دمشق 658هـ = 1260م: بعد يومين من انتصار العساكر المصرية بقيادة المظفر قُطُز على الجيش المغولي بالشام بقيادة كتبغا في عين جالوت – فلسطين.لا يجد المار في شوارع دمشق وأزقتها عناءً كبيرًا في تبيُّن آثار البركان الذي كان مُندلِعًا في جنباتها خلال الساعات الماضية. فالحرائق لا تزال مشتعلة هنا وهناك، خاصة في كنيسة مريم الكبرى وما حولها من دور النصارى التي أصبح بعضها قاعًا صفصفًا وبعضها هباءً منثورًا.

يخبرنا ابن كثير في البداية والنهاية – أحداث 658 هـ، أن بعض المسلمين كاد يفتك باليهود كذلك في خضم الفتنة الضارية التي حدثت لكن منعهم العقلاء، إذ لم يكن لليهود دورٌ سلبيٌّ فيما حدث، ولا يصح أخذ البرئ بما فعل المذنب.فما الذي أثار النفوس إلى هذا الحد، بعد 6 قرون ونصف من الوجود الإسلامي في دمشق؟ لفهم ذلك، سنعودُ إلى الوراء قليًلا.


أوقات عصيبة

كان العامان السابقان (656-658هـ) على فتنة دمشق الدامية من أشد الأعوام وطأة في تاريخ المسلمين. عام 656 هـ = 1258م، سحق التتار بغداد، عاصمة الخلافة لأكثر من 5 قرون، وقتلوا آخر خلفاء بني العباس – المستعصم – شرَّ قتلة. اندفع السيل التتري في الجسد الإسلامي المهلهل كالرصاصة في الفضاء المفرغ من الهواء. كان أغلب حكام البلاد الإسلامية – وهم المفترض حماة الأمة في معركتها الوجودية – ضعفاء بغاة، لا همَّ لهم إلا التصارع فيما بينَهمُ على النفوذ وتوسيع الدويلات التي يحكمونها.

لم تقتصر محنة المسلمين في هذه السنوات الصعبة على افتراس التتار للشرق الإسلامي، بل سبقها بسنوات مأساة الأندلس التي سقط معظم قواعدها في يد الصليبيين الأسبان خلال عشرين عامًا بدأت بسقوط قرطبة عاصمة الأندلس الإسلامية عام 633هـ. وهكذا أُتِيَ المسلمونَ من فوقِهم ومن أسفل منهم، فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وظنَّ الكثيرون بالإسلام والمسلمين ظنون الانحسار والفناء.

بعد أن ابتلع العملاق التتري العراق، دفع قواته لاحتلال جنوب الأناضول والشام. كانت هناك عدة دويلات إسلامية في المنطقة، أكبرها دويلة الناصر يوسف التي تضم دمشق وحلب، وهو ابن حفيد البطل العظيم صلاح الدين الأيوبي، إلا أنه لم يحملْ من سمات جده سوى الاسم. كان الشغل الشاغل ليوسف في السنوات الأخيرة هو انتزاع مصر من حكم المماليك الذين تسلطنوا فيها بعد بلائهم في صد حملة لويس التاسع على مصر، وكان آخر جهوده في هذا الشأن التحالف مع بعض خصوم حاكم مصر المملوكي، المظفر سيف الدين قطز، من المماليك وعلى رأسهم ركن الدين بيبرس.

اقرأ أيضًا:المماليك وشرعية المتاجرة بالنصر

في مطلع 658هـ، ألحقت الجيوش التترية حلبَ ببغداد في مذبحة يندى لها الجبين رغم تسليم أهلها بالأمان لجيوشهم. هزّّ تدمير الحاضرتيْن بغداد وحلب النفوس في الشام ومصر، خاصة حاضرة الشام دمشق التي شعر أهلها أن دورها هو القادم في قائمة الافتراس التتري.

فرّ حاكم حماة إلى القاهرة، وانضم حاكما الموصل وحمص للتتار. وكانت الطامة أن فرَّ الناصر يوسف فجأة، وترك قاعدة ملكه دمشق لقمة سائغة للتتار. سيمسك به التتار بعد مطاردات، ثم سينفث هولاكو غضبَه به وببعض أسراه من أمراء المسلمين عندما تصله أخبار هزيمة عين جالوت الساحقة أواخر هذا العام 658هـ. أما مدينة دمشق فسُلِّمت بالأمان، ولحسن الحظ التزم التتار بأمانهم.


ظهر الدين الصحيح .. دين المسيح!

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتبه عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدسِ: إنكم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم، لا تُسكن ولا تخرّب، إلا أن تُحدِثوا حدثًا عامًا …. وأشهَدَ شهودًا.

نص العهدة العمرية لنصارى، من تاريخ اليعقوبي ج2 صـ 46، وهو أقدم المصادر التاريخية التي أشارت إليها

لم يكُن الحظ فقط وراء استثناء التتار لدمشقَ من التدمير رغم مقاومة حاميتها في قلعة دمشق لفترة. فقد كان كتبغا قائد جيوش التتار بالشام ذا ميول نصرانية، ويُذكَر أنه أعجب بجمال المدينة ومبانيها وكثرة كنائسها فضنَّ بها على التدمير. كذلك عُيِّن حاكمٌ تتري لدمشق اسمه كما تذكر المصادر العربية: إبل سيان. وكان يُظهِر احترامًا شديدًا للنصرانية، وتعظيمًا لرجال الدين المسيحيين، وانحيازًا واضحًا لهم ضد المسلمين.

يذكر ابن كثير الدمشقي في ج13 منالبداية والنهاية،أحداث عام 658 هـ، أنه بعد تمكن التتار في دمشق، وظهور ميل قيادتهم فيها للنصارى، بدأ أعداد منهم في التعالي على المسلمين والبطش ببعضهم، وخرجوا جماعاتٍ يهتفون في شوارعها وميادينها: «ظهر الدين الصحيح … دين المسيح». وأخذت هذه المظاهرات العبثية تستفز المسلمين بتصرفات صبيانية كسَبِّ الإسلام والرسول عليه الصلاة والسلام في الشوارع، ورش الخمور على أبواب المساجد، وملابس المسلمين … الخ.

ولما اشتكى زعماء المسلمين إلى إبل سيان، أهانهم وطردهم من القلعة.تجرَّأ المعتدون من نصارى دمشق أكثر، وأعلنوا أنهم سيخربون مساجد دمشق، ويحولون بعضها كنائس، وأمعنوا في إهانة المسلمين معتقدين بقرب زوال شوكة الإسلام للأبد على يد التتار شرقًا والصليبيين غربًا.

نسيَ المعتدون ما حدث غير بعيد من دمشق قبل سنواتٍ قليلة، عندما أظهر نصارى مدينة بعلبك الاحتفال باحتلال حملة لويس التاسع الصليبية لدمياط عام 647 هـ، فكانت النتيجة أن نكَّل بهم المسلمون لما جاءت الأخبار بهزيمة لويس التاسع في المنصورة ثم فارسكور. بعد أسابيع، حدث ما لم يكن في حسبان المنحازين للمحتل.

بمجرد أن تسامَعَ الدمشقيون بسحق جيش مصر للتتار في عين جالوت، عمَّت الثورة أرجاء عاصمة الشام، ففتك الناس بالحامية التترية بالمدينة، ثم اندفعوا للتنكيل بالنصاري دون تمييز، وتعرضت الكثير من دور النصاري والكنائس للحرق والتشويه، واستمرت الاضطرابات حتى دخل جيش المظفر قطز المدينة بعد أيام، فسكنت الأمور. هنا ينتهي سرد التاريخ، لكن لابد من وقفة مع ما أوصل إلى مثل هذه اللحظة المدنسة بالخيانة والفتنة.


جذور للأزمة

وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم نفسه وأَثِم فإنه لا يُهلك إلا نفسه … وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
من نصوص صحيفة المدينة التي عقدها الرسول عليه الصلاة والسلام مع يهود المدينة بعد الهجرة

يعتبر ملف العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين من الملفات الشائكة على مدار التاريخ الإسلامي. وسبب حساسية هذا الملف يعود إلى جانبيْن رئيسيْن: أحدهما متعلق بالنص، والآخر التطبيق. سنحاول من خلال هاتيْن النقطتيْن البحث عن سبب الخيانة السابقة وأشباهها، وهدفنا بالطبع التفسير لا التبرير. والتركيز هنا على البعد الديني راجع إلى أن العصور الوسطى كانت تمتاز بالتعصب الديني، وشغل معظم فتراتها الحرب العالمية المفتوحة بين القوى الإسلامية والنصرانية في جبهات الشام والأناضول ومصر وسواحل البحر المتوسط والأندلس .. الخ. وقد أسهمت تلك الحرب في إذكاء التعصب الديني أكثر فأكثر.

بالنسبة للنص، فهناك عشرات الآيات القرآنية ومئات الأحاديث النبوية متصلة بشكل مباشر أو غير مباشر بهذه القضية. تكمن المعضلة في التناقض الظاهري بين ظواهر بعض النصوص الإسلامية، بين التسامح والتشدد تجاه غير المسلمين. ومالت أغلب محاولات الفقهاء للتوفيق بين هذه النصوص إلى جانب التشدد.

فمثلًا، في صحيح مسلم: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه»، يبدو من ظاهر الحديث – لا يُعرف على التعيين مناسبته – تعميم حكم عدم بدء غير المسلمين بالسلام، وعدم إفساح الطريق لهم، لكي لا يكون في ذلك تعظيمًا لهم. فهل الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة،والجدال بالتي هي أحسن، والتي وردت صريحة في القرآن الكريم تتناسق مع عدم البدء بالسلام، والتضييق في الطريق؟!

أما بالنسبة للتطبيق، فلحسن الحظ كان هناك ثابتان معلومان لدى المسلمين بالضرورة لا يخالف فيهما أحد، وهما عصمة دماء وأموال غير المسلمين الذميين ما لم يصدرْ منهم خيانة للإسلام والمسلمين، وعدم جواز إكراههم بشكل مباشر على الإسلام. لكن سوى هذيْن الثابتيْن، فإن أغلب التطبيق الإسلامي التاريخي امتاز بالتعصب تجاه غير المسلمين؛ الأمر الذي كان له دور في إضعاف انتماء هؤلاء إلى الدول الإسلامية، قديمًا وحديثًا. واتجه المتعصبون منهم إلى التآمر على المسلمين في أوقات هزيمتهم وضعفهم.

كثيرًا ما صدرت مراسيم سلطانية – من أشهرها مراسيم المتوكل العباسي 235 هـ – تأمر بهدم بعض الكنائس، وتُلزم غير المسلمين بزي معين، وتمنعهم من ركوب الأحصنة لئلا يعلوا على المسلمين. في أحيانٍ أُخَرْ، كان يتم منعهم من ارتداء الصلبان لعدم إظهار الكفر في بلاد الإسلام، بينما في زمانٍ آخر يؤمرون بارتداء صلبانٍ ثقيلة إهانة لهم، وتمييزًا عن المسلمين. وتبدو مثل هذه الإجراءات أو تلك، إكراهٌ غير مباشر على الإسلام ومبعث للفتن.

وقد استغلت القوى الخارجية المعادية مثل هذه التوترات كثيرًا لتفرض نفسها حامية للأقليات غير المسلمة في البلاد الإسلامية لاكتساب ولائهم، وهزِّ الاستقرار الداخلي من خلال هذا، ومن أبرز أمثلة هذا ما حدث في عصور ضعف الدولة العثمانية عندما كان الروس يتدخلون بحجة حماية الرعايا الأرثوذكس، وتتدخل الدول الأوروبية كالبندقية وفرنسا من أجل الكاثوليك.

كذلك حاولت إنجلترا بعد ثورة 1919، والتي ظهر فيها تفاهم كبير بين القيادات الإسلامية والمسيحية المصرية ضد الاحتلال، حاولت أن تجعل من حماية الأقليات أحد مسامير جحا الأربعة المستثناة من تصريح استقلال مصر فبراير 1922. في أضواء الحادثة التي تناولها هذا المقال، والإشارات الموجزة لجذور المشكلة نصًّا وتطبيقًا، كان الهدف إبراز أن قضية الأقليات غير المسلمة ستظل قنبلة موقوتة، ما لم يتم تداركها بجهود واسعة جماعية، تنظيرًا وتطبيقًا، من المخلصين من علماء الدين من الجانبيْن، ومن الساسة والمفكرين.