في زمن القطبية الثنائية (1990:1945)، كان العالم متوازنًا إلى حدٍ كبير. أحلافٌ وقوى متضادة تعمل في إطار تنافسي. تفاعلات قمة في التضارب والصراع بين كلا المعسكرين. لكن كل معسكر تمتع بمناخ تنافسي سلمي بداخله، لمَ لا والعقيدة والهدف والفكر واحد؟!

خلال تلك الفترة،نجح كلا المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي في استقطاب بعض القوى الإقليمية التي شكلت حينها مفهوم توازن القوى. إلى أن انهار الاتحاد السوفيتي، وغاب مفهوم توازن القوى عن الساحة الدولية. فالولايات المتحدة رائدة المعسكر الرأسمالي أصبحت تقود العالم بمفردها. وباتت تتعامل بمبدأ سيد الغابة الذي يأبى إلا أن يقود وحيدًا. ضاربًا بالأعراف الدولية عرض الحائط في أحايين كثيرة.

انحصر بالتدريج تأثير بعض القوى التقليدية وبرزت قوى إقليمية ودولية جديدة، تنامت أدوارها وشكلت فيما بينها تحالفات وشراكات اقتصادية واستراتيجية للوقوف في وجه التعنت الأمريكي. علاوةً على نبرة التحدي التي تبناها البعض في مقابل المواقف والقرارات الأمريكية المتعلقة بقضايا الشرق الأوسط ومناطق النفوذ والتأثير.

خلال الأيام القليلة الماضية، لوحظ رفضًا دوليًا من قبل بعض القوى الدولية والإقليمية لقرار الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» بنقل السفارة الأمريكية من «تل أبيب» إلى «القدس» والاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني. الأمر الذي استدعى تساؤلًا حول الدوافع الخفية التي تقف بدورها وراء هذا الرفض الدولي والإقليمي.


كوريا الشمالية: التسويق لمشروعها النووي

التاريخ يخبرنا أن تعاطف كوريا الشمالية مع القضية الفلسطينية دربٌ من دروب التعبير عن عدائها لإسرائيل ومن ورائها أمريكا. ففي عام 1988، أعلنت كوريا الشمالية عن دعمها لدولة فلسطينية تبتلع ضمن حدودها إسرائيل، مطالبة إياها بتسليم مرتفعات الجولان. وقامت بتوريد الأسلحة لمنظمة التحرير الفلسطينية. وفي حرب غزة 2008-2009 والغارات الإسرائيلية في 2010 وحرب إسرائيل – غزة في 2014، كان المسؤولون الكوريون يدينون العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة ويصفونها بجرائم ضد الإنسانية.

ومؤخرًا بعد إعلان دونالد ترامب القدس عاصمةً لإسرائيل، ندد زعيم كوريا الشمالية «كيم جونغ أون» يوم الخميس الموافق 7 ديسمبر/كانون الأول بهذا القرار وأضاف أنه لا توجد دولة تسمى «إسرائيل» حتى تصبح عاصمتها القدس. كما بُث بيان على شبكة «KRT» التابعة للحكومة الكورية الشمالية، أُعلن فيه أن قرار الرئيس الأمريكي ترامب «يعد استخفافًا وإهانةً للشرعية الدولية والتوافق العالمي حول ذلك الشأن، ويستحق الشجب والإدانة».

ولربما كان الدعم من قبل زعيم كوريا الشمالية للقضية الفلسطينية والعدائية التي انتهجها إزاء «إسرائيل» هي محاولة منه لتصحيح ازدواجية المعايير التي تتعامل بها الولايات المتحدة. فبينما تدعم أمريكا قدرات إسرائيل النووية، تدين الدول الأخرى الساعية للحصول على أسلحة نووية على الجانب الآخر، وعلى رأسها بلاده.

ويأتي هذا الموقف وسط زخم صراع شديد بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة وإسرائيل ووسط تهديدات بحرب نووية متحملة فيما بينهم، واستغلالًا لهذا الحدث المشحون، احتفل الزعيم الكوري بإطلاق كوريا الشمالية صاروخًا باليستيًا، رغبة منه في التظاهر بالقدرة النووية لدولته، في وقت يسلط الإعلام الأنظار عليه بسبب موقفه الرافض للقرار الأمريكي.


إيران: لا بديل عن محور الممانعة

نحن أصحاب الوحدة، لكن يوجد في مقابل هذه الحركة التي تسعى للوحدة أشخاص يسعون للحرب وهذه هي سياستهم
«على خامنئي» – المرشد الأعلى للثورة الإسلامية

جاء الموقف الإيراني في إطار تجميل صورة محور الممانعة، وإظهاره أنه المنقذ الوحيد للقضية الفلسطينية. فبينما أكد خامنئي خلال بيان له أن نية الولايات المتحدة بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل ناجم عن عجزها وفشلها، أشار الأمين العام لحزب الله «حسن نصر الله» ​إلى أن القرار وعد بلفور ثان. ودعا إلى «انتفاضة فلسطينية جديدة وتصعيد عمل المقاومة».مطالبًا بوقف كل أشكال التطبيع مع «إسرائيل» وقطع العلاقات الدبلوماسية معها.

اقرأ أيضًا:قرار ترامب يعطي قبلة الحياة لـ «محور الممانعة»

لا يخفى عن الأذهان، أن إيران كثيرًا ما أعلنت في المحافل الدولية والإقليمية عن أن عداءها لإسرائيل سياسة إيرانية ثابتة لا تتأثر بأي ظروف أو اعتبارات وأن الدعم المالي والعسكري لفلسطين وفصائلها المقاومة هو ثابت من ثوابت السياسة الإيرانية، وهو ما لا ينكره أي أحد. لكها أحيانًا ما تخلت عن هذا المبدأ بمقتضى المصلحة والضرورة. وحدث بالفعل أن تراجعت عن دعمها لحماس في الوقت الذي كانت تستميت فيه في مساندة بشار الأسد، لأن هذا الدعم في ذلك التوقيت كان يضر بمصلحتها.


بريطانيا حيث يضغط حزب العمال البريطاني

أعلن مندوب بريطانيا الدائم لدى الأمم المتحدة «ماثيو رايكروفت» رفضه لقرار ترامب، وأكد أن مدينة القدس عاصمة مشتركة بين فلسطين وإسرائيل. وأن بريطانيا لن تنقل سفارتها للقدس وستواصل ضغطها على الأطراف لتفادي أي إجراء من شأنه أن يعرقل عملية السلام. مشيرًا إلى أن توسيع المستوطنات يشكل عائقًا كبيرًا أمام تحقيق السلام.

هذا الموقف يدفعنا للعودة إلى الوراء. فقد مر مائة عام على وعد بلفور الذي أيدت فيه الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود. تمكن اليهود بفضل الضوء الأخضر الذي منحته بريطانيا لهم من تهجير ما يزيد على مليون فلسطيني في عامي1947 و1948. فكان «الانتداب البريطاني» حينئذ السبب في دفع الفسلطينين إلى الشتات والحرامان من وطنهم.

وتحويل اليهود من أقلية دينية إلى جماعة ذات ثقل عددي من خلال تشجيعها لهجرة اليهود إلى فلسطين. ومنذ عام 1948 وبريطانيا تتخذ أدوارًا رمادية غير مؤثرة في جوهر الصراع واكتفت بتأييد ودعم مبادرات التسوية التي تطرح حل الدولتين بما يتوافق مع المصالح الإسرائيلية.

ربما التفسير الأقرب للرفض البريطاني لنقل السفارة الأمريكية للقدس، راجعٌ إلى ضغط «جيرمي كوربن» زعيم حزب العمال، أكبر أحزاب المعارضة في بريطانيا، والذي شغل مؤخرًا منصب رئيس حكومة الظل. إذ يُعرف كوربن بكونه مناصرًا قويًا للقضية الفلسطينية، دعا مرارًا وتكرارًا إلى ضرورة رفع الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، مؤيدًا لسيناريو حل الدولتين.

الأمر الذي يثير القلق داخل إسرائيل، فبحسب ما ذكر في صحيفة «التليجراف»، فإن «الحكومة التي يقودها كوربن من شأنها أن تزيد من احتمالية إدانة بريطانيا لإسرائيل على الفور في حال تصاعد أي صراع أو قتال بين إسرائيل وحماس أو حزب الله على عكس الحكومات البريطانية السابقة التي دعمت حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها».


روسيا ورغبتها في التوسط

كان الدور الداعم للاتحاد السوفيتي – بزعامة ستالين عام 1947 – لمطلب الحركة الصهيونية بتأسيس دولة يهودية للمستوطنين في فلسطين دورا مهما وجوهريا في منح الشرعية الدولية لإنشاء «إسرائيل». إذ قدم للمستوطنين اليهود في فلسطين مختلف أشكال الدعم السياسي والدبلوماسي والعسكري. متجاهلًا تهجير الكيان الصهيوني قرابة المليون مواطن فلسطيني. لتستمر العلاقات بين الاتحاد السوفيتي وإسرائيل لما بعد تفككه. ففي العام الماضي احتفلت سفارة روسيا في تلك أبيب في 18 أكتوبر/تشرين الأول بمناسبة مرور ربع قرن على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وإسرائيل.

لكن على الرغم من تلك العلاقات المتينة، وجدنا روسيا على إثر القرار الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس رافضةً له على لسان وزير خارجيتها «سيرغي لافروف»، الذي اعتبر القرار قرارًا منافيًا لجميع الاتفاقات الدولية. وأشار إلى تأييد بلاده لفكرة حل الدولتين، وأن تكون القدس عاصمة مشتركة بينهما، القسم الشرقي عاصمة لفلسطين والقسم الغربي عاصمة لإسرائيل.

وواقع الأمر أن روسيا لا ترغب في قطع علاقتها بتل أبيب. لكنها على الجانب الآخر، ترغب في الحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط. ذلك عبر تبني خطاب مختلف من الناحية الشكلية عن المواقف الغربية لاسيما الأمريكية. لذا فموسكو تتبن ى «سياسة مسك العصا من الوسط». الأمر الذي لا يجعل لمواقفها بشأن ملف الاستيطان وسياسة القتل والتشريد قيمة أو تأثيرا. ولعل تحركات روسيا في الشرق الأوسط عمومًا تنم عن رغبة روسية للعمل كوسيط بدلًا من الولايات المتحدة. إذ ترى روسيا أن أمريكا وسيط غير محايد نظرًا لعلاقته الوثيقة بالكيان الصهيوني. وبالتالي فإنه لابد من إعطاء الفرصة لمشاركة دول كبرى وإقليمية أخرى في حل قضية السلام بين الفلسطينين والإسرائيلين.


الاتحاد الأوروبي يتحدى ترامب

انتقدت المجموعة الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والسويد) إضافةً إلى ألمانيا في مجلس الأمن الدولي قرار الرئيس الأمريكي، وأكدت في بيان مشترك لها أن القدس الشرقية هي «أراضٍ فلسطينية محتلة». ودعت إلى حتمية أن تكون القدس عاصمة مشتركة بين فلسطين و«إسرائيل».

ربما يرجع الدافع الحقيقي وراء رفض دول الاتحاد الأوروبي للقرار الأمريكي، إلى السلوك العدائي الذي ينتهجه ترامب ضد المجموعة الأوروبية برمتها منذ فوزه في الانتخابات، وتصريحاته المسيئة ضد قادة وزعماء القارة الأوروبية و المناهضة لحلف الأطلسي الذي يعتبره بأنه «قد عفى عليه الزمن». فضلًا عن دعمه لخروج بريطانيا من الاتحاد. الأمر الذي جعل قادة الدول الأوروبية ينظرون إلى شخص ترامب على أنه تحد وتهديد للاتحاد يجب التكاتف من أجل التصدي له.

فالتاريخ يخبرنا أن الصوت الأوروبي قد خبا حتى كاد يختفي مع أفول نجم الإمبراطوريات الأوروبية بنهاية الحرب العالمية الثانية. وانتقل الدور الفعال للولايات المتحدة التي أصبحت اللاعب الأهم على الساحة الدولية. واكتفت دول الاتحاد الأوروبي منذ ذلك الوقت بإصدار بيانات وتصورات نظرية عبرّت من خلالها عن رؤيتها لحل الصراع العربي الإسرائيلي وكيفية إقامة الدولة الفلسطينية.


وأخيرًا، يأتي الرفض الدولي الجامح لقرار ترامب على تأويلات مختلفة، فبين من يراه تعديًا على القانون الدولي، ومواثيق الأمم المتحدة، وهو جنوحٌ أمريكي لفرض واقعٍ بالقوة دون مبالاة. وبين من رآه فرصةً لإعادة البوصلة تجاه القدس، وتصويب مسارات انحرفت مع الربيع العربي، كما يتبدى في حالة طهران. والثابت في كل هذا أن ترامب ربما لم يحسب لهذه الخطوة، أو لنقل كان مدفوعًا إليها بمرارة الفشل الداخلي والأزمات السياسية التي تعرض لها تباعًا مذ وصل إلى البيت الأبيض.