سُئِلت الكاتبة الأمريكية «آن باتشيت»: لماذا تكتبين؟ فأجابت:

أكتب لأنني -وأقسم بالله- لا أعرف كيف أقوم بأي شيء آخر.

كل يوم تقريبًا أصادف عددًا لا بأس به من «الكُتَّاب» -مع تحفظي الشديد على الكلمة- في العالم الافتراضي سواء على فيسبوك أو تويتر، لم أقرأ شيئًا لهؤلاء ولا أعرفهم ولا أعرف أنهم «كُتَّاب» إلا من خلال تعريفهم الشخصي لأنفسهم؛ فهم يُعرّفون أنفسهم على صفحاتهم الشخصية على أنهم «كُتَّاب».

ثمة أسئلة تلح عليّ كلما دخلت على حساباتهم الشخصية: هل يعرف هؤلاء ما معنى أن يكون المرء كاتبًا؟ هل يميزون الفرق بين الكاتب والمؤلف أو صانع محتوى مقروء؟ هل يعرفون بأن الكتابة لها نوعان من الثمار: ثمرة ناضجة متكاملة وهي الكاتب، وثمرة غير ناضجة وهي المؤلف؟

لم تكن الكتابة يومًا ترفًا أو وسيلة إنقاذ من مأزق وجودي، كل هذه مجرد تصورات غير دقيقة عن الكتابة بل و مغلوطة أحيانًا؛ ذلك أنها تُصوِّر لنا الكتابة على أنها خيار يمكن أخذه أو تركه، في حين أن الكتابة الحقة -أو التي أسميها «الكتابة الأم»- هي أشبه بعملية فسيولوجية معقدة ضمن عمليات الجسم التي لا غنى عنها، وأي خلل يصيبها سيسفر عنه عطل في سائر العمليات الحيوية الأخرى في الجسم. ومن المهم أن نشير هنا إلى أن الكتابة مصطلح فضفاض وشائك بعض الشيء، يحوم حوله الكثير من الجدل، ولكن لنحسم هذا الجدل من البداية فالكتابة التي نتحدث عنها في هذا المقال: هي الكتابة الإبداعية التي تكون ثمرتها «كاتب»؛ وليس كل عملية كتابة ينتج عنها «كاتب».

الكتابة موهبة أم مهارة؟ سؤال ناقص

من منّا لم يُطرح عليه هذا السؤال أو سمع أو قرأ عنه؟

يعد هذا السؤال من أكثر الأسئلة والنقاشات شيوعًا حول الكتابة، لكن ثمة شيء ناقص في هذا السؤال، وعليه فإن كل الإجابات التي قُدّمت كانت ناقصة أيضًا لأنها بُنيت عليه. هل كان المقصود بالكتابة هنا، الكتابة العاقر التي لا تنجب كاتبًا حقيقيًا، أم «الكتابة الأم» التي لم تنضج بعد ثمرتها (مؤلف) أو تلك التي نضجت ثمرتها فأصبحت (كاتب)؟

قد يتساءل القارئ: وكيف نميز بينهما؟ الإجابة على هذا السؤال أكبر من أن نناقشها في مقال، وعلى كل حال ليس هذا هو موضوعنا الرئيسي، لا يوجد مثلاً مقاييس أو معايير معينة نستطيع من خلالها تمييز الكاتب من المؤلف، لكن ما يهمنا حقًا معرفته هو أن هناك حاجزًا متينًا بين الكاتب والمؤلف.

إن الكاتب ليس كل من يكتب قصة، رواية أو مقالة؛ ذلك أن الكاتب لا يكتب فحسب، الكتابة جزء من تكوينه الذاتي. يقول كافكا: «أنا مصنوع من الأدب وليس من أي شيء آخر». ومن يظن بأن عبارة كافكا مجرد تعبير بلاغي فهو مخطئ، أو لا يعرف كافكا جيدًا، فكافكا بالفعل مصنوع من الكلمات والقصص والروايات، إن ذاته الأصيلة -هويته الحقيقية- تدور في فلك الأدب.(1)

يقول الروائي جورج أورويل:

منذ سن مبكرة جدًا، ربما عند عمر الخامسة أو السادسة، علمت أنني عندما أكبر سيتعين علي أن أصبح كاتبًا. وبين حوالي عمر السابعة عشر والرابعة والعشرين تخليت عن هذه الفكرة، لكنني قمت بذلك وأنا واعٍ بأنني أغضب طبيعتي الحقيقية، وأنني عاجلاً أم آجلاً سوف أستقر وأكتب كتبًا.(2)

إن هذه الثقة التي كان يتمتع بها أورويل لم تكن مجرد ثقة عالية، بل كانت تنبع من غريزة فطرية، هذه الثقة لم تكن لتوجد لولا أنها وجدت ما يسقي بذورها حتى نمت وكبرت وأثمرت. الموضوع نسبي فقد يختلف تعريفي الشخصي لـ «الكاتب» عن تعريفك، ولكن ما ينبغي أن نتفق عليه جميعًا أن ليس كل من يكتب فهو بالضرورة كاتب.

يقول الشاعر والروائي تشارلز بوكوفسكي في قصيدة له: «أرى كيف أنني صنعت الكثير من الشعراء، لكن ليس الكثير من الشعر». وأنا أقول: يوجد الكثير من الروايات والقصص والمقالات، وقليل من الكُتَّاب الحقيقيين.

دورات الكتابة الإبداعية: هل تصنع كاتبًا؟

نسمع بين الفينة والأخرى عن دورات تدريبية خاصة بتعليم فن كتابة القصة والرواية والمقالة. لا شك أن هذه الدورات تساعد على صقل المهارات اللغوية والكتابية للفرد، وتُعلِّمه أساسيات الكتابة النثرية أو الأدبية، أي أنها تعطيك «طرف الخيط» كما يقال، ولكن ماذا عن بقية الخيط؟ إنها مسئوليتك في أن تجده وتُمسِك به.

وهذا هو عيب دورات الكتابة الإبداعية، أنها تصور الكتابة الإبداعية على أنها «خيط» يمكن الإمساك به، أو كنز يمكن العثور عليه بمجرد البحث عنه.

قد تتعلم كيف تصيغ جملاً بلاغية، وتستخدم استعارات، بل وقد تتمتع بلغة قوية غنية بالمفردات والتشبيهات البلاغية وتستوفي كتابتك كل أركان وعناصر الرواية أو القصة، لكن هل هذا كافٍ لتصبح كاتبًا؟

بالطبع لا، لأنك حينها تكون قد استوفيت فقط بعض شروط وعناصر الكاتب، لكن الكاتب ليس مجرد كلمات وجمل بلاغية، الكاتب أيضًا روح حية تنبض في النص، لذلك، فإن لحظة رصد القارئ لنبضات هذه الروح هي بالضبط لحظة ولادة الكاتب.

كتبت هذا المقال وكان دافعي الرئيسي لكتابته هو ما لاحظته من استسهال لكلمة «كاتب» من قِبل القراء والمؤلفين، ممن ألّفوا روايات وقصص أو كتبوا مقالات، كتبته انحيازًا في صف «الكاتب الحقيقي»، في صف من لامس أعمق نقطة في وجداني ولم أكن أعرف بوجودها لولاه، في صف من احتوتني كلماته بدفء لا مثيل له، كتبته انحيازًا لكافكا في تحفته الأدبية «المسخ»، ونيتشه في رائعته «هكذا تكلم زرادشت»، كتبته انحيازًا في صف قلة قليلة من الكُتَّاب ممن أجدهم يستحقون هذا اللقب.

اكتبْ… هذا حقك الإنساني والطبيعي، ولكن إذا كنت تظن بأنك ستصبح كاتبًا لمجرد أنك تكتب، فتوقف عن الكتابة فورًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. حسين اليوسفي، “النزعة الفلسفية في الأدب الوجودي: فرانز كافكا أنموذجاً”، بيروت، دار الروافد الثقافية، 2016.
  2. جورج أورويل، “لماذا أكتب”، ترجمة: علي مدن، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013، ص 205.