أفرد التاريخ الكثير من صفحاته للتغني بأشخاص أثروا في مسار أحداثه، إلا أن العديد من الأشخاص لم يحالفهم الحظ في الدخول بقوة في هذا السجل الحافل. ليس بسبب عدم قدرتهم على فعل ما يسعون له، بل لأن التاريخ وقف عنوة أمام ذلك.

الكثير من الأمثلة التاريخية وفي كافة المجالات، إلا أننا اليوم سنتحدث عن أحد نجوم الكرة اللامعة، الذين لم يسمح لهم تواجد نجوم أخرى أكثر لمعانًا بالإشعاع. واحد من أهم هذه الأسماء هو البرازيلي «ريفالدو»، والذي ترك بصمته مع جميع الأندية لتي لعب لها، لكن لم يحظ بالشهرة التي يستحقها قياسًا بموهبته ومهارته وفعاليته داخل أرض الملعب.

مقارنة بأسماء أخرى كـ «رونالدو» و«رماريو» و«كاكا»، كان «ريفالدو» كالبطة السوداء في تاريخ البرازيل الكروي. فاز بكل شيء لكنه لم يلق اهتمامًا إعلاميًا مشابهًا. علاوةً على ذلك، عندما يتم ذكر اسمه في أي حديث إعلامي أو شخصي بين متابعي اللعبة، فإن أول ما يتم ذكره هو لحظة تمثيله ومخادعته للحكم خلال بطولة كأس العالم 2002 أمام المنتخب التركي.

ما ارتكبه ريفالدو حينذاك كان فعلاً شنيعًا أو قبيحًا، لكن ما قدمه خلال مسيرته وفي تلك البطولة بالتحديد كان يشفع له بتفضيل لحظات أخرى أكثر إشراقًا وإبهارًا. لكن مجددًا يقف التاريخ سدًا منيعًا أمام تلك اللحظات الجميلة التي يمتلك البرازيلي منها القليل خلال حياته.


أيام عصيبة

ولد «ريفالدو» في أحد الأحياء الفقيرة لمقاطعة «باوليستا» لعائلة من الطبقة العاملة ذات الدخل المحدود. وبسبب سوء الأحوال الاقتصادية لعائلته، عانى خلال طفولته من سوء التغذية الحاد،ففقد بعض أسنانه وكانت بنيته هزيلة للغاية. علامات الفقر في الصغر كانت واضحة على مظهره الخارجي حتى عندما احترف في أوروبا في كبره.

حاول البرازيلي مساعدة عائلته من خلال بيع الحلوى والعصائر في المدارس وعلى الشواطئ. وكطفل صغير، كان حلم «ريفالدو» كأي صبي برازيلي آخر أن يلعب لمنتخب بلاده. حلم لم يكن إلا محاولة للهروب من المعاناة وطريقًا للخلاص من الفقر الذي يفتك بعائلته ومدينته، مرة أخرى كأي طفل برازيلي آخر اختبر ذات الظروف والأوضاع.

استمرت الحياة بفرض قسوتها عليه خلال سنين حياته الأولى، فتم رفضه مرات عديدة من الأندية بسبب جسده النحيل وقدميه الرفيعتين. فلم ينجح بإقناع المدربين بسبب هشاشة عظامه وتقوس ظهره الذي لا يناسب اللعبة المعروفة باعتمادها على العامل البدني في دول أمريكا الجنوبية.


فرصة سانحة

لم يمارس «ريفالدو» اللعبة بشكلها المتعارف عليه، فلم يتدرج في الفئات العمرية بسبب رفض الأندية المتكرر له، لكنه مارس اللعبة مع الأطفال الآخرين على الشواطئ التي كان يحاول كسب لقمة العيش فيها. فقد الشاب اليافع والده وهو في سن الـ15 بعد أن قتل في حادث دهس بالسيارة. كان على «ريفالدو» تحمل مشقة خسارة والده وعدم تقبله من قبل الأندية. أمر كان سيدمر حلمه بالتحول للاعب كبير وتمثيل منتخب بلاده، لكن ما حدث كان عكس ذلك.

بعد مقتل والده بعدة أشهر قام البرازيلي بالتوقيع على عقده الأول مع نادي المدينة. أمر لم يكن سهلًا على الإطلاق بالنسبة له، فكان يتوجب عليه السير لمسافة 10 أميال يوميًا للذهاب إلى ملعب التدريب. رحلة يومية جعلت منه لاعبًا أفضل على المستوى البدني، جهزته للمستقبل، وخدمته جيدًا في مسيرته كلاعب محترف.


خطوات سريعة

نجح الشاب الصغير بإثبات جدارته باللعب مع ناديه على الفور، فلم يمض العام الأول مع «باوليستا» إلا وبدأ الاهتمام يكبر به وتزداد مراقبة الأندية الأخرى له.

من «باوليستا» شد البرازيلي الرحال إلى نادي «سانتا كروز» البرازيلي. في «سانتا كروز» أبهر الوافد الجديد الجميع بقدراته المهارية والتهديفية. رغم أنه لم يكن مهاجمًا صريحًا، لكنه نجح في تسجيل 8 أهداف خلال 14 مباراة فقط.

من جديد عام واحد وانتقال سريع إلى نادٍ آخر. رأى نادي «موجي موريم» الذي ينشط في الدرجة الثانية في «ريفالدو» حلًا جيدًا لمشاكله الهجومية. لكن سرعان ما كان ناديه الجديد منصة أخرى للانتقال إلى مستوى أعلى، حيث قام نادي «كورينثيانز» بالتوقيع معه على سبيل الإعارة بسبب قدرته العالية على التحكم بالكرة، وتقنيته المميزة في إنهاء الهجمات.

كان البرازيلي كنحلة مليئة بالطاقة تتنقل بين زهرة وأخرى. كلا الطرفين يجد منفعة متبادلة في عملية التنقل، «ريفالدو» يكتسب المزيد من الثقة والأضواء، والأندية الأخرى تحقق مبتغاها سواء ماديًا أو فنيًا.


طريق المجد

على الرغم من تأخره بدخول عالم اللعبة، لكنه نجح في ترك بصمته بشكل مميز أينما حل. طاقة كامنة خلال سنين المعاناة ،فجرها بشكل صريح تاركًا أثرًا سريعًا ومباشرًا في قلوب جميع المهتمين بالشأن الكروي في البرازيل. في «كورينثيانز» سارت الأمور على نحو جيد، واستطاع تسجيل عدد لا بأس به من الأهداف خلال فترة وجيزة. بعد موسم وحيد ناجح في «كورينثيانز» كان البرازيلي على موعد جديد مع الأضواء. بطل الدوري البرازيلي «بالميراس» يتمكن من خطف جوهرة جاره بعد دفعه لما يقارب 2.5 مليون دولار.

بجانب كل من «روبيرتو كارلوس،مازينيو ،سامبايو وكونسيساو»، انفجرت موهبة «ريفالدو» بشكل أكبر وتمكن من مساعدة فريقه الجديد على الحفاظ على لقب بطولة الدوري للموسم الثاني على التوالي. وفي نهاية موسمه الثاني قرر مدرب المنتخب البرازيلي «ماريو زاجالو» استدعاءه للمنتخب خلال بطولة الألعاب الأولمبية المقامة في الولايات المتحدة عام 1996.

الدعوة للمنتخب كانت بمثابة فرحة مزدوجة، فقبل بداية الألعاب الأولمبية كان هناك خبر سعيد أيضًا. مهارة البرازيلي تخطت حدود بلاد السامبا لتصل إلى القارة العجوز. حيث أعلن نادي بارما الإيطالي عن التوقيع مع لاعبي بالميراس « ريفالدو – أمارال» وانضمامهما للفريق بعد نهاية دورة الألعاب الأولمبية. بعد سلسلة من النجاحات المتلاحقة مع الأندية التي مثلها، حقق «ريفالدو» حلمه بتمثيل منتخب بلاده عندما شارك للمرة الأولى أمام المنتخب الياباني في مدينة «فلوريدا».


هزة معنوية

بداية المباراة أمام منتخب الساموراي كانت سعيدة للبرازيلي، لكن نهايتها لم تكن كذلك. منتخب السامبا تعرض للخسارة في المباراة الافتتاحية للبطولة بهدف دون مقابل. لم يترك «ريفالدو» أثرًا واضحًا في البطولة رغم تحقيق منتخبه لنتائج مميزة في المباريات الأخرى.

حان موعد المباراة نصف النهائية، البرازيل ستواجه المنتخب النيجيري للمرة الثانية في البطولة بعد أن حققت الانتصار بهدف وحيد في الدور الأول. «ريفالدو» الذي شارك في المباراة الأولى كأساسي، سيبدأ المباراة الثانية من على مقاعد الاحتياط.

سارت الأمور على نحو جيد للمنتخب البرازيلي وأنهى الشوط الأول بنتيجة 3-1. بشكل أو بآخر ظن منتخب السامبا بأنه ضمن الوصول إلى المباراة النهائية. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان في الشوط الثاني. «زاجالو» قرر إشراك «ريفالدو» في الدقيقة 67 لمنحه بعض الدقائق كي يسجل هدفه الأول في البطولة. لكن الأمور انقلبت رأسًا على عقب وتحولت المباراة إلى كابوس بالنسبة للشاب البرازيلي.

الدقيقة 78: هجمة مرتدة للبرازيل، تصل الكرة إلى «ريفالدو» الذي فضل المراوغة بدلًا من التمرير لأحد الزملاء. فشل لاعب الوسط في إكمال مراوغته وخسر الكرة سريعًا، ليسجل النسور الخضراء هدف التقليص وينعشوا آمالهم فيما تبقى من المباراة. بعد ذلك سجلت نيجيريا هدف التعادل في الدقيقة الأخيرة، وتمكنت من تسجيل هدف ذهبي في الأوقات الإضافية، لتحقق المفاجأة وتترك البرازيل غارقة في الذل، و«ريفالدو» غارقًا بصيحات الاستهجان من الجماهير وعتاب زملائه ومدربه.


طوق للنجاة

لم يحتمل «ريفالدو» تلك الضغوط الكبيرة التي تنهال عليه للمرة الأولى منذ ممارسته اللعبة بشكل احترافي. فكر في الاعتزال دوليًا رغم أن مسيرته بالكاد قد بدأت. بالنسبة لشاب لم يحظ بتعليم في صغره وعانى من الفقر طوال شبابه، كان من الطبيعي أن يكون هذا المطب قاتلًا بسبب جهله بكيفية التعامل مع وضع كهذا.

بالإضافة لهذه النكسة،قرر بارما لسبب ما إلغاء الاتفاق مع بالميراس وعدم إتمام صفقة انتقال «ريفالدو». قرار سيكون بمثابة الضربة القاضية التي ستعلن نهاية كارثية مبكرة للبرازيلي لولا طوق النجاة الذي رماه نادي «ديبورتيفو لاكورونيا» الإسباني، والذي عرض راتبًا مميزًا على البرازيلي. بكل تأكيد أن الخاسر الأكبر من هذا القرار هو بارما والدوري الإيطالي؛ لأن المواسم المقبلة لـ«ريفالدو» كانت أفضل ما قدمه البرازيلي خلال مسيرته الكروية.

لم يكن على مشجعي الديبور القلق كيف سيكون أداء الصفقة الجديدة للنادي، ريفالدو كما عادته ترك بصمته سريعًا، فسجل 5 أهداف في أول 5 مباريات له مع النادي.

طريقة اللعب في الليجا ناسبت كثيرًا أسلوب البرازيلي ومهارته، وأعادته إلى التألق من جديد. فسجل 21 هدفًا في 41 مباراة، وفتح سباقًا محمومًا من أجل الظفر بخدماته.


الشهرة المنتظرة

موسم واحد ناجح كان كفيلًا لجذب أنظار الأندية الكبرى في أوروبا وعلى وجه الخصوص في إسبانيا. لم يكن برشلونة بحاجة للانتظار موسمًا إضافيًا للتأكد من جدارة البرازيلي بتمثيل قميص النادي. التجربة الناجحة للبرازيليين مع برشلونة سرعت من عملية إنهاء الصفقة. الإنجليزي «السير بوبي روبسون»، والذي كان مديرًا رياضيًا للفريق، حسم الأمر بعد مفاضلة سريعة بين مواطنه «ستيف ماكمانمان» و«ريفالدو». روبسون ألح على النادي لإجراء الصفقة وسرعان ما أثبت للجميع صواب خياره.

للمرة الأولى في مسيرته الكروية، ريفالدو كان محط الأنظار والاهتمام الإعلامي، فقد كلفت صفقة انتقاله خزائن النادي الكتلوني الكثير من الأموال. لكن ريفالدو قام بتسديد فاتورة انتقاله العالية على الفور. هدفان في المباراة الافتتاحية للموسم، ولقب الدوري والكأس في ختامه، وبمحصلة تهديفية وصلت إلى 19 هدفًا في 34 مباراة. وفي نهاية الموسم تلقى ابن السامبا دعوة رسمية من منتخب السيليساو لتمثيل المنتخب في بطولة كأس العالم 1998.

كانت قمة تجليات هذه الشهرة حاضرة عندما حقق جائزة الكرة الذهبية عام 1999، وفي ختام موسم 2001 لحظة تسجيله لرائعته الشهيرة أمام فالنسيا في نهاية الموسم والتي أنهاها بركلة مزدوجة زلزلت ملعب كامب نو.


البطة المنبوذة

رغم نجاحاته المتعددة على الصعيدين الفردي والجماعي، إلا أن البرازيلي لم يكسب الشهرة التي يستحقها لأسباب متعددة وكثيرة. فتأخره بالدخول لعالم الكرة وتأخره باحتراف اللعبة كان سببًا من أسباب تفضيل لاعبين آخرين عليه. ذروة حياته الكروية كانت بدايته الحقيقية، ولم يكن أمامه إلا سنوات قليلة للإبداع في الملاعب.

إحدى النقاط الهامة الأخرى، أن «ريفالدو» لم يملك قصة شعر كـ«رونالدو» ولا وسامة «ديفيد بيكهام»، فقد كان يفقتر للكاريزما التي حرمته من أن يصبح رمزًا كرويًا كـ«زيدان» أو «مارادونا». فضلًا عن ذلك، لم يكن البرازيلي ناجحًا أو بارعًا في تكوين صداقات مع الإعلاميين أو الصحافة.

كان منطويًا بعض الشيء وهذا لا يناسب أسلوب الحياة الكروية في العصر الحديث. فالموهبة وحدها لا تكفي، عليك كسب رضا الآلة الإعلامية وود الجماهير لكي تحصل على تلك النجومية. لكن لم يكن ذلك سهلًا عليه؛ لأنه ترعرع في بيئة قاسية وفقيرة وواجه الكثير من المصاعب في شبابه.

إذا لم تعش هناك، ولم تشهد ما واجهته، فإنك لن تفهم ذلك أبدًا.
النجم البرازيلي «ريفالدو»