه، ارتدى الإمبراطور زي الملازم العسكري المنخفض الرتبة، بالرغم من ذلك ظل متصنعًا وعديم المشاعر، فاقدًا للفكاهة وغير محبوب، يرى كافكا في موقف المدير مقاربة للإمبراطور.
  5. يضحك كافكا على ردة فعل المدير وزملائه، إذ يؤكد صوته العالي وضحكته الواضحة كي يحاول التأكيد على مبالغة ضحكته «لأن مثل هذه النكات [نكات المدير السخيفة] تستدعي مجرد ابتسامة طفيفة تغير القليل من ملامح الوجه، بينما كنت أنا أضحك بصوت مرتفع»، يحاول كافكا أيضًا في هذه الفقرة التأكيد على «قوة ضحكته» وبروزها كتأكيد فيما بعد على استقلاليتها.
  6. يضحك كافكا على المدير اليهودي الذي توجب عليه أن «يتكيف ويتحول لمواطن مندمج» كي ينال منصبه الحالي. إن المدير يخفي يهوديته كي يظهر أنه مندمج ثقافيًّا، وهو ما يجعل لضحكة كافكا صدًى «يهوديًّا» في وجهة نظر الكاتب.
  7. تظهر علاقة كافكا بوالده على هامش القصة، بالضحك على المدير فإن كافكا يرد بطريقة ما على والده – من الملحوظ رؤية المقاربة بين الوالد/المدير/الإمبراطور باعتبارهم أوجه مختلفة للسلطة في حياة كافكا – في رسالة لوالده يصفه كافكا فيها بأنه «طاغية» و«أنه السلطة المطلقة»، يشير كافكا إلى أنه «بدأ في ملاحظة وجمع بعض الأشياء المضحكة عن والده، والمبالغة في تصويرها»، إنها نفس النكات التي تسخر من الآلهة والملوك، مع ما تحتويه من خشية وخوف منهم.
  8. يضحك كافكا أيضًا على نفسه. يشير كافكا إلى الضحك بوصفه جزءًا منفصلًا عن شخصه، «أنا وضحكي»، هنا تمتد ضحكة كافكا حتى تصير موجهة نحوه أيضًا.
  9. يمتد ضحك كافكا تمامًا حتى ينفصل عنه، حيث إنه يضحك من ضحكاته السابقة والتالية وكل النكات، في النهاية تتكون سلسلة لا نهائية من الضحك المستقل بذاته.
على أن هذه اللحظة من المتعة المستقلة لا يمكن أن تُساوى بالفرحة.

بالرغم من كل هذا، فإن الكاتب يشير إلى أنه من المُحتمل أن ضحك كافكا – باستثناء نكات المدير السخيفة – لم يكن ذا هدف محدد، «لم يكن أحد يعرف علامَ أضحك»، يقترح الكاتب أن اللغة الإنجليزية هي ما تؤدي للافتراض الخاطئ بأن الضحك يجب أن يكون «على شيء ما»، إذ إن الضحك قد يستقل في سيادته الخاصة في مقابل السيادات الأخرى، التي قد تكون المدير، أو الإمبراطور، أو والده، أو حتى هدف الضحك نفسه.

يشير كافكا إلى أن ضحكه ليس عن سعادة، إنما الفخر هو ما يوجِّه ضحكة كافكا. الفخر بأن الضحكة استقلت بذاتها في مواجهة السيادات الأخرى، لم تقدر ضحكة كافكا على هزيمة السلطة، لكنها على الأقل كانت قادرةً على الاستقلال عنها.

ليست هذه القصة الوحيدة التي تحمل في طياتها جانبًا مغايرًا لشخصية كافكا المعروفة، فمثلًا، خلال وجود كافكا في مصلحة لعلاج السل، أرسل إلى أخته مقالة ساخرة حول أن النظرية النسبية لأينشتاين قد تشير إلى علاج لمرض السل، وبعد احتفال عائلته كلها بهذا الخبر، يخبرهم بأن المقالة لم تكن صحيحة، وفي مراجعة لكتاب يؤرخ لحياة كافكا يذكر الكاتب ريفكا أن حياة كافكا مليئة بمثل هذه المواقف، ويتساءل الكاتب في سخرية: «لماذا نقرأ عن حياة كافكا بدلًا من القراءة له؟».

ولكن، هل ضحك كافكا حقًّا؟

من الغريب طرح هذا السؤال بعد ذكر هذا الكم من وقائع ضحك كافكا. من المهم قبل الإجابة الإشارة إلى أن النقاد عاملوا كافكا وأعماله باعتبارهما شيئين منفصليان، فمثلًا يذكر الكاتب «رينر ستاش» الذي أرَّخ لحياة كافكا في ثلاثة كتب أن «التوافق بين أعمال كافكا وحياته الشخصية ملهم على نحو ضئيل».

إن هذا يعني أن حياة كافكا الشخصية نفسها لم تُرَ على أنها منظور جديد لرؤية أعماله، وبهذا فإن البحث عن ضحك كافكا في أعماله شيء مُتعلق بما يمكن للعمل نفسه أن يحكيه، وهذا يعني بالنظر إلى الكم الهائل من التفاسير والتأويلات المختلفة، أن تلك المهمة معقدة للغاية وغير قابلة للوصول.

لهذا على سبيل المثال تجنب والاس في مقالته الشهيرة «الضحك مع كافكا» ذكر موقف واحد من حياة كافكا الشخصية. أشار والاس في مقالته إلى طبيعة النكتة الأمريكية وكيف أنها تهدف إلى التهدئة والطمأنينة. إنه يشير إلى فكاهة معقدة وصعبة في قصص كافكا، تستخدم نظرية فرويد الشهيرة عن الضحك:

الضحك هو إشارة جسدية لإطلاق الطاقة العصبية أو العاطفة المكبوتة.

أو بعبارة أخرى، الضحك هو انفجار لضغوط داخلية مكبوتة. بالطبع نمتلك طاقة مكبوتة حول مصيرنا في الحياة، ومآلات وجودنا، لكنها لن تنفجر إذا كانت النهاية والصراع نفسهما تعيسين، حتى إذا أراد والاس تبرير هذا بأن «رحلتنا اللانهائية والمستحيلة إلى الوطن هي موطننا في الواقع»، ربما قد تشعر بشيء ما في رحلة «سامسا» المؤسفة نحو اللاوجود، لكن من المؤكد أن إحساسك بأنه قد يكون أنت، لن يجعلك تضحك.

من وجهة نظر أخرى، فإن واقعية كافكا تخلق بيئة تتقاطع فيها الكوميديا والتراجيديا بلا فواصل واضحة، حيث إن الأحداث المؤسفة تشكل في النهاية نوعًا من أنواع السخرية التي تُدعى بالكوميديا السوداء، لكن كافكا يأخذ حدود التراجيديا لأبعد بكثير من الكوميديا حتى تبتلعها، واستخدامه المفرط للتفاصيل واللغة الحقائقية يجعل من رواياته أكثر جفافًا، ربما يمكن التبرير لوجهة النظر هذه بأن الجروتسيكية قد تساعد أحيانًا في فهم كيف تعمل الكوميديا، ففي رواية «التحول» مثلً، تحول «جريجور سامسا» إلى حشرة ما هو إلا تجسيد كوميدي لمخاوف سامسا.

إن كان ضحك كافكا غير مبرر أو واضح، فذلك لأن كافكا قد نزع نزعًا عن أعماله، بالرغم من أن التطابق المذهل – المذكور سابقًا وفقًا لكاتب سيرة ذاتية لكافكا – بين حياته وأعماله يدعونا على الأقل لاستنتاج الوضعية النفسية لكافكا، فإن كافكا نفسه يظهر أنه كان معارضًا بنحو ما للنظرية الفرويدية، ويرى أن ما تفسره «هو مجرد انطباعات العالم الخارجي بداخلنا»، وهل الإنسان إلا اجتماع لمزيج معقد من العوامل الخارجية بعد انعكاسها عليه؟

إن شكوك كافكا تجاه علم النفس تظهر جانبًا من أزمته الوجودية وعقدة الذنب، الناشئة عن علاقته المعقدة مع والده، ومع انعكاس والده كمجاز للسلطة الشمولية المطلقة التي لا يعرف إليها طريقًا، ليس من المجازفة القول بأن انعكاسات السلطة في أعمال كافكا مصدرها علاقته المعقدة بوالده.

والحديث عن انعكاسات عقدة الوجود في رواية «المحاكمة»، حينما ينحدر البطل نحو الهاوية، ليتسبب في إعدام نفسه في النهاية، اشتُقَّت كل هذه التفاسير من حياة كافكا الشخصية. من الصعب أكثر الحديث عن تفاسير مثل هذه إذا كانت علاقة كافكا بوالده أفضل أو أكثر اتزانًا.

ما هو مثير للسخرية أن كافكا نفسه أحس بما قد يواجهه من سوء فهم نتيجة لطبيعة أعماله، وربما شعر بأن عقدة الذنب تسيطر عليه وتكاد تهزمه لدرجة محوه من الوجود كما أبطاله، فكان كافكا في ضحكه منفصلًا عن أعماله الخاصة.

لم يرغب كافكا في أن تكون ضحكته نابعة من أعماله، ذلك لأن أعماله هي ما كانت السبب الرئيسي لأن يضحك، لقد ضحك كافكا ليثبت للجميع أن أعماله «الكابوسية والسوداوية» هي مجرد جزء من شخصيته، وأن كافكا بإمكانه أن يكون أكبر بكثير من هذا الجزء، هذا هو سبب لهفة كافكا في إثبات موقف ضحكه في المكتب، والإشارة إلى أن «هذه الحكاية سبقت سمعته في المكتب».

لم تكن رسالة كافكا لفيليس سوى نوع من أنواع المحاكمة، وكذا ضحكاته الشهيرة أمام «برود» – التي يقول كافكا عنها فيما بعد في رسالة لأخت حبيبته إنها «لم تكن لطيفة، بغير سبب واضح، وكانت مؤلمة ومثيرة للخجل» – التي أراد فيها أن يُظهِر أيضًا أن كل ما يكتبه غير ذي علاقة بما يشعر به.

لكن بالنظر إلى الطريقة التي وصف بها كافكا ضحكته في المكتب، هناك أيضًا علامات على أن ضحكه كان وسيلة للتدليل على أنه فنان ناجح، فقد قال نيشته في كتابه الشهير – الذي امتلك كافكا نسخةً من – «هكذا تحدث زرداشت»، اضحكوا على أنفسكم لأن الضحك أمر واجب! وفي «جينالوجيا الأخلاق» يذكر أن الفنان يصل لأقصى درجات نجاحه، عندما يضحك على نفسه.

إن كافكا لا يضحك فقط للتدليل على موقفه من عقدة الذنب، ولكن لإثبات أنه فنان، وفنان حقيقي. يقول كافكا: «أنا أتكوَّن من الأدب»، والضحك هو السبيل لإثبات أن كافكا قادر على مواجهة أعماله الخاصة وعقدته الموجودة فيها في آن واحدٍ والضحك عليها ومواجهتها، وعلى نحو خاص فإن كافكا كان يضحك كوسيلة للمقاومة والاستقلال من السلطة المطلقة في حياته، سواء أكانت والده أم مجازاته، وهو ما يذكره أنكا في تحليله لضحك كافكا.

المشكلة هنا، أنه حتى عندما ضحك لم يتخلَّ عن شعوره المرهف بالذنب، نتذكر على نحو مُحدد عندما قال كافكا إن «القصة ستسبق سمعته في المكتب»، الكلمات الأخيرة لك قبل تنفيذ حكم الإعدام بحقه، عندما كان خائفًا من أن العار سيستمر حتى بعد موته، بالطبع ما زال كافكا يتمنى أن تسبق ضحكته سمعته في المكتب، لأنه بدونها، لن يكون هناك أي سبيل للتخلص من عاره أبدًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.