في العام 1933م، أصدر الأديب المصري توفيق الحكيم روايته «عودة الروح»، والتي حقَّقت نجاحًا أدبيًّا متوسطًا في مسيرته الأدبية، ولم يعتبرها جمهوره أعظم أعماله، إلا أن القدر شاء لهذا السِّفر أن يُغيِّر تاريخ مصر.

أحد أفراد هؤلاء الجمهور كان فتًى صغيرًا لم يتجاوز عامه الخامس عشر، أُغرم بهذا العمل وبكل ما حمله من دعوة لثورة تُعيد مصر إلى مجدها وإلى بطلٍ مُخلِّص ومُخلِّص يستغل قدرات هذه الأمة ويضعها على المسار الصحيح.

من فرط إعجاب هذا الفتى بالرواية قام بتمثيلها على مسرح مدرسة النهضة الثانوية، ولم يتوقف حتى مات عن اعتبارها أعظم عملٍ مُلهم قرأه في حياته.

هذا الفتى كان جمال عبد الناصر، الذي ألهمه هذا العمل إلى تدبير ثورة قلبت تاريخ المنطقة رأسًا على عقب، ولا نزال حتى الآن ندفع ثمن كل قرارٍ اتَّخذه وكل قرار لم يتِّخذه.

الأب الروحي الأبيض للثورة

أمة أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخرى… أو معجزات… أمة يزعمون أنها ميتة منذ قرون، ولا يرون قلبها العظيم بارزًا نحو السماء من بين رمال الجيزة… لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش إلى الأبد.
توفيق الحكيم في روايته «عودة الروح»

تحكي الدكتورة بثينة التكريتي، في كتابها «جمال عبد الناصر ونشأة وتطور الفكر الناصري»، قصة الرئيس الأسبق مع «عودة الروح»، فتقول إن هذه الرواية حظيت بأقصى اهتمام جمال عبد الناصر؛ فقد كان مضمونها الواقعي الانتقادي قد ترك أعمق الأثر في وجدانه، وترسخ من خلال الموضوعات التي أثارها: الواقع الذليل المر، التراث العظيم الخالد، ضرورة ظهور زعيم للمصريين يستطيع توحيد صفوفهم وقيادتهم في النضال من أجل الحرية والوحدة القومية.

وينقل الكاتب يوسف القعيد، في كتابه «محمد حسنين هيكل يتذكر عبد الناصر والمثقفون والثقافة»، عن الأستاذ قوله: إن عبد الناصر اهتم به (توفيق الحكيم) بشكل خاص؛ لأنه لم يكن قد انتمى سياسيًّا لأي اتجاه قبل الثورة، لم تكن له أية اهتمامات سياسية، لم تكن عنده أية تحيزات، كان صفحة بيضاء سياسيًّا.

منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة لم يكفَّ الحكيم عن تأييد عبد الناصر بكل الوسائل الممكنة، وسخَّر له قلمه في الجرائد، واعتاد على إرسال برقيات التأييد له من وقتٍ للآخر.

يقول توفيق:

ما من أحد في مصر لم يتحمَّس لهذا الجيش، الذي استطاع وحده أن يقف ضد الملك، ذلك الشخص المكروه من الجميع بأخلاقه القذرة وجسمه المترهل كأنه الخنزير.

في مسرحيته «الأيدي الناعمة» ينتصر توفيق الحكيم لرؤى عبد الناصر ومبادئ ثورة يوليو الداعية لإزالة الفوارق بين الطبقات، وأنه لا وقت ولا مكان في مصر الجديدة لأصحاب الأيدي الناعمة فالمستقبل لا يصنعه إلا العُمَّال والفلاحون.

لاحقًا تم تحويل هذه المسرحية إلى فيلم سينمائي صار من أيقونات «سينما يوليو»، ولم يتوقف التليفزيون المصري عن عرضه كلما هلَّت ذكرى الثورة.

وفي إحدى مقالاته التي كتبها في جريدة الأهرام عام 1965م، تفاخَر الحكيم بمدى عُمق علاقته بعبد الناصر وبتعلُّق الزعيم بروايته، فقال:

اخترته بالفعل منذ ثلاثين عامًا، يوم تصورت الزعيم الذي ننتظره ليعيد إلينا الروح ويجعل من شعبنا الزراعي شعبًا صناعيًّا، ويصنع معجزة أخرى كالأهرام.. اخترته يومئذ لبلادنا وانتظرته، وظهر وعجبت للحلم الذي تجسد حقيقة بهذه السرعة وبهذه الروعة وبهذا الوضوح.

ويؤكد الأديب الراحل:

كان تفكيري وتفكيره على صله، مع أنني لم أقابله في حياتي أكثر من خمس دقائق،  ثم أجده أحيانًا قد صدم الناس بقرار جريء؛ فأخلو إلى نفسي أحلل في هدوء ظروفه ومراميه، فإذا بي أجد أني لو كنت في موقفه لما فعلت غير ما فعل.

ويتابع:

هذه الصلة الخفية بيننا على البعد ما سرها؟ سرها بسيط: وحدة الينبوع، الينبوع الصافي الذي هو قلب الوطن.. من هذا القلب الصافي خرج هذا الزعيم كما خرج كل فرد من أفراد أمته، لهذا كان اندماج الناس فيه، وحبهم له، وكذلك انتصاره.

يشرح الكاتب عبد الرحمن أبو عوف في كتابه «فصول في النقد والأدب»، أن سر تقدير واحترام عبد الناصر لتوفيق الحكيم يدل على أصالة نزعة الأخير الثورية في شبابه؛ فهو مثل شباب الأربعينيات قرأ عودة الروح وتجسدت له أسطورة المعبود والكل في واحد وروح البعث فعرف مصيره.

لم يتمتَّع صاحب «عودة الروح» بروح ثورية مثل كتاباته وإنما قنع بدور الموظف البيروقراطي المُطيع للأوامر مهما كانت، وهو ما تسبَّب في أزمة كُبرى أنصف فيها عبد الناصر أديبه المفضل على حساب وزير في حكومته.

فنتيجة لوقوع بعض الخلافات بين توفيق الحكيم وإسماعيل القباني وزير المعارف، قرَّر بسببها الأخير الإطاحة بالحكيم من موقعه كمدير لدار الكتب بسبب اعتباره توفيق الحكيم «مثالًا سيئًا لموظف الدولة، وذلك بصرف النظر عن قيمته الأدبية، فضلًا عن أنه كسلان لا يذهب إلى مكتبه»، وعندما عرض وكيل وزارة المعارف على توفيق الحكيم أمر إحالته للمعاش، وافق الأخير دون مناقشة؛ لعدم رغبته في إثارة المشكلات.

كان توفيق الحكيم وقتها قد عاد لتوِّه من ألمانيا بعد حضور إحدى مسرحياته التي تحولت إلى اللغة الألمانية في برلين، وهو الحدث الذي استشهد به عبد الناصر في رفضه لهذه الإقالة بقوله للوزير: «أتريد أن تطرد كاتبًا عائدًا إلينا بتحية من بلد أوروبي؟ أتريد أن يقولوا عنا إننا جهلاء؟».

وعندما حاول القباني تبرير موقفه هذا بأن هذه هي رغبة توفيق الحكيم نفسه، ثار عبد الناصر وظلَّ متمسكًا برفضه للقرار قائلًا: «من غير المعقول ولا المتصور أن نأتي نحن ونخرج واحدًا مثل توفيق الحكيم، لا يمكن أن يخرج الحكيم في عملية تطهير.. ممكن يخرج في ظروف ثانية، ويقال إنه استقال ليتفرغ لأدبه».

ولم تنتهِ هذه الأزمة إلا بِاضطرار الوزير إلى الاستقالة.

يُعلِّق الأستاذ محمد حسنين هيكل عن هذه القضية، في كتاب «عبد الناصر والمثقفون والثقافة» خلال حديث له مع يوسف القعيد، فيقول إنه بعد أن استقال «القباني» جاءني توفيق الحكيم متسائلًا: ماذا أفعل؟ هل أشكر هذا الرجل العظيم (يقصد جمال عبد الناصر)، متابعًا: «لم يكن يتصور أن يخرج وزير من الحكم بسبب مشكلة معه، وقلت له: إن جمال انتصر لأديب، وخرج وزير لكي لا يخرج أديب في التطهير».

كما نعرف أن هذه الأزمة كادت أن تُولِّد أول لقاء بين الرجلين، بعدما طلب الحكيم من هيكل تحديد موعدٍ له مع عبد الناصر لتوجيه الشُّكر له على تدعيمه إياه.

حافظ الحكيم في طلب لقائه من الرئيس على بيروقراطيته المعهودة، فاشترط على هيكل أن يستأذن عبد الناصر من الوزير قبل حدوث اللقاء!

هذا الطلب العجيب أفسد اللقاء المرتقب بين الكبيرين، فما أن علم عبد الناصر بالأمر حتى ضحك طويلاً وسأل صديقه: هل من المعقول أن أستأذن وكيل وزارة المعارف العمومية من أجل مقابلة مدير دار الكتب؟ ثم أضاف لهيكل: «أتاريه بيروقراطي».

ولم يتفق توفيق الحكيم كثيرًا مع هذه الرواية، فحينما كتب الواقعة أكَّد أنه هو الذي رفض لقاء عبد الناصر بسبب رغبته الدائمة في البُعد عن رجال الحكم.

برغم ذلك لم ينقطع شهر العسل بين الرجلين، فوفقًا لعبد الرحمن أبو عوف في كتابه «فصول في النقد والأدب»، أهدى عبد الناصر توفيق الحكيم نسخة من كتابه فلسفة الثورة، وعيَّنه في المجلس الأعلي للفنون وكيلًا للوزارة متفرغًا، ثم عضو مجلس إدارة بجريدة الأهرام، وعندما بنى هيكل المبنى الفخم الجديد لمؤسسة الأهرام، خصص جناحًا في الطابق السادس للحكيم.

كما منحه العديد من الأوسمة والجوائز، منها قلادة النيل عام 1958، ثم جائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام 1960، بالإضافة إلى وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى في العام ذاته.

وفي العام 1959م، عيَّن عبد الناصر الحكيم سفيرًا لمصر في اليونسكو في باريس، وقيل إن الزعيم قصد بهذه الخطوة أن يُهيِّئ الحكيم لترشيحه بعدها أمينًا عامًّا للمُنظمة بأسرها، لذا أرسله إلى العاصمة الفرنسية لاكتساب معارف دولية، وهي المهمة التي حقَّق فيها الحكيم فشلاً ذريعًا.

ويحكي الكاتب غالي شكري، في كتابه «من الأرشيف السري للثقافة المصرية»، أنه عندما انتقد أستاذ الأدب أحمد رشدي صالح توفيق الحكيم في سلسلة مقالات اتَّهمه فيها باقتباس كتابه «حمار الحكيم» من الكاتب الإسباني رامون خيمينيث الذي ألَّف رواية «پلاتيرو وأنا» أو «أنا وحمارى»،، ما أن قرأ عبد الناصر هذا الكلام حتى ثار ثورة عاتية، وقال: إنني لا أفهم التحليلات الأدبية، ولكني أشعر أن هناك من يريد النيل من توفيق الحكيم، وهو رجل عظيم أعترف أني تأثرت بروايته «عودة الروح» تأثرًا عميقًا، لقد حاولت تقليده في كتابه قصة لم أكملها، ولكن المؤكد أنني استوحيت من روايته «ثورة» أحاول استكمالها.

هذه الحظوة طمأنت الحكيم بأنه يستطيع معارضة عبد الناصر دون أن يتعرَّض لأذى، فحينما بلغه نبأ تعيين هيكل وزيرًا للإعلام، يروي الكاتب عصام عبد الفتاح في أطروحته «تجربة حياة خاصة جدًّا.. هيكل ضد هيكل»، أن الحكيم بعث ببرقية إلى عبدالناصر يخبره فيه أن هذا القرار سيؤثر على استقلال الأهرام.

لم يُعارض الحكيم عبد الناصر علنًا أبدًا إلا أنه كان يدسُّ الانتقادات في رواياته والتي كان يقرأها عبد الناصر بطبيعة الحال بسبب متابعته المستمرة لكل ما يكتب أديبه الأثير.

يقول هيكل في كتابه «لمصر.. لا لعبد الناصر» إن رئيس مصر سمح لتوفيق الحكيم بكتابة أعمالٍ مُعارضة مثل «السلطان الحائر» و«بنك القلق» وغيرها، وعندما حاول وزير الدفاع عبد الحكيم عامر إيقاف نشر رواية بنك القلق، اعترض عبد الناصر معتبرًا أن توفيق الحكيم نجح في انتقاد الأوضاع الاجتماعية في روايته «يوميات نائب في الأرياف»، وإن لم تُمكنه الثورة من ممارسة حق الانتقاد كما يشاء فهذا يعني فشل الثورة في تحقيق أهدافها.

وبأزمة القلب التي أودت بحياة عبد الناصر انقطع حبل الود بين الرجلين، ويُروَى عن الحكيم أنه أصيب بإغماءة خلال جنازته.

كتب فيه نعيًا قال به:

اعذرني يا جمال.. القلم يرتعش في يدي.. ليس من عادتي الكتابة والألم يلجم العقل ويذهل الفكر.. لن أستطيع الإطالة، لقد دخل الحزن كل بيت تفجعًا عليك.. لأن كل بيت فيه قطعة منك.. لأن كل فرد قد وضع من قلبه لبنة في صرح بنائك.

ثم دعا لتدشين تمثال عملاق لعبد الناصر في ميدان التحرير.

قال الحكيم في بيانه:

لقد جسَّد الشعب فيك صورة حريته، لقد جعل منك تمثال الحرية لنا، فاسمح لنا وقد فارقتنا أن نقيم لك تمثالًا عاليًا في ميدان التحرير؛ ليشرق على الأجيال ويكون دائمًا رمزًا للآمال، وما ينبغي أن تقيم هذا التمثال سلطة أو دولة لكنه الشعب نفسه من ماله القليل يقيمه.

ويحكي الحكيم أنه تلقى رسالة من صديق يُطالبه بإقامة هذا التمثال في تل أبيب بدلاً من القاهرة، لأن إسرائيل لم تكن يومًا تحلم بأن تبلغ هذه القوة بهذه السرعة إلا بفضل سياسة عبد الناصر.

وبالرغم من إعلان مجلس إدارة الأهرام تبنِّيه لهذه الفكرة إلا أنها لم تُنفذ أبدًا.

بسبب الانقلاب السياسي الذي قام به السادات على سياسات عبد الناصر وانتهت بإجراء صُلح مع إسرائيل

وهي الاتفاقية التي سيكون الحكيم أبرز مؤيديها!

كيف خدعوا شخصًا مثلي؟

الحاكم لا يريد من المفكر تفكيره الحر، بل تفكيره الموالي؛ إنه يريد أن يسمع منه تأييدًا لا اعتراضًا، ورسالة المفكر في جوهرها هي الصدق والحرية، وهو قد يخطئ ويخدع ويفقد الوعي، ولكنه لن يخون رسالته عن وعي، وإني أخشى دائمًا أن تحجب الصداقة والقرابة والحب والعاطفة، وحتى الكره والسخط، النظرة الصادقة إلى حقائق الأشياء
توفيق الحكيم – كتاب «عودة الوعي»

في كتابه «أقنعة الناصرية السبعة»، يضع الدكتور لويس عوض، سؤالًا هو «متى بدأت خيبة أمل توفيق الحكيم في عبد الناصر»، وبعدها يشرع في الإجابة على استسفاره بقوله:

نعرف من كلامه أنه ظل حتى شتاء 1960-1961 يرسل برقيات تأييد للرئيس الأسبق، وحتى فترة انعقاد اللجنة التحضيرية في ذلك التاريخ تمهيدًا للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عرض عليه الميثاق في 1962م، كان الأديب الراحل يرى فيه نموذجًا للحاكم الديمقراطي المُبرَّأ من الدكتاتورية، وكتب للرئيس يقول: أرى صورة جديدة لمصر تتشكل أمامي. إلا أن مصر الجديدة التي رآها الحكيم في المناقشات التحضيرية، اختفت عن ناظريه لحظة انعقاد المؤتمر نفسه في شهر مايو من ذات العام.

يقول الكاتب عبد الرحمن أبو عوف:

لقد تسببت النكسة في هز ثقة توفيق الحكيم بالنظام الناصري وبدأ ينمو إلى علمه مآسي التعذيب التي تمت في معتقلات وسجون عبد الناصر وسطوة المؤسسة البوليسية وحكم المخابرات، وكذلك اعترض توفيق الحكيم على حرب اليمن والوحدة غير المدروسة مع سوريا.

وبحسب لويس عوض فإن الحكيم لم يبدأ في استعادة وعيه إلا حين رأى الجماهير قد تحولت إلى غوغاء بلا عقل تردد «ناصر، ناصر» في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية بدلًا من أن تناقش «الميثاق».

وبعد رحيل جمال عبد الناصر، أصدر توفيق الحكيم كتابه عودة الوعي في يوليو 1972م، تطرَّق فيه بشكلٍ واضح لطبيعة علاقته بالرئيس الأسبق، ومارس فيه انقلابًا فكريًّا على صديقه القديم، فقال:

طبيعة علاقتي به (عبد الناصر) تجعلني أحسن الظن بتصرفاته وألتمس له التبريرات المعقولة، وعندما كان يداخلني بعض الشك أحيانًا، وأخشى عليه من الشطط أو الجور، كنت ألجأ إلى إفهامه رأيي عن بعدٍ وبرفق، وأكتب شيئًا يفهم منه ما أرمي إليه.

وتابع توفيق الحكيم:

فقد خفت يومًا أن يجور سيف السلطان في يده على القانون والحرية، فكتبت السلطان الحائر، ثم خفت أن يكون غافلًا عما أصاب المجتمع المصري قبيل حرب 1967 من القلق والتفكك، فيعتمد عليه في الإقدام على مغامرة من المغامرات فكتبت «بنك القلق».

ثم أوضح:

كلها كتابات مترفقة بعيدة عن العنف والمرارة، لمجرد التنبيه لا الإثارة، وكما علمت فقد قرأها وفهم ما أقصده منها، ولكنه فيما ظهر لم يأخذ بها، بل اندفع في طريقه.

ويُبرِّر الحكيم وقوفه مع الثورة بأنه كان مسحورًا بـ«بريق الآمال» وبـ«خمرة المكاسب والأمجاد» كما أنه اعتاد هذا النوع من الحياة التي جعلته فيه الثورة «مجرد جهاز استقبال».

وبرغم ذلك التبرير لم يعفِ فيه الحكيم نفسه من الوقوع في الشرك الناصري متسائلًا:

كيف استطاع شخص مثلي أن يرى ذلك ويسمعه وأن لا يتأثر كثيرًا بما رأى وسمع ويظل على شعوره الطيب نحو عبد الناصر.. أهو فقدان الوعي، أ‎هي حالة غريبة من التخدير؟

وحكى عن أنه سأل نفسه، بعدما تأكد من بروز مظاهر العبادة لشخص عبد الناصر على مرِّ الأيام، ما الذي أعجبه في كتاب «عودة الروح»، وخمَّن أنها الفقرة التي تحكي أن مصر تحتاج إلى معبودٍ من بينها، وأن عبد الناصر لما قرأ هذه العبارة حلم بأن يكون ذات يومٍ هو المعبود.

هذا الاعتذار لم يقبله الدكتور لويس عوض في أطروحته «أقنعة الناصرية السبعة»، بتأكيد على أنه لم يكن هناك وعي مفقود كما يقول توفيق الحكيم طوال عهد الثورة، وإنما كان هناك وعي كامل بكل ما كان يجري، وموافقة بالقهر أو الإيمان على كل ما كان يجري؛ فإذا كانت هناك آمال خائبة في عبد الناصر، فهي لم تخب لفقدان الوعي، ولكن للحسابات الخاطئة التي تكثر عادة وتتعاظم في حياة الأمم في عهود الحكم المطلق والحرية الفاسدة.

وهو ذا المعنى الذي أكَّده المؤرخ غالي شكري في كتابه «من الأرشيف السري للثقافة المصرية»، قائلًا إن توفيق الحكيم ليس شاهدًا ولا صاحب حق، وإنما هو بالدقة المسؤول الأدبي عن النظام الذي يدينه، مؤكدًا أن توفيق الحكيم، لم يفتح فمه بكلمة عن «الثقافة والحضارة» حين اعتقلتها الأجهزة في سراديب الموت، وحين طلب منه السلطان المشورة اعتذر بالشيخوخة وقلة الحيلة، وحين أطلعه البعض على قمصان الدم أشاح بوجهه عن اللون الأحمر قائلًا إنه يفرق بين الثقافة والسياسة.

تسبَّب توقيت صدور هذا الكتاب في زيادة الجدل المُثار حوله، فوقتها كان السادات قد أفسح المجال واسعًا لحملة إعلامية قوية استهدفت تشويه صورة عبد الناصر في قلوب المصريين، وعندما نُشر هذا الكتاب اعتبره كثيرون جزءًا من هذه الحملة، وهو ما دفع الحكيم إلى توضيح موقفه مؤكدًا أنه لا يزال على حبه لعبد الناصر، لكنه دائمًا مع التقدم وتمنَّى أن تعيش مصر جوًّا تسوده التعددية الحزبية والحريات الديمقراطية.