في ظل احتدام الأزمة الرأسمالية العالمية العامة، وتفاقم أزماتها الدورية التي تؤكد بشكل متزايد انسداد الأفق التاريخي أمام الرأسمالية كنظام يقوم على اختلالات بنيوية لا سبيل للخلاص منها سوى بإزاحة النظام برمته، وهو ما يتطلب وجود بديل، كان اليسار الثوري يمثله يومًا ما، وهو البديل الذي لا زال غيابه يفتح الباب لتساؤلات عميقة حول أزمته الطويلة التي لا تنفيها انتصارات اليسار الديمقراطي في أمريكا اللاتينية ولا الصحوات الخافتة لليسار الأوروبي، فمثلما نقول إن أزمة الرأسمالية هي أزمة بنيوية، فالقول نفسه يصح على اليسار.

ولعل غياب اليسار المصري الطويل والممتد منذ نهايات السبعينيات هو أحد أوجه أزمة اليسار العالمي، الأزمة التي بلغت ذروتها بالانهيار الدرامي لحلف وارسو وانتهاء الموجة الأولى من المحاولات الاشتراكية. في بلد يحيا على تخوم النظام الرأسمالي حيث تتجلى تناقضات الرأسمالية بشكل أكثر حدة، يصبح غياب اليسار كبديل أشد وطأة، وتصبح مسألة هذا الغياب أشد إلحاحًا على جدول أعمال التاريخ.

ولعل البداية تتمثل في التأكيد على أن هذه الكتابة لا تستهدف تقديم إجابة شافية لسؤال لطالما طُرح من الأجيال – إن صح الحديث عن جيل يساري في مصر – على تلك الأجيال التي حملت على كاهلها عبء العمل اليساري في مصر، وتحملت نصيبها الذاتي من الهزيمة، وهو السؤال الذي يواجه اليسار اليوم وهو يحاول التبشير من جديد بعالم بلا طبقات تطرحه الجماهير التي يحاول اليسار إعادة تقديم مشروعه إليها، أو يحاول صياغة مشروعه بالتماس مع الأزمة العامة.

كما أنه من المهم تحديد عن أي يسار نتحدث، إذ إن «اليسار» مصطلح فضفاض يعبر عن طيف سياسي واسع من غير الجائز مناقشة أزمته عموميًّا في هذا الحيز الضيق، لذا فإننا هنا نتحدث عن تلك الفصيلة من اليسار المصري التي امتد وجودها السياسي لما يزيد عن قرن من الزمن، اليسار الذي اصطلح على تسميته بالماركسي، وإن كانت ماركسيته تلك شديدة النسبية وشديدة الضبابية كما سنتعرض بعد قليل.

وأخيرًا، إن فشل المشروع السياسي لليسار الماركسي المصري لا يعني إنكار الحجم الهائل للتضحيات التي تم تقديمها عبر هذا المسار التاريخي الطويل، التعذيب والقتل والتشريد والنفي والعزل والحصار، درب الجلجلة الذي سارته أجيال ماركسية متتالية، والغرض من هذه الكتابة ليس إلا محاولة للفهم، أما الحساب فهو حكم التاريخ.

حين نقول إن اليسار الماركسي المصري قد فشل، فهذا يعني أنه قد عجز عن إنجاز المهام التاريخية المطروحة، وهنا لا بد من توضيح حقيقة مهمة، إذ إن تلك المهام التاريخية كانت في حد ذاتها مثار خلاف بين الماركسيين المصريين، وكانت أرضية جرت على أساسها انقسامات عديدة. حين تكون الحزب الشيوعي المصري الأول كانت مصر بلدًا زراعيًّا خاضعًا للإمبريالية البريطانية، الخضوع الذي هو الاحتلال العسكري الذي يضمن بقاء مصر كجزء من ترتيبات المركز الإمبريالي البريطاني يقوم بدوره في تشغيل الاقتصاد الإمبريالي كمورد للقطن وسوق للبضائع والأيدي العاملة الرخيصة، وهو بلد تتشكل نخبته السياسية من كبار ملاك الأراضي الزراعيين الذين كانوا بالكامل خاضعين لتلك الترتيبات وإن تنازعت بعض شرائحهم مع السراي والاحتلال على الدور الذي يمكنهم القيام به في ظلها. ومن البداية وللنهاية، كان تشخيص الماركسيين للمهمة المطروحة كالتالي: ثورة وطنية ديمقراطية تقودها البرجوازية المصرية بالتحالف مع الطبقة العاملة. البرجوازية التي هي كبار ملاك الأراضي، الوفد، ثم البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، عبد الناصر وصحبه، هي البرجوازية التي ارتأوا لها دورًا وطنيًّا ما زال معلقًا على مشجب التاريخ، واحترامًا للتاريخ، لا يمكن لحزب الطبقة العاملة أن يسعى لإنجاز ثورته لأنه لا يمكنه، فالمسار المتاح هو ثورة وطنية ديمقراطية تتخلص من الاحتلال وتوسع الحريات الديمقراطية بما يمكن لحزب الطبقة العاملة من توسيع نفوذه كممهد لثورة اشتراكية.

لكن الثورة الوطنية الديمقراطية لم تنجح أبدًا، لأنه لم يعد بإمكانها أن تنجح في زمن الإمبريالية، وحيث جاء ظهور برجوازيتنا «الوطنية» على مسرح التاريخ بعملية قيصرية استعمارية تجعلها غير قادرة على القطع الحقيقي مع الاستعمار ويولد لديها ميل مستمر يتسم بالخوف من الطبقات الشعبية بما يفوق ميلها التاريخي المفترض للاستحواذ على السوق الوطنية. وقد كانت تلك المهمة وهمية، وتمثلت ذروة الإيمان بها في زمن عبد الناصر، حينما ظنوا أنه قد صار ممكنًا بالفعل تحقيق تصورهم الكلاسيكي حول الثورة ذات المرحلتين، عبر تحالف مع البرجوازي الوطني الثوري، فإذا بعظامهم هي وقود المرحلة.

تلك المهمة الوهمية تبدو من منظور اليوم طحنًا فارغًا للهواء، لماذا نقول من منظور اليوم؟ لأنهم في تلك اللحظة غرقوا للذروة في الإيمان بهذا الخط الذي هو امتداد لكشكول هنري كورييل المعنون بـ «خط القوات الوطنية الديمقراطية» الذي صاغه إبان الصراع الداخلي في حدتو في بدايات 1948، تغير لون الكشكول لكن مضمونه ظل هو الخط الحاكم لمسلك ماركسيينا السياسي الذي تبلور في حقيقة تاريخية ملخصها: لم يرفع الماركسيون المصريون شعار الاستيلاء على السلطة عبر تاريخهم كله. هنا نتحدث عن التيار الغالب، وهذا لا ينفي وجود أنوية تنظيمية على هامش هذا التيار رأت أنه من الضروري تاريخيًّا في ظروف بلد كمصر أن يسعى الماركسيون لتنصيب أنفسهم على قيادة النضال الثوري الديمقراطي، وهذا هو مكمن الفشل الحقيقي، أنهم فشلوا في تحديد خط سياسي ماركسي، والتقاط الحلقة المركزية التي فرضتها ظروف بلدهم، والتوجه مباشرة بمشروعهم السياسي لحشد الكتلة التاريخية صاحبة المصلحة في دفع هذا المشروع إلى الواجهة. لقد فشل الماركسيون ليس فقط في المهمات التي أوكلها إليهم التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لمصر، بل حتى في المهام التي أوكلوها لأنفسهم.

ولعل الركن الرئيسي في هذا الفشل يتجلى في انعزالهم التاريخي عن الكتلة التاريخية التي عليها كان يتوقف مصير الثورة في مصر فعليًّا، البلد الزراعي التي لم يعرف فلاحوه الملكية الزراعية إلا في أواخر القرن التاسع عشر، وظلوا يتأرجحون بين وضعية الفلاح الحر اسميًّا والقن بواقع علاقات الإنتاج القائمة في الريف، كان حل مسألة الأرض والملكية هو مفتاح المسألة المصرية، لكن لأن المرحلة كانت مرحلة التحالف مع البرجوازية فقد تراجعت مسألة قتالها في الريف إلى مرتبة ثانوية.

إن الطبقة العاملة المصرية ضعيفة التكوين لأسباب ناتجة عن التاريخ الاستعماري الذي خضعت له البلاد، وقد كان هذا يحتم العمل في اتجاه، النفاذ النشط إلى كل الجيوب العمالية لتوفير كادر عمالي قادر على أن ينشط بجد في الريف حيث الكتلة الحرجة، لكن الإخفاق في الجانب العمالي كان وجهًا من وجوه الإخفاق العام، وجهًا حاسمًا.

كانت التنظيمات خاضعة أيديولوجيًّا وتنظيميًّا للهيمنة البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، العناصر المثقفة التي انحدرت من التعليم الذي استحدثه الإنجليز في إطار سعيهم لإمداد إدارتهم في مصر بكوادر مصرية، تلك العناصر التي لا نشك في ثورية معظمهم، جاءوا إلى الماركسية من مواقع تشربت بالذهنية البرجوازية.

وفي بلدٍ كمصر، كان طبيعيًّا أن يلعب المثقفون دورًا ثوريًّا، ازدوج مع دور الأجانب في تأسيس النشاط الماركسي في البلد، لكن هذا الدور ما كان له أن يستمر، كان المطلوب هو خلق الكادر العمالي بسرعة، ديمقراطيًّا، وإمداده بالمعارف الماركسية الرئيسية التي لا تغتني إلا عبر الممارسة المباشرة للصراع الطبقي، لكن الذي حدث هو أنه عبر الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات، بل حتى الألفية الجديدة، ظل المشهد الماركسي مصادرًا لصالح عناصر تنحدر من صفوف برجوازية، ودون أن نستدعي مثال إنجلز الذي انتحر طبقيًّا، فإن كبار الماركسيين المصريين ظلوا أوفياء لقاعدة رئيسية، العمال هم «فواعلية» المنظمات، هم وقود التكتلات دون أن يُبذل جهد مستمر ودءوب لـ «تعميل» تنظيمات الطبقة العاملة، وبينما انتقلت القيادات إلى مواقع صنع القرار في الدولة عبر عقود الستينيات والسبعينيات، وصار المناضلون نجوم المجتمع، تُركت القواعد العمالية لمصيرها، بعد سنوات الاعتقال والتعذيب، خرجوا ليشاهدوا قياداتهم وزراء وأعضاء في الاتحاد الاشتراكي بينما تُركوا هم للعزلة والحصار والموت البطيء. ليس في هذا أي حكم أخلاقي، لكن ليس من قبيل المصادفة أن تصبح نظرية البرجوازية الوطنية هي حجر الأساس الذي على أساسه تم حل الأحزاب في 1965، وأن يكون حاملوها هم أبناء البرجوازية حصرًا.

إن غلبة القيادات البرجوازية كانت السمة السائدة حتى في تنظيم كالحركة المصرية التي ضمت الكادر العمالي الأغزر، الكادر الذي قُطعت عليه سبل التعلم، في ظل بنية تنظيمية لا ديمقراطية ساهمت في تعزيزها ظروف بوليسية غاية في القسوة، هذا الكادر خرج من معتقلات عبد الناصر ليُعلَن بقرار الحل دون حق إبداء الرأي في حل منظماته.

من هنا علينا أن نناقش وجهة نظر مفادها أن هذا المسار، مسار الماركسية المصرية عمومًا، ومسيرها إلى حل منظماتها كان مسارًا حتميًّا فرضه الظرف التاريخي الذي يتسم بضعف التكوين الطبقي في مصر، وبشراسة المواجهة البوليسية. إن الحديث عن مسار قدري لا فكاك منه، عن جبرية تاريخية، إنما يستوي مع القول بلا تاريخية المجتمعات العربية وبعدم قدرة الماركسية على التعاطي معها، إنه يستبدل التحليل المادي التاريخي بنوع ينزع عن الاستجابة الذاتية للظرف الموضوعي كل قدرة على التأثير، ونحن هنا لا نتحدث عن دور قائد لهذا التنظيم أو ذاك بقدر ما نتحدث عن استجابة منظمة تمثل شريحة طبقية ما، يكشف التحليل التاريخي عن احتمالات أكثر تنوعًا مما حدث، لكنها احتمالات كان تحققها مرهونًا بجملة من الشروط تضافرت كافة الجهود لتغييبها.

لقد خاضت الماركسية المصرية معركتها على أرض البرجوازية، أي إنها لم تقطع فعليًّا مع الخيار البرجوازي بل في إطاره، وقد كان هذا خيارًا أيديولوجيًّا لشريحة استولت على المنظمات وحكمت عليها بالفناء، لأنها لم تكن صاحبة مصلحة طبقية في معاداة الخيار البرجوازي وهي لم ترَ في الرأسمالية المصرية خيارًا تاريخيًّا مفلسًا بل باعتبار تلك الشريحة جزءًا من مجتمع البرجوازية فقد ظلت وفية لفكرة الإمكانيات الثورية للبرجوازية ساعدها في ذلك خطاب ماركسي شكلًا، دعاية سوفيتية فارغة وشعارات عبد الناصر التي كان الغرض الحقيقي منها سحب البساط من تحت كل خطاب آخر حتى ولو لم يكن معاديًا له، إذن لماذا نحتفظ بالمنظمات إذا لم نكن نسعى للحكم، ولا للصدام مع الحكم؟ لقد كانت حدود تلك المنظمات هي حدود قياداتها البرجوازية التي رأت أن الحل كان قد وقع بالفعل قبل أن يتم بعد الخروج من المعتقل، بينما القول بأن برجوازية الأطراف سقطت تاريخيًّا كان يضع على كاهل تلك القيادات المنتحرة طبقيًّا عبء مواصلة السعي نحو بلورة موقف نضالي، لا أن يُعتبر الحل في حد ذاته موقفًا نضاليًّا.

إن واقع الطبقات في مصر كان هو الأكثر تقدمًا بالمقارنة بالبلدان العربية التي لا زال الماركسيون يشكلون جزءًا من خريطة سياستها، وإن كانوا جزءًا مأزومًا بالطبع، لكنهم حافظوا على بنى تنظيمية تبخرت على المستوى المصري وصارت أثرًا بعد عين. وبالتالي فإنه لا يمكن تفسير هذا التفكك بضعف التكوين الطبقي في مصر، كما أن هذا الضعف هو نتيجة جملة من الشروط التاريخية لا يغيرها سوى مشروع كان لا بد أن يتبناه الماركسيون، وبالتالي فإننا نقع فريسة لنوع من القدرية، حلقة لا يكسرها سوى البرجوازية الوطنية من جديد.

كان الفشل هو نتاج خلل البنية الطبقية لمنظمات تبنت الماركسية نظريًّا، لكنها بحكم بنيتها كانت منظمات برجوازية، وبحكم بنيتها فشلت في القطع مع المواقع البرجوازية، فمزقتها البرجوازية الوطنية لأنها منظمات لم تُبنَ لتتقاتل مع برجوازيتها، لكنها بحكم بنيتها كانت منافسًا لتلك البرجوازية تحديدًا، وتخضع تاريخيًّا لاحتمالات أن يدفعها الشرط التاريخي لتجذير بنيتها وموقفها، وبالتالي تصبح منافسًا حقيقيًّا نتيجة الميل المزدوج الذي فرضه عليها تركيب قاعدتها وقيادتها وشبح الأيديولوجيا التي تبنتها، لذا فإنه ليس غريبًا أن تجد مناضلي اليسار القدامى يجادلون حول أن الرأسمالية سوف تبقى لأنها لا زالت قادرة على إيجاد حلول لأزمتها، ليس هذا سوى صدى صوت الفكرة القديمة التي ترى في الرأسمالية ميول وطنية، أي ميول قادرة على حل المهام التاريخية وبينما تراجع فوكوياما عن فرضية نهاية التاريخ، تقدم المبشرون السابقون بعالم جديد لتثبيت صيحته!

على جانب آخر، لعب الاتحاد السوفييتي دورًا تدميريًّا على مستوى اليسار العالمي، ليس فقط على المستوى النظري بتقديم نسخة شائهة من الماركسية، بل لأنه اعتبر المنظمات الماركسية عالميًّا أدوات لتنفيذ السياسة الرسمية السوفييتية، لا منظمات ثورية في بلدانها، لا يعني هذا دعم ادعاءات العمالة للسوفييت التي أُلصقت بالماركسيين، بل يعني تحديدًا أنه قد رسم مسارًا لتلك المنظمات يخدم منطق الدولة ويفترق مع منطق الثورة، يحولها لأدوات في الصراع على النفوذ بدلًا من التعامل معها بندية رفاق نفس الخندق، كما أنه قد صاغ لماركسيي العالم الثالث نظرية التطور اللارأسمالي أو الطريق الثالث في بلورة متأخرة ونوعية لخرافة البرجوازية الوطنية كتلفيق أيديولوجي لاستكانة الماركسية لأنظمة دول التحرر الوطني فيما بعد الحرب العالمية الثانية. وبينما لعب الصراع الصيني السوفييتي دورًا في شق الماركسية إلى معسكرين متمايزين عالميًّا، لم يكن لدى الماركسيين المصريين والعرب عمومًا سوى تقديم الدعم اللامشروط للطرح السوفييتي، لأنهم حالما كانوا سيفارقون هذا الطرح كان سوف يتوجب عليهم النضال الفعلي والبحث عن تجذير منظماتهم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.