في مقابل المجتمع المدني والثقافة المؤسسية الغربية المتأثرة تاريخيًا ببنية الكنيسة الكاثوليكية والأخويات الرهبانية المسيحية كالفرنسيسكان والدومينيكان والجيزويت وغيرها، تنبثق على ضفتنا الحضارية الأخرى أسئلة عدة عن ماهية وشكل المجتمع المدني وأنماط المؤسسية التاريخية في العالم الإسلامي، وكذلك عن تعامل الدولة الحديثة في البلدان الإسلامية مع المجتمع المدني التاريخي، وجذور الانقطاع عن التراكم الحضاري الخاص بنا في هذا الإطار.

الإجابة على هذه الأسئلة تقدم لنا تصورًا عامًا عن إرث تاريخي ضائع في عالمنا العربي والإسلامي الذي ما زال يبحث حتى يومنا هذا عن حداثته الممكنة.


المؤسسية المفقودة في عالم المسلمين الراهن

الشيخ محمد عبده، مجلة «الجامعة العثمانية»، مايو/آيار 1899

في مقابل العراقة التي تتمتع بها عديد المؤسسات الاجتماعية في الغرب، التي نتج عن تفاعلها التاريخي واقع التعددية وتداول السلطة والحكم الدستوري وسيادة القانون والديمقراطية التي تتمتع بها المجتمعات الغربية، يعاني عالمنا العربي والإسلامي المعاصر من غياب واضح للمؤسسية على المستوى الاجتماعي، في مقابل تضخم دور الدولة المركزية.

فبينما يعود تاريخ الكنيسة الكاثوليكية علي سبيل المثال إلي ما يقرب من ألفي عام من التراكم والتنظيم الإداري والمالي، لا يتمتع عالم العرب والمسلمون في المقابل بهذا النوع من الاستمرارية المؤسسية والتراكم التاريخي حيث اتسمت التجارب السياسية والاجتماعية في التاريخ العربي والإسلامي بالشخصانية الواضحة، فعندما نستدعي المبادئ الكبرى والقيم المطلقة في الحكم، نجتر في ذاكرتنا التاريخية عادًة أسماء مثل عمر بن عبد العزيز، وعندما نبحث عن انتصاراتنا وتحققنا التاريخي نجده في أسماء من قبيل صلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز… الخ.

تغيب عن العقل الجمعي العربي والمسلم، المشاريع المؤسسية المتجاوزة للأفراد ولنموذج البطل الذي تصوره دعاة الإصلاح السياسي في التاريخ الحديث مثل الشيخ محمد عبده في مصر الذي كان يبحث عن المستبد العادل حتى يأتي ويطبق آراءه وتصوراته الإصلاحية، في حالة لافتة من الإرجاء السياسي تستحق التأمل.


البنية التاريخية المؤسسية في العالم الإسلامي

لا يوجد في تاريخ العالم الإسلامي تلك الثنائية، المدني/الديني، التي نشأ من خلالها مصطلح المجتمع المدني في أوروبا كمفهوم مقابل للمؤسسات الدينية التابعة للكنيسة، قبل أن يتطور إلى مفهومه الراهن، المنظمات غير الحكومية المقابل للحكومة ومؤسساتها.

ثنائية المدني/الديني في أوروبا يمكن فهم فحواها من خلال فهم أصول مصطلحي «laïcité» بالفرنسية، و«Secular» بالإنجليزية. يشتق المصطلح الفرنسي من اللفظ اللاتيني «laicus» المشتق بدوره من اللفظ اليوناني «laos» الذي يعني «العامة»، أو الشعب، في مقابل «الكهنة ورجال الدين المنتظمين في السلك الكنسي». ويستمد المصطلح الإنجليزي أصله من مفهوم «الدنيوي» في مقابل «الديني» على نحو يتسق أيضًا مع ما تعنيه «اللائكية» في الفرنسية.

على أحد جوانب المستوى النظري، يمكن أن نفهم المؤسسية التاريخية في العالم الإسلامي حيث المجال المدني لا ينفك عن الديني من خلال مفهوم الفروض الكفائية في الإسلام، وهي الفروض التي إن فعلها البعض تسقط عن الكل، وهي في المجمل تعبر عن وظائف اجتماعية/دينية لا يمكن أداؤها عادةً بالصورة الفردية، ولذا تحتاج في الغالب إلى شكل من أشكال العمل الجماعي.

من أبرز الوظائف الدينية التي تجلت في نماذج تاريخية قدمها المسلمون في هذا الإطار، السبل والتكايا والمكتبات والكتاتيب وحلقات تدريس الفقه المذهبي وطوائف الحرفيين والتجار. كما لعبت مؤسسة الوقف الإسلامية دورًا بالغ الأهمية في هذا الإطار.يقول د. إبراهيم البيومي غانم في هذا السياق إن «نظام الوقف شكَّل قاعدة مادية ومعنوية صلبة للعمران في الحضارة الإسلامية في عصور ازدهارها، حتى إن أغلب إنجازات هذه الحضارة تدين للوقف في مختلف المجالات كبناء وتمويل المساجد في المجال الديني، وتشييد المدارس والجامعات في المجال التعليمي، وتعمير القصور والفنادق والخانات والأسواق في المجال المدني، وبناء الحصون والقلاع والأسوار والأربطة في المجال الحربي، والبيمارستانات والمستشفيات والصيدليات في المجال الصحي، والمكتبات العامة في المجال الثقافي».

بحسب البيومي غانم، تعد «المؤسسية» من أهم العناصر التي كفلت فاعلية نظام الوقف في الممارسة العملية، وكانت في البداية تتسم بالبساطة والبعد عن التعقيد، ومحدودية العلاقات التنظيمية والإدارية، ثم تطورت بمرور الزمن، وتعقدت بفعل استمرارية التراكم التاريخي، وأصبحت كثيفة العلاقات سواء على المستوى الخاص بكل مؤسسة وقفية على حدة، وعلى المستوى العام، ولجهة ارتباط نظام الوقف بغيره من النظم الفرعية الأخرى في المجتمع.

وعلى عكس الإدارة الكنسية الكاثوليكية، تجلى عنصر «اللامركزية» بشكل أعلى كثيرًا في نظام الوقف الإسلامي من الناحية الإدارية، كما تجلت «اللامركزية» أيضًا بحسب البيومي غانم كأحد عناصر فاعلية نظام الوقف من الناحية الوظيفية، حيث لم تتركز الخدمات التي قدمها الوقف على مجال بعينه، أو لخدمة فئة محددة، بل انتشر على أوسع رقعة من النسيج الاجتماعي للأمة ومرافقها العامة بتكويناتها المختلفة؛ بغض النظر عن الجنس، أو الدين أو المكانة، أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي. ولم تنحصر ممارسة الوقف ولا خدماته في المراكز الحضرية دون غيرها من البوادي والأرياف والمناطق النائية، بل شملت كل تلك الجهات، بنسب متفاوتة بطبيعة الحال.


التحديث الفوقي في العالم الإسلامي

إنما ينهض بالشرق مستبد عادل … وهل يعدم الشرق كله مستبدًا عادلًا في قومه يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرنًا.

تناولت في تقرير سابق عددًا من تجارب التحديث الفوقي في العالم الإسلامي، وقدّمنا بعض النماذج في هذا الإطار، حيث تناولنا تجربة مصطفي كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، وما قام به الأخير من حظر الطرق الصوفية في تركيا، ومصادرة أملاكها، وإغلاق المدارس الدينية ومصادرة أموالها، وإصداره في هذا السياق القوانين التي عرفت لاحقًا بإصلاحات أتاتورك التي تضمنت مواد تقضي بمنع غطاء الرأس للنساء وتحظر اللباس التقليدي وتلزم الرجال الملابس الأوروبية.

وهي تجربة تشبه ما جرى لاحقًا في إيران على يد الشاه رضا بهلوي، ومع ما جرى سابقًا في مصر على يد محمد علي باشا مؤسس الدولة المصرية الحديثة الذي قام بتأميم الحياة الدينية والقضاء على دور علماء الأزهر الذين سبق وكان لهم الدور الأكبر في إسناد السلطة إليه هو نفسه، حيث نفى محمد علي الشيخ عمر مكرم بالنهاية إلى دمياط، وسيطر بعد ذلك بدوره على نقابة الأشراف التي كان يتولّاها هذا الأخير من خلال مجموعة من المشايخ الذين تحكم فيهم عبر المال وإقطاعات الأراضي.

قام محمد علي بعد ذلك بوضع يده على الأوقاف المحبوسة على المساجد والعمل الأهلي والخيري وطلب العلم، وقام بوضع عوائدها المالية فى خزانة دولته.ثم ألغى بعد ذلك هذا الأخير الملكية الفردية للأراضي بمصر، وصار بذلك المالك الوحيد الحقيقي لأراضي القطر المصري كله.

وقد أسهمت جميع تلك التجارب في تضخيم الدولة في الحقبة المعاصرة مقابل إضعاف المجتمع المدني العربي والإسلامي، وفي إنتاج العنف بشكل دوري في مجالنا العام كوسيلة أساسية للصراع على السلطة، وفي تحول أطروحة مثل «إدارة التوحش» التي قدّمها أحد منظّري تنظيم القاعدة إلى إطار سياسي واقعي يحكم الواقع المستقبلي لمصير الأنظمة السياسية السلطوية السائدة في هذه المنطقة من العالم.