بعد سلسلة من الهزائم على يد الأمويين، لجأ الخوارج إلى الدعوة السرية لأفكارهم، ووجدوا في أطراف الدولة الإسلامية آنذاك ملاذًا لهم بعيدًا عن ملاحقات السلطة، بل وتربة خصبة ساعدت على نشر معتقداتهم بين سكان هذه المناطق.

يذكر محمود إسماعيل في كتابه «الحركات السرية في الإسلام»، أن الخوارج شكلوا أحد أحزاب المعارضة في الإسلام، وكان فكرهم السياسي معبرًا عن قطاع عريض من الجماهير الساخطة على الخلافة في ذلك الوقت، فبينما قصر أهل السنة حق الإمامة على قريش، وجعلها الشيعة حكرًا على آل البيت وحدهم، نادى الخوارج بأنها حق متاح لكل مسلم دون النظر لأصله أو عصبيته.

والخوارج كانوا من أنصار علي بن أبي طالب، ومن خيرة جنده، وأكثرهم إيمانًا بعدالة قضيته، وقد رفضوا مبدأ التحكيم من أساسه لأنه يعني التشكيك في شرعية إمامته، ومن ثم خرجوا عليه لرفضه استمرار القتال في صفين واستجاتبه لضغوط الأكثرية من جنده الذين رغبوا في وقف القتال لما رفع جيش الشام المصاحف على ألسنة الرماح، ومن ثم قبوله التحكيم.

نقل الثورة إلى الأطراف

ثار الخوارج على الإمام علي مرارًا، وأقضّوا مضاجعه بإغاراتهم المستمرة على البصرة والكوفة، فضلًا عن ثوراتهم الدائبة في الولايات الشرقية، غير أنه بطش بحركاتهم في عنف وقسوة، وهذا ما يفسر تآمرهم على حياته التي انتهت بطعنتين من عبدالرحمن بن ملجم المرادي في 17 رمضان سنة 40هـ، روى «إسماعيل».

واستمرت ثورات الخوارج بعد مقتل علي فانضموا إلى عبدالله بن الزبير الذي ناوأ الأمويين في الحجاز والعراق لما أظهر الميل لمذهبهم، ثم انقلبوا عليه حين لاح لهم أنه يظهر خلاف ما يبطن، ودارت معارك كثيرة بين الطرفين أُزهقت فيها الآف الأرواح من الخوارج.

وبعد مقتل ابن الزبير وجد الخوارج أنفسهم وجهًا لوجه أمام بني أمية، فحل بهم بطش واضطهاد على يد كثير من الولاة، فكان الأمويون يقتلونهم بـ«التهمة والظن»، ويبعثون الجيوش تقتفي آثارهم من بلد لبلد، حتى استؤصلت فرق الخوارج واختفت من المسرح السياسي.

وزاد في ضعف الخوارج في العصر الأموي انشقاقهم إلى جماعات متناحرة جاوزت عشرين فرقة، كل منها تكفر ما عداها، ما أدى إلى تشتيت جهودهم وأتاح لخصومهم ملاحقتهم والقضاء على ثوراتهم.

وبحسب «إسماعيل»، وصلت أحوال الخوارج في أواخر القرن الأول الهجري إلى حالة من الضعف استحال معها أن يوصلوا نشاطهم السياسي بصورته العلنية، فكان عليهم أن يغيروا من أساليب كفاحهم بنبذ طريق الثورة السافرة في قلب العالم الإسلامي واتباع أسلوب الدعوة المستورة وتنظيم العمل السري، ونقل ميدانهم إلى الأطراف بعيدًا من متناول الخلافة.

والواضح أن معطيات عدة ارتبطت بظروف البيئة الدينية والسياسية والاجتماعية في هذه الأطراف أسهمت في نشر فكر الخوارج بين سكانها، بل وتحول هذا الفكر إلى أسلوب عمل ترتب عليه اندلاع ثورات عارمة، بعضها فشلت، في حين نجحت أخرى ووصل الحال بها إلى إقامة دول.

البحرين: تضرر اقتصادي من سياسة الأمويين

تسرب الفكر الخارجي إلى البحرين وانتشر خلال سنوات الفتنة، ووجد فيه بعض سكان المنطقة سلاحًا للثورة ضد الدولة الأموية التي أضرت بمصالحهم وأفقدت منطقتهم المكانة الاقتصادية التي كانت تتمتع بها، بحسب ما ذكرت الدكتورة لطيفة البكّاي في كتابها «حركة الخوارج نشأتها وتطورها إلى نهاية العهد الأموي (37 – 132هـ)».

وتشرح «البكّاي»، أن البحرين صارت بعد الفتح الإسلامي تابعة للمدينة ثم أُلحقت في خلافة عثمان بن عفان بالبصرة، وشهدت تلك الفترة هجرة عديد من أبناء البحرين إلى العراق، بخاصة البصرة.

وكان لمجمل هذه الأحداث تأثير على أوضاع البحرين، فربط المنطقة بالبصرة حرم سكانها من عائدات منطقتهم التي صارت تُنقل إلى البصرة وتُوزّع على المقاتلين.

كما أن تولي البصريين مهمة فتح فارس والمنطقة الموجودة شرقي الخليج حرم البحرين من عائدات الفتوحات، إضافة إلى أن تأسيس البصرة وتحولها إلى أهم مركز تجاري مع الهند كان له تأثير على هذا النشاط في البحرين، فكساد التجارة في «دارين» أهم موانئ البحرين يدل على أن ازدهار تجارة البصرة لم يكن في صالح المنطقة، والأرجح أنه كان على حسابها.

وبدورها، تأثرت صناعة النسيج بهذه التحولات. تشرح «البكّاي»، أن بعض سكان المناطق التي كانت تروّج فيها منسوجات البحرين صاروا يفضلون المنسوجات المقبلة من العراق ومن المناطق الشرقية للإمبراطورية.

ويمكن القول إن البحرين بدأت منذ الفتح الإسلامي تفقد مكانتها الاقتصادية تدريجيًا، ما أثّر على أوضاع من تبقى من سكانها وبخاصة المستقرون منهم والمهتمون بالأنشطة الحضرية، وهو ما يفسر قيام تحركات الخوارج في أهم مدن البحرين، وهي القطيف وهجر، مثل انتفاضة نجدة الحنفي عام 66هـ، والريان النكري سنة 79هـ، وداود بن محرز الذي ثار فور مصرع النكري، غير أن هذه الحركات دُحرت وباءت بالفشل.

وبحسب «البكّاي»، يمكن إرجاع جزء كبير من أسباب هذا الفشل إلى تضارب مواقف قبائل البحرين من تحركات الخوارج، بخاصة قبيلتا الأزد وعبدالقيس، وذلك بسبب التنافس القبلي بينهما، فقد اقتصرت التحركات الخارجية على أبناء عبدالقيس، وكان أغلب المشاركين فيها من هذه القبيلة، أما قبيلة الأزد فكان موقف أبنائها مناقضًا تمامًا إذ عارضوا هذه التحركات، وأسهم العديد منهم إلى جانب الدولة الأموية في القضاء عليهم، فقد كون منهم محمد بن صعصعة جيشًا يقوده عبدالله بن الملك العوذي للقضاء على تحرك الريان، كما قاد عبدالرحمن العوذي جيشًا لمحاربة داود بن محرز.

بيد أن أسباب أخرى تفسر فشل انتفاضات خوارج البحرين، منها التشتت الكبير للمجموعات الخارجية وغياب التنسيق الكلي بينها، وعدم قدرتها على تجنيد كل الناقمين على الحكم الأموي بما في ذلك أبناء قبيلة عبدالقيس، الذين كانت مساندتهم رغم أهميتها محدودة ورمزية أحيانًا، ولم تمكن من السيطرة على المنطقة وتخليصها من الحكم الأموي.

وهناك سبب آخر لفشل هذه الانتفاضات يتمثل في اندلاعها في وقت كانت فيه الدولة الأموية قد جندت قوة من الشاميين، تركزت مهمتها في قمع الانتفاضات في العراق والمناطق المجاورة له.

اليمن: استغلال ثروات المنطقة ومحاباة الأقارب

شهدت اليمن تحركات للخوارج لأسباب سياسية في الأساس، منها تصرفات الحكام الأمويين وما أظهروه من محاباة لأقاربهم وعنف في معاملة بقية السكان واستغلال لثروات مناطقهم، ما جعل النقمة تتصاعد ضدهم وضد قريش التي صارت دولة بني أمية دولتها. وبحسب «البكّاي»، لم يكن هذا الحقد حكرًا على الخوارج بل شمل أغلب سكان اليمن.

على كل، لم تعرف منطقة اليمن انتفاضات خارجية باستثناء تحرك عبّاد الرّعيني الذي جرى سنة 107هـ ضد الوالى يوسف بن عمر الثقفي، وكذلك ثورة عبدالله بن يحيى الكندي سنة 129هـ ضد الوالي القاسم بن عمر الثقفي.

وفي الانتفاضة الأولى مُنح للرّعيني لقب «منصور حمير»، وقد يكون ذلك دليلًا على أن الهدف من تحركه هو تخليص سكان المنطقة من الهيمنة الأموية، غير أن عنف الثقفي جعله يفشل في تحقيق هذا الهدف، إذ سرعان ما أخمد هذا التحرك وقتل عبّاد وأصحابه وعددهم ثلاثمائة نفر.

أما انتفاضة عبدالله بن يحيى الكندي فانطلقت في بداية سنة 129هـ، وجاءت احتجاجًا على الظلم والجور الذي تفشى في هذه المنطقة بسبب السياسة التعسفية التي كان يمارسها الوالي الأموي القاسم بن عمر الثقفي، وما ولدته لدى سكان حضرموت وجنوب شبه الجزيرة العربية عامة من عداء للحكم الأموي. وتذكر «البكّاي»، أن تدهور الأوضاع في قلب الإمبراطورية وأطرافها الشرقية شجع على الثورة باعتبار أنه وفّر ظرفية مناسبة لإنهاء هذا الحكم.

وأطلق الخوارج على ابن يحيى اسم «طالب الحق» في تلك الفترة. وبحسب «البكّاي»، تحمل هذه التسمية على بساطتها معان عديدة، فهي تبرز من ناحية الغاية النبيلة التي خرج من أجلها عبدالله بن يحيى، وهي طلب الحق، وتنفي من ناحية أخرى عن صاحبها أي لون سياسي باعتبار أن طلب الحق هو غاية جميع المسلمين مهما كانت مبادئهم وقناعاتهم. وبذلك فإن كل الذين يعتبرون الحكم الأموي ظالمًا وبعيدًا عن الحق يمكنهم الانضمام إلى هذه الانتفاضة، وتكون التسمية بذلك بمثابة دعوة إلى كل مسلم للانخراط في هذه الحركة.

ما يؤكد أيضًا أن جمع شتات المعارضين للحكم الأموي كان أحد أهداف الخوارج هو رفعهم شعار «الدعوة إلى خلاف مروان وآل مروان»، وهو شعار عام يمكن أن يلتف حوله كل المعارضين دون تمييز، وعدد هؤلاء كان كبيرًا في حضرموت واليمن.

أيًا كان الأمر، فقد استولى عبدالله بن يحيى بعد حضرموت على صنعاء التي فرّ واليها القاسم بن عمر الثقفي بعد فشله في التصدي لعبدالله بن يحيى ومقتل عدد كبير من أفراد جيشه، ومن ثم صارت بلاد اليمن كلها تحت سيطرة الخوارج.

وبعد تحقيق هذا النصر، اتجه الخوارج في نفس العام مكة، فدخلوا المدينة المنورة بعد قتال مع أهلها، ثم اتجهوا إلى مكة، لكنهم دُحروا بعد انهزام الخوارج أمام الجيش الشامي بقيادة عبدالملك بن عطية السعدي، الذي لاحق الخوارج في اليمن وقضى عليهم أيضًا هناك.

بلاد الكرد: فقدان السلطة السياسية والامتيازات الطبقية

في الفترة الممتدة ما بين القرنين الأول والثاني الهجري، انتشرت أفكار الخوارج في أوساط الكرد، وشاركوا في حركاتهم، وباتت الجبال الوعرة في الإقليم ملاذًا لثوار الحركة، وذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية ترتبط بهذه البيئة التي شهدت تحولات عنيفة في عهد الدولة الأموية.

ويشرح الدكتور عطا عبدالرحمن محيي الدين في كتابه «حركات الخوارج في بلاد الكرد وما جاورها (غربي إقليم الجبال وشهرزور والجزيرة الفراتية) 41-218هـ / 661-832م»، أنه رغم أن منطقة غربي إقليم الجبال وشهرزورد وبعض أجزاء الجزيرة الفراتية كانت تابعة رسميًا للدولة الساسانية قبل الإسلام، إلا أن هذا لم يمنع من تمتع الأمراء وزعماء القبائل ومن ضمنها الأكراد باستقلال ذاتي بدرجة أو بأخرى، معترفين بالسلطة الاسمية للدولة، ومقابل ذلك كانوا يرسلون مبلغًا من المال إليها سنويًا، ولأجل ذلك منحتهم الدولة حق إدارة مناطق نفوذهم.

كما أن الكرد عُرفوا بنزعتهم الاستقلالية ورفض الخضوع والإذعان لغيرهم، ولعل هذا يفسر كثرة الحصون والقلاع التي بنوها حفاظًا على مدنهم ومراكز استقلالهم.

لذا فإن ظهور حركات الخوارج بين الكرد يرجع إلى التقلبات التي شهدتها بلاد المشرق الإسلامي، بعد أن فقدوا قلاعهم وسلطتهم السياسية وامتيازاتهم الطبقية في أعقاب الفتح الإسلامي لبلادهم، وأدى الشعور الذي اختلج في نفوس سكان المنطقة بهم إلى التفكير في الخروج على الخلافة الأموية، فانضموا إلى كل حزب وكل ثائر يعارض الدولة الإسلامية، وفتحوا مناطق لإيوائهم ومؤازرتهم بما أن في ذلك إضعاف لسلطة الدولة، بحسب «محيي الدين».

ولعل إقليم شهرزور خير مثال على ذلك، فعلى الرغم من قربه من العراق فإن الأكراد غلبوا عليه ولم يكن بها أمير ولا عامل معين من قبل الخلافة، أي أن السلطة السياسية للدولة الإسلامية لم تصل إليها لامتناع أهلها وصلابتهم.

 ومما دعم موقف أمراء هذا الإقليم في هذا الأمر هو تأييد وتحريض أبناء القبائل الكردية الرحل من الجبلالية واليابسان والسولية الذين جرّؤوا أمراءهم على مخالفة الخلفاء والانضمام إلى الخوارج، حين جعلوا حق الخلافة شائعًا بين جميع المسلمين ولا تُخصص بقوم دون قوم، وإنما تُستحق بالفصل والطلب وإجماع أهل الشورى.

من هذا المنطلق، أصبحت المنطقة ملجأ آمنًا للخوارج يلوذون به متى شعروا بالضيق والملاحقة، فكانت مؤازرة سكان الأقاليم بشكل عام والكرد بشكل خاص مشهورة. وخير دليل على ذلك ذهاب فروه بن نوفل، وهو من قادة الخوارج الأوائل عام 38هـ، إلى شهرزور، فأقام بجبالها الوعرة والمتشعبة حتى سنة 41هـ.

وبحسب «محيي الدين»، فإن ميل هذه القبائل إلى فكر الخوارج يرجع في جزء منه إلى النزعة الديمقراطية التي حملها الخوارج الذين دعوا لتحقيق المساواة بين جميع الشعوب والفئات، فبثوا هذه المفاهيم بين القبائل لأنها تنسجم مع تطلعاتهم في عدم الخضوع للحكم المركزي، لذا أصبحت المنطقة أكبر مركز لتجمع الخوارج في نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي، فكانت معروفة بكثرة حركات الخوارج فيها، مثل حركة مطرف بن المغيرة بن شعبة سنة 77هـ.

وهناك سبب اقتصادي آخر لإيواء سكان هذه الأقاليم للخوارج ومؤازرتهم، خصوصًا في العصر الأموي، يتمثل في زيادة الضرائب على الأهالي وجمعها بأشد الطرق تعسفًا وأثقلها على الطبقات التي كانت تؤديها، ووفقًا لعادات القبيلة، كان دفع الجباية يعد فقدانًا لاستقلالها وضعفًا لعصبيتها بالاستذلال لسلطات الدولة، إذ تعتبر الجباية معيارًا لامتداد سلطة الدولة ونفوذها على القبيلة.

يضاف إلى ذلك الضرائب الإضافية التي فرضها الأمويون، كالرسوم على الصناعات والحرف، فقد أرجعوا الضرائب الساسانية التي تُسمى «هدايا نوروز»، وهذه الضرائب أشد وطأة من الخراج والجزية لأنها لم تكن محدودة ولا مستندة إلى قاعدة مقبولة.

المغرب: اضطهاد البربر وحرمانهم من حقوقهم

ساعدت أحوال المغرب في أواخر القرن الأول الهجري وأوائل القرن الثاني على نزوح الخوارج المضطهدين في المشرق إلى بلاد المغرب، لنشر دعوتهم بين البربر وتحقيق ما فشلوا فيه من قبل من أهداف.

ويذكر الدكتور محمود إسماعيل عبد الرازق في كتابه «الخوارج في بلاد المغرب حتى منتصف القرن الرابع الهجري»، أن الولاة الأمويين في المغرب تسببوا في إثارة مشاعر الحقد والكراهية عند البربر على الولاة والخلفاء على السواء، ما أوجد مناخًا ملائمًا لانتشار مذهب الخوارج. إذ كانوا يتنافسون في جمع الأموال إرضاء للخلافة من ناحية، وكسبًا للأنصار وإشباعًا لنهمهم من ناحية أخرى، فعكفوا على إرسال الحملات والجيوش تضرب في أطراف المغرب أو تهاجم الجزر البحرية في البحر المتوسط بغية السلب والنهب، وفي كل تلك الجيوش كان البربر يشكلون غالبية رجالها، فكانوا أداة لخدمة أطماع الولاة.

كما أرهق عمال العصر الأموي الأخير البربر وأرهقوهم بالمغارم والجبايات، واعتبر بعضهم بلاد البربر دار حرب حتى بعد اعتناقهم الإسلام، جريًا على سياسة الخلافة الأموية في سائر الأمصار الإسلامية.

وبحسب «عبدالرازق»، حاول الخليفة عمر بن العزيز وضع حد لتسلط الولاة واستعادة ثقة البربر في الحكومة الإسلامية، فعين على المغرب واليًا تقيًا هو إسماعيل بن عبيد الله، وأمره بإسقاط الجزية على من أسلم من البربر وتحرير من استرق من نسائهم، وغيرها من الإجراءات الإصلاحية الأخرى ليحول بها دون جور الجباة واستبدادهم، لكن هذه السياسة انتهت بوفاته، وعادت الخلافة الأموية إلى سيرتها الأولى.

وتفاقمت الأحوال وازدادت سوءًا إبان ولاية عبيدالله بن الحبحاب، الذي أسرف في سياسته، فجّند الجيوش لسلب البربر وسبيهم في أقاصي المغرب، ونشر الهلع والرعب في تلك الأصقاع، وعين ابنه إسماعيل عاملًا على طنجة وجعل معه عمر بن عبدالله المرادي، فأساءا السيرة واعتبرا البربر فيئًا– أسلموا أم لم يسلموا– وعاملوهم معاملة الرقيق.

وإزاء هذه الممارسات، وجد البربر تناقضًا صارخًا بين تعاليم الإسلام ومبادئه بما تنطوي عليه من عدل ومساواة، وسياسة الأمويين الأواخر الجائرة، فأقبلوا على اعتناق فكر مذهب الخوارج، في ظل ما ينطوي عليه من تمسك بالشريعة في جانبها العقائدي، وثورية في قوامها السياسي، وبساطة ووضوح في جوانبها الفكرية، وهي أمور ملائمة لظروف المغرب الإسلامي وطبيعة سكانه.

ويشرح «عبدالرازق»، أنه إذا كانت الديمقراطية هي محور مذهب الخوارج وقوامه على اعتبار أن الإمامة حق متاح لكل مسلم، فبديهي أن يلقى هذا المذهب قبولًا لدى البربر الذين طال حرمانهم من المساواة مع العنصر العربي الحاكم، ومن الطبيعي أن تتولد لديهم نزعة قومية مغربية تتطلع لإزاحة نفوذ الأقلية العربية عن مكان الصدارة والحكم في إطار شرعي يكفله الدين، ولما كان مذهب الخوارج يقول بالثورة على الجائرين من الحكام فقد وجد البربر في اعتناقه مبررًا لانتفاضتهم على الحكم العربي.

وبمعنى آخرت اكتسبت نزعة الاستقلال عند البربر، بفضل مذهب الخوارج، طابعًا ثوريًا دينيًا، فالتقى البربر مع الخوارج في موقفهم من عدو مشترك ممثل في السلطة الأموية.

وفضلًا عن ذلك، فإن وضوح فكر الخوارج والتزامه بظاهر الدين وعدم ميله إلى الفلسفة والتأويل، جعله يتلاءم مع عقلية البربر، وبعبارة أخرى كان فكر الخوارج متسقًا مع طبيعة البربر.

ومن مظاهر هذا الاتساق، كما يذكر «عبدالرازق»، أن صفات الصلابة والقوة ممثلة في قول الخوارج بالاستعراض ورفض التقية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقابلها عند البربر شدة المراس وقوة البأس والميل الغريزي للعنف.

ومن بين فرق الخوارج، ظهرت فرقتان ظهورًا قويًا في بلاد المغرب، هما «الصفرية» و«الأباضية»، فانتشرت الأولى بين بربر المغرب الأقصى وبعض نواحي المغرب الأوسط، والثانية في المغربين الأدنى والأوسط، وقامت الفرقتان بثورات أسفرت عن قيام دولتين، إحداهما المدرارية للصفرية سنة 140هـ ومركزها سجلماسة، والأخرى الرستمية للأباضية وعاصمتها تاهرت سنة 161هـ.