يبدأ المشهد دومًا في الدقيقة الأخيرة من المباراة، تهتف جموع الجماهير باسمك لكي تنقذهم بهدف الانتصار في اللحظة الحاسمة. ومن غيرك قادر على أن يفعلها أيها البطل الأسطوري. تتهادى الكرة أمامك من اللا مكان فتركلها بكل قوة في مرمى المنافس.

ثم تتوالى مشاهد السعادة، مشهد للجماهير وهي تصرخ وتبكي فرحًا غير مصدقة ما حدث. ثم مشهد تجد فيه أمك بوجه راضٍ عنك أخيرًا، ولا عجب أن تجد أباك يتقبل تهاني الجيران والمعارف بفخر كبير، وكأنه لم ينهرك ليلًا نهارًا بسبب لعب كرة القدم، ثم مشهد مهم لفتاة جميلة في غاية السعادة بالهدف. يبدو أن هذه الفتاة تحبك، وربما تبادلها أنت هذا الحب، سيتضح هذا في القادم من المشاهد.

لكن في هذه اللحظة تحديدًا، ينهار حلم اليقظة الجميل على صوت أحد المدرسين الذي لاحظك طفلًا ينظر بسعادة بلهاء في الفراغ. يعلم الرجل جيدًا أن حديثه عن اتجاهات الرياح لا يسبب مثل تلك السعادة البادية على وجهك. يوقظك صوته الذي اقترب منك ثم تضعك نظرات كل من حولك في حرج شديد فتستفيق سريعًا وتنسى حلمك حتى يباغتك هو مرة أخرى.

الحديث هنا يشمل الجميع، من منا لم يكن طفلًا يحلم بمشهد مثل ذلك، لاعب كرة قدم أو فنان أو رئيس جمهورية أو شيخ جليل. كونك بطلًا يتعلق به الجميع في لحظة ما فتنقذ الموقف ويسعد الجميع هو حلم لكل طفل. لكننا جميعًا نسينا هذا الحلم للأبد، الواقع الرتيب الممل كان قادرًا على أن ينسينا هذا الحلم الجميل. لكن أحدنا حقق حلمه. يُدعى محمد صلاح. أصبح صلاح لاعب كرة قدم تتغنى باسمه الجماهير أينما ارتحل. يصعد بمنتخب مصر لكأس العالم في اللحظة الأخيرة. ثم يصنف كواحد من أهم لاعبي العالم، ويحيي أمل الفوز بالدوري الإنجليزي في نفوس جماهير ليفربول التي كانت على وشك أن تفقد هذا الأمل.

ربما استيقظ الحلم مرة أخرى داخلنا بعد أن شاهدنا محمد صلاح يحقق حلم طفولتنا الأثير فأصبح تشجيعه ودعمه شيئًا شخصيًا يسعد به المرء، إلا أن الأمور بدأت تتقلب مع الوقت بشكل مخيف حتى انتهت بوجود بعض المصريين الذي حلموا في صغرهم أن يكونوا مثل محمد صلاح لكنهم يكرهون الآن محمد صلاح!

ما بين التقليل الزائد والاحتفاء الزائد تعددت الأسباب وتنوعت، دعنا نحاول رصد تلك الأسباب بشيء من الموضوعية.


وكأن الحلم يجب أن يظل حلمًا

يبقى الجميع على قدر من المثالية في الصغر، يتمسك المرء بكل المبادئ التي يتلقاها في صغره حتى تختبر الحياة تلك المبادئ. كذلك أحلام المرء الطفولية تبقى في ذهنه حتى يفاجئه الواقع بهشاشة تلك الأحلام وصعوبة تحقيقها. من فضحته براءته وأخبر أهله بأحلامه فكان رد الفعل دومًا ما بين استخفاف أو ابتسامة توضح أن ما تتحدث به لن يحدث، وكأن الحلم يجب أن يظل حلمًا.

كبرت الأطفال وتبدلت الأدوار وأصبحت تصدر الأحكام على كل حلم بالفشل المسبق. لن ينجح صلاح أن يكون من نجوم الصف الأول في العالم. لماذا؟ لا يوجد إجابة سوى أنه حلم بعيد المنال.

يتألق صلاح في سويسرا وإيطاليا ويلقب بالملك في إنجلترا وما زال يشكك البعض في كونه من أهم لاعبي العالم. إنه نجم الموسم الواحد، بل هو صنيعة المدرب كلوب وسيضيع من بعده، مصر تأهلت لكأس العالم بسبب ضعف المنافسين لا أكثر. مبررات عديدة لكن تلك ليست الحقيقة.

الحقيقة أن هناك البعض الذي يستكثر على أحدهم أن يحقق حلمه. لا يعتبر أن لاعب كرة قدم قادمًا من أحد أقاليم مصر ليتربع على عرش هدافي الدوري الإنجليزي هو أمر يجب أن يحترم. لماذا يصبح محمد صلاح حديث المجتمع ونموذجًا للنجاح، رغم أنه لم يتذوق مرارة الاجتهاد الدراسي وسهر الليالي؟


لماذا لم يتنازل مثلهم؟

البعض الآخر يرى أنه نجاح صلاح دون أن يتنازل عن أخلاقه وهو أمر غير معتاد. هكذا وجد البعض بيئة مصر الفاسدة هي الأساس والقاعدة. لقد تنازل كل شخص منهم عن مبادئه الواحد تلو الآخر في رحلة النجاح والشهرة فلماذا ينجح شخص آخر دون أن يتكبد عناء ذلك الانحلال الأخلاقي الذي فرض على الجميع؟

هؤلاء هم الأسوأ على الإطلاق من كارهي صلاح لكن الأمر ليس دومًا بتلك القتامة فهناك من بدأ بحب صلاح ثم كف عن ذلك لأسباب موضوعية تمامًا، صلاح نفسه كان أحد تلك الأسباب.


صلاح وسائل التواصل الاجتماعي

قرر محمد صلاح أن تكون القنوات الأساسية للتواصل بينه وبين جماهيره هي وسائل التواصل الاجتماعي. وهو ما يفرض عليه حتمية أن ينتقي رسائله بشكل دقيق للغاية. فالتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها مساحة شخصية هي رفاهية لا يمتلكها نجوم الصف الأول وخاصة عندما تبقى نجمًا يتعلق بك الملايين بشكل كبير للغاية وهو ما لم يفهمه محمد صلاح.

بدأ الأمر في الثاني عشر من فبراير عام 2015. إبان ذلك التاريخ كان محمد صلاح لاعبًا في فيورنتينا وكانت جماهير مصر الغفيرة تجلس في المقاهي لكي تتابع مباريات فريق لم يشاهده معظمهم من قبل. لكن محمد صلاح قرر طواعية أن يتفلسف على الجميع عبر موقع تويتر بعدة تغريدات متتالية تحث الشباب نحو التفاؤل لكي ينتهي الأمر بتغريدة نصها: «إنتا عملت آيه يفيد البلد في حياتك علشان مستني ان البلد تفيدك وترد لك الجميل ؟؟؟».

رد الفعل كان منطقيًا بالطبع، فحديث مثل هذا يثير حفيظة الكثير من الشباب الذي لم تساعده ظروف البلد في أن يحقق أحلامه رغم كفاءته واجتهاده. المثير هنا أن هؤلاء تحديدًا هم جمهور محمد صلاح الوفي الذي يدعمه ويشجعه أينما ذهب. فهؤلاء ارتضوا أن يحقق محمد صلاح تلك الأحلام التي فشلوا هم في تحقيقها.

لا يمتلك محمد صلاح الوعي الكافي لإدراك أهمية كلماته وأثرها في نفوس جماهيره، يتعامل صلاح مع الأمر بالكثير من التلقائية لا الحذر وهو ما يوقعه في كثير من الأحيان في شباك النقد. مثلما قرر بعد نشر عدد من الصور أثناء قضاء أجازته الصيفية أن ينشر تغريدة نصها «وفجأة الشعب قرر يصيف والصور كلها تنزل من على البحر. لا وبالمايوه». وكأن المصريين لم يعرفوا البحر قبل وجود محمد صلاح، ليبدأ نقد جديد كان صلاح في غنى عنه تمامًا.

ربما هؤلاء لا يكرهون محمد صلاح بالمعنى المفهوم للكره لكنهم فقدوا شغفهم به وأصبحوا على الحياد ولكن التعامل مع تشجيع صلاح كواجب وطني ربما يدفعهم لكرهه مع الوقت.


الاحتفاء الزائد: مصر هتفضل غالية عليا

أصبح تشجيع كرة القدم الأوروبية هو ملاذ شباب المصريين نحو مسافة آمنة بلا تداخل مع أجيال سابقة تفرض وصايتها ونصائحها في كل وقت دون مبرر واضح. تألق محمد صلاح والتفاف الجميع حوله استباح تلك المسافة الآمنة لدى الشباب. المثير هنا أن الجيل الأكبر سنًا أصبح يتعامل مع دعم محمد صلاح كواجب وطني له قدسيته.

المثير أيضًا أن الدعم الذي تلقاه شخص محمد صلاح لم يكن ثابتًا بل كان مختلفًا طبقًا لأيديولوجية كل فرد وتعامله مع مراحل تطور محمد صلاح. ففي البداية ظهر محمد صلاح كنسخة مقاربة لمحمد أبو تريكة اللاعب المتدين الذي يعشقه المصريون، حتى أنه رد على سخرية زميله في صفوف تشيلسي ماتيتش من الموسيقى التي يستمع لها صلاح، بأن تلك الموسيقى ليست سوى أناشيد دينية للشيخ الكويتي مشاري راشد. وهذا بالطبع أثار اهتمام الكثيرين.

قرر محمد صلاح أن يتبرع بمبلغ ما لصندوق تحيا مصر، وهو ما جذب أيضًا اهتمام ودعم الكثيرين. ثم ظهر صلاح أخيرًا بصورة الرجل المنفتح وهي الصورة المناسبة لنجم الدوري الإنجليزي بالطبع.

في كل مرحلة عاش فيها محمد صلاح كان هناك من الجيل الأكبر سنًا من يتعامل مع الأمر أن ذلك تحديدًا سبب نجاحه. ذلك الانجذاب من فئات جديدة باختلاف أعمارها أيضًا بشكل أو بآخر لتشجيع الأندية الأوروبية جعلهم في مواجهة من هم يعتبرون تلك مساحة شخصية للغاية.

يكفي أن يجلس أحدهم في مقعده المعتاد في أحد المقاهي لكي يشجع فريق ريال مدريد. هذا المقعد شهد أكثر من عشر سنوات من تشجيع ريال مدريد دون أن ينتقد ذلك أحد. لكن هتاف صاحب المقعد بهدف مدريد الأول في نهائي دوري أبطال أوروبا الماضي ضد ليفربول صلاح كان كفيلًا أن يعرضه لنظرات الاستنكار والاتهامات بانعدام الوطنية لأنه يشجع الفريق غريم صلاح. يكفي فقط أن يتقدم أحدهم ويصرخ فيه: «كرر من خلفي: يحيا محمد صلاح، مصر هتفضل غاليه عليا» بأداء محسن محيي الدين في فيلم اليوم السادس.

يتكرر الأمر مع متابعي الكرة الأوروبية المحنكين والذين يقدرون تمامًا أداء محمد صلاح وتطوره المذهل لكنهم يمتلكون بعض الملاحظات البريئة على أدائه في الملعب، والتي يرونها واضحة للغاية، ولكنهم يعرفون جيدًا كم الانتقاد الذي سيتلقونه إذا عبروا عن تلك الملاحظات.

هذا الاحتفاء الزائد جعل البعض يكره محمد صلاح ويكره اليوم الذي لعب فيه محمد صلاح كرة القدم. وإن كان مبرر كل ذلك الاحتفاء أن كرة القدم ليست حكرًا على أحد. فتشجيع فريق معين من عدمه ليس فرضًا على أحد في المقابل.

يندرج كل ذلك بالطبع تحت بند الحرية الشخصية، لكل فرد مطلق الحرية أن يحب محمد صلاح أو يكرهه لكن الشيء الأهم هنا أن ما يحققه محمد صلاح يحترم ويقدر ولا يمكن أن ينكره أحد.