في عام 1990 كانت جماهير نادي فيورنتينا الإيطالي على موعدٍ مع خسارة مؤلمة من مواطنها يوفنتوس في نهائي كأس الإتحاد الأوروبي . لكن خسارة أخرى أشد وطأة وأكثر إيلامًا كانت في انتظار جماهير الفيولي بعدها بأسبوعين فقط؛ نادي السيدة العجوز ينجح في ضمّ نجمهم ونجم إيطاليا الأشهر «روبيرتو باجيو».

لم تجتَحْ جماهير فيورنتينا الشوارع عقب الخسارة، ولم تَلُم رئيس النادي عليها، لم تُثِر شغبًا ولم تصطنِع فوضى، ولكنها فور علمها برحيل باجيو، تمردت وثارت وفعلت جميع ما سبق.

لأنه باجيو الأسطوري، بطلهم الذي أُرغم على الرحيل، ولأنه اليوفينتوس الذي غلبهم وحرمهم قبل سنوات من لقبٍ محلي غالي، فماذا بقي لهم؟ أي بطل سيعيشون في ظلاله؟ لمن ستلجأ تلك الجماهير عندما يحتد نقاش البطولات والأوسمة؟ أي اسمٍ «مُفحِمٍ» سيرمون به كورقةٍ حاسمةٍ في نقاشٍ طويل؛ فيُبهتَ الذي على الضفة الأخرى؟

لم يكن باجيو المُفحم الوحيد في عالم كرة القدم، كل ما هنالك أن الإفحام باتت كلمة عتيقة، لا تناسب الحالة الجديدة التي خلقتها وسائل التواصل الاجتماعي بين جمهور كرة القدم، مما دعا لابتكار كلماتٍ من قبيل «الشطشطة» و«الحرقان». ربما تعودتّ على سماع تلك الكلمات في وصف بعض أنواع الطعام في المطبخ الهندي، أو لأنك تقرؤها عادةً على واجهة محلّات الكشري والطواجن. ولكن، في وصف لاعب كرة قدم؟

ولهذا تطرح تلك الأسئلة نفسها: كيف بدأت «الشطشطة» الكروية؟ وهل هي ظاهرة قديمة أم إن وسائل التواصل الاجتماعي مَن قدمتها للعلن؟

سيكولوجية «الحرقان»

هذان الناديان يحتاجان بعضهما البعض، ليفربول ومانشيستر يونايتد.
-السير أليكس فيرغسون، في حوار عبر راديو BBC.

بالطبع نحتاج للفوز، لكن حاجتنا لخسارة الآخر المنافس مهمة أيضًا. لأن هذا المنافس يشبهنا لحد بعيد (الأهل، الجار، الأصدقاء، زملاء العمل) ولكن ليس تمامًا. وتلك الفروق البسيطة بيننا هي من تصنعنا.

أي ناد نشجع؟ من يمتلك سجل انتصارات أكبر؟ إلخ. وهي ما يمنح الأمر برمّته بعدًا نفسيًا أكبر أو ما يمكن أن نطلق عليه سيكولوجية الحرقان.

يجادل «سيجموند فرويد» في أطروحته الشهيرة «الغريب» المنشورة عام 1919، أن إحساس الغرابة يأتي من تهديد أحدهم للبيت كمساحة آمنة. بإسقاط ذلك على كرة القدم نجد أن الخصم يشكل تهديدًا لتلك المساحة، ولذواتنا بالتبعية. فهؤلاء الخصوم يطالبون بما نعتقد أننا نملك، ويزعزعون علاقتنا بتلك المساحة/ البيت/النادي، بأن يخبرونا بأشياء لا نرتاح لسماعها.

بلغة أبسط، ينشط فريقا ليفربول وإيفرتون الإنجليزيان في المدينة نفسها، ولا يفصل بين ملعبيهما سوى حديقةٍ وميل واحد. في اسكتلندا، المسافة بين ملعب نادي «دندي إف سي» ونادي «دندي يونايتد»، لا تتجاوز 200 متر. وفي إيطاليا نجد أن ملعب نادييّ «ميلان» واحد، وملعب فريقي «روما» و«لاتسيو» واحد.

وعليه فإن تلك القواعد الجماهيرية التي تسكن نفس المدينة وتتكلم بنفس اللهجة وترتاد نفس المدارس والمطاعم والمنتزهات، لا بد أن تجد فيما بينها ما يمكن أن تفخر به على بعضها. فتدور بينها سجالات من قبيل من الأكثر «شطشطة» الأهلي أم الزمالك؟ وهل مانشستر مدينة حمراء مثل اليونايتد أم زرقاء مثل السيتي؟

ومن أجل ذلك الغرض أيضًا تلجأ بعض الفرق إلى ما يمكن أن نسميه «اختراع الغريم»، إذ تحاول تلك الفرق التي لا تمتلك غريمًا محليًا أن تخترع واحدًا، متكئةً في ذلك على أسباب منطقية وأخرى ليست كذلك.

تمامًا كما حدث بين يوفنتوس وفيورنتينا، الفريقين اللذين لا تجمعهما مدينة واحدة ولا مستوى تنافس واحد، وإنما عداوة تقوم على انتقال «روبيرتو باجيو» من فيورنتينا إلى يوفنتوس وبعض الفضائح التحكيمية وأشياء أخرى.

وفي عام 2004، ينعش بايرن ميونخ خزائنَ غريمه الأكبر بوروسيا دورتموند الغارق في ديونه، الموشك على الإفلاس، غير القادر على دفع مرتبات لاعبيه، بمليوني يورو، دون فوائد وبجدولة سخية جدًا لتلك المديونية.

ليس لأن البافاري أكرمُ من حاتم، ولكنها سيكولوجية الحرقان التي تعتمد على المنافسة. يجب أن تبقى العداوة قائمة، حتى يبقى الفريق قويًا، ولأن ركود الماءِ يُفسدهُ.

إذا كان ذلك شأن الأندية، باعتبارها مؤسسات ربحية تمارس تلك الحيَل النفسية من أجل ارتفاع أسهمها وازدهارها؛ فما شأن المشجعين؟

كحاجة غوثام إلى باتمان

في عوالم الكوميك، تُقدَّم مدينة «غوثام» على أنها غارقة في الفساد والآثام، ترزح تحت وطأة الأشرار والغوغاء الذين استشرَت سلطتهم بدعمٍ من شرطة المدينة الفاسدة. مما يجعل ليلها كئيبًا ومخيفًا، إلاّ من ضوءٍ يلمع وسط المدينة.

إشارة البطل الحرّاق، «باتمان» الذي يتشبث الناس به، ويرون فيه خلاصهم أو جزءًا منه على الأقل، وينسبون نجاحاته لهم، لأنه منهم كما يعتقدون.

وهذا بالضبط ما قد يخلق الحاجة للاعب كرة «حرّاق» أو فريق «مشطشط»، أو مدير كرة «يولِّع» الخصوم بتصريحاته الصبيانية النارية؛ فتشعر الجماهير أن هنالك من نطقَ عنها وأطفأ لهيب قلبها.

غير أن هذا اللهب لم يشبَّ بسبب المنافسات الكروية بالأساس، وإنما لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية خلقت حياةً قاسية صعبة، لا متنفسَ منها إلا من خلال «الشطشطة بالإنابة».

في مقالة بحثية نُشرت عام 2022، بعنوان «عقلية (نحن ضدهم) عند مشجعي كرة القدم»، تم اختبار مجموعة من مشجعي فريقين في الدوري التشيلي. هذان الفريقان هما الأكبر من حيث القاعدة الجماهيرية وعدد الألقاب، وجماهيرهم للمفارقة هم الأتعس حظًا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية.

تبين أن اللاعبين بينما يركلون الكرة، يعبثون أيضًا بكيمياء المخ عند هؤلاء المشجعين. فعندما يحرز فريقهم هدفًا في مرمى الخصم، ينشط نظام المكافأة في المخ، وعندما يتلقى هدفًا، يحدث تثبيط لذلك الجزء من المخ المسئول عن السلوكيات التكيفية، تلك التي تعكس قدرة الإنسان وكفاءته على المضي في شئون حياته اليومية.

وإن وضعنا في الاعتبار المستويات الاقتصادية والاجتماعية لتلك القواعد الجماهيرية؛ نجد أن المحصلة التي توصل لها الباحثون منطقية جدًا، هؤلاء المشجعون يريدون أن ينتموا لكيان أكبر، يمتلك القدرة على النجاح، والأهم أن يمتلك القدرة على إغاظة/حرقان/شطشطة منافسيه. وبخاصة أولئك الذين يشاركونهم نفس المكانة، وحبذا لو كانوا في المساحة الجغرافية ذاتها.

تلك الحاجة الملحّة لأن ينتصروا تكون حاضرةً بشدّة، حتى لو كان انتصارًا وهميًا، لم يقدموا فيه ولم يضيفوا، ولكن انتماءهم الاجتماعي لهذه الفرقة أو تلك يجعل من نصرها نصرًا لهم ومن مجدها الكروي مجدًا خاصًا بهم، لن يقدروا أن يأتوا بمثله في حياتهم العادية البائسة.

وهنا يتجلى دور اللاعب الحرّاق، الذي هو أداة النصر، والذي يكفي أن تنطق تلك الجماهير باسمه في أي نقاش كروي، حتى يُبهت منافسوهم ويعودوا منهزمين جميعًا إلى حياة مشتركة نسبيًا، لكن أحدهم يشعر أنه يفضلُ صاحبه ويتفوق عليه.

أليس هذا تحديدًا ما فعله «قفشة» بمشجعي الزمالك؟ ذلك اللاعب «الحرّاق» الذي أحرز الهدف الأغلى في نهائي القرن، وأرسل جماهير النادي «الأهلي» للاحتفال في كل شوارع مصر، وقعد بمشجعي الزمالك في حزن وكآبة ما زالوا يعانون آثارهما حتى الآن؟

ما مقدار اعتماد الأهلي على «قفشة» الآن، ما مدى رضا المدربين والإدارة عن أدائه، ما المميزات الحقيقية التي يتمتع بها بلغة الكرة؟ كل ذلك لا يهم، طالما أنه «أنقذنا من تحفيل الزملكاوية».

زوبعة في فنجان أم كارثة كبرى؟

في دراسة صدرت عام 2022 لمجموعة من الباحثين في جامعة كينت، وُجد أن هناك علاقة طردية بين ارتباط المشجعين بناديهم ومستوى العدائية مع جماهير الفريق المنافس. وهذا أمر مفهوم، لكن الدراسة أوضحت أيضًا أن هؤلاء المشجعين المتعصبين، هم الأكثر ميلًا لإظهار بوادر المساعدة والإيثار لمشجعي نفس الفريق.

وهو ما يدحض بشكل جزئي الفكرة الشائعة بأن العنف هو الاعتبار الأول لدى مشجعي كرة القدم بشكل عام. وتصديقًا على تلك الخلاصة؛ أشارت الدراسة إلى التعاون الذي حدث بين جماهير الغريمين ليفربول وإيفرتون، حين اقتضى الأمر إنشاء بنك طعام في المدينة.

بحسب منظور اليوم والأمس، فإن كرة القدم ليست رياضة مسالمة على الإطلاق. سواء في المدرجات الفعلية والافتراضية، أو في أرض الملعب.

الدليل الأقرب على ذلك، ما حدث في ملعب “كانجوروهان” في إندونيسيا، أول أكتوبر عام 2022. حين اقتحمت جماهير الفريق الخاسر أرض الملعب، مما تسبب في ذعر وتدافع، كانت نتيجته كارثية؛  125 قتيلًا، و320 جريحًا.

كمحاولةٍ لاستشراف المستقبل، نجد أنفسنا محاصرين بأسئلة ندّعي أنها وجوديّة، لكنها في غاية البداهة: هل ستُذكي ثقافة الشطشطة والحرقان، العنفَ الكروي؟ أم أنها مجرد زوبعة في فنجان السوشيال ميديا؟ وهل هذا سلوك اتفق المشجعون كلهم على انتهاجه أم أنها شراذم قليلة من شبانٍ طائشين يفتقدون لحسّ المنطق وتحركهم العاطفة، ويبحثون عن البطل الحرّاق ليعيشوا في ظله؟