يتألف الكون من حكايات لا من ذرات.
موريل روكايزر، شاعرة. (1)

في نوفمبر/تشرين الأول من عام 1996، سافر «دانيال كولمان» إلى قاعدة عسكرية أمريكية في ألمانيا، كان معه مدعيان أمريكان، وهناك قابلوا واشٍ سوداني يُدعى «جمال أبو الفضل»، ادعى أنه عمل مع أسامة بن لادن في الخرطوم. حمل كولمان كُتيبًا يحوي معلومات وصورًا لأعوان بن لادن، كان أبو الفضل يبيع قصّة، من الواضح أنه يعرف أبطالها جميعًا، المشكلة أنه ظل يكذب على المُحققين ويبالغ في قصّته ويصوّر نفسه بطلًا.

سأله المدعيان: «لماذا تركته؟» أي ابن لادن.

أجاب أنه يحب أمريكا وعاش في بروكلين ويتحدث الإنجليزية، ثم أنه هرب حتى يستطيع تأليف كتاب يُحقق أعلى المبيعات. (2)

لماذا نكتب القصص؟

ربما كان أبو الفضل يود الهروب من الحقيقة ويمنح نفسه حياة جديدة، يختار تفاصيلها، لا شيء مفروض عليه فيها، ويُقابل خلالها أُناسًا كان يود رؤيتهم، يصنع قصة مُبهرة ووهمًا جميلًا. لكن إذا راودتك رغبة كتابة قصة مثل أبو الفضل فمن الأفضل لك أن تتناول حبتين من الإسبرين، ثم تضطجع بعد ذلك في غرفة مُظلمة، انتظارًا لانقضاء ذلك الإحساس، وإذا ألح عليك ذلك الإحساس، فقد يتحتم عليك أن تكتب رواية. (3)

إذن فالكتابة وسواس دائم وجميل، حِمل ثقيل ينزعه الكاتب من عقله ويرميه في بئر الورق. إن لم تزُرك تلك الوساوس فمن الأفضل أن تُكمل حياتك ولا تحاول إخراج المارد من قمقمه.

في كلمته في احتفال الأكاديمية السويدية، يُعرّف الأديب التركي «أورهان باموق» الأدب بأنه موهبة أن نحكي حكايتنا الخاصة كما لو كانت تخص آخرين، وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكايتنا الخاصة. ولكي ننجح في ذلك، فإننا ننطلق من حكايات الآخرين وكتبهم.

اقرأ ثم اقرأ ثم اقرأ ثم اكتب

الطريق إلى الكتابة يبدأ بقراءة حكايات الآخرين وكتبهم، فجميع الكُتّاب هم في الأصل قُرّاء صالحون، يقرؤون بحثًا عن أصدقاء جُدد من الورق، وحيوات موازية مُسلية، وفوق كل شيء يقرؤون لنسيان الشعور بالوحدة ولو مؤقتًا، فالكاتب كائن منقوع في الوحدة وإن ادعى غير ذلك.

وهناك طرق كثيرة لقراءة الرواية، نقرأ أحيانًا بمنطقية، وأحيانًا بأعيننا، وأحيانًا بمخيلتنا، وأحيانًا بجزء صغير من عقلنا، وأحيانًا بالطريقة التي نُريدها، وأحيانًا بالطريقة التي يُريدها الكاتب، وأحيانًا بكل خلية من كياننا.

وكان الأديب الأمريكي «راي برادبري» يقضي ثلاثة أيام في الأسبوع لمدة عشر سنوات في المكتبة، يُعلّم نفسه بنفسه، وكان هذا أفضل من الذهاب إلى الجامعة على حد قوله، كما أنه التقى زوجته في متجر لبيع الكتب في سان فرانسيسكو (4)، وأيضًا تقول مؤلفة «قواعد العشق الأربعون» إليف شافاق:

إن الكتب هي من غيرتني… من أنقذتني… وأعلم في قرارة نفسي أنها ستنقذكم أيضًا. (5)

من أين تأتي مُتعة قراءة الروايات؟

في كتابه «الروائي الساذج والحساس» يسرد لنا «أورهان باموق» ببراعة العمليات التي تقوم بها عقولنا حينما نقرأ رواية:

  1. نتأمل المشهد العام ونتابع القصّة: فنحن نقرأ روايات التشويق والمغامرة والروايات رخيصة الثمن (الروايات البوليسية وروايات التجسس و…) لنعرف ماذا سيحدث بعد ذلك. بينما نقرأ الرواية الحديثة أو الرواية الأدبية من أجل أجوائها، وبحسب الفيلسوف الإسباني؛ أورتيغا إي غاسيتن، فإن أجواء الرواية هي شيء ما أكثر قيمة، مثل لوحة مرسومة تحوي القليل جدًا من السرد.
  2. نحول الكلمات إلى صور في عقولنا: لكي نستمد المتعة من الرواية علينا الاستمتاع بهجر الكلمات وتحويل هذه الأشياء إلى صور في عقولنا.
  3. كم من التجربة الحقيقة أخبرنا بها الكاتب في هذه القصة وكم من الخيال؟ يلح علينا هذا السؤال خصوصًا في أجزاء الرواية التي تُثير لدينا الدهشة، الرعب، والمفاجأة. قراءة الرواية يعني تساؤلاً مستمرًا حتى في اللحظة التي نفقد فيها أنفسنا بعمق داخل الكتاب؛ كم من الواقع في هذه الرواية وكم من الخيال؟
  4. هل الواقع مثل هذا؟ وهل تنسجم الأشياء المروية والمنظور والوصف مع ما نعرفه في حياتنا؟
  5. نستمد المتعة من دقة التشابه، وقوة الخيال والسرد، وتراكم الجمل، والشعر الغامض والصريح وموسيقى النشر.
  6. نُصدِر أحكامًا أخلاقية على تصرفات وسلوكيات أبطال الرواية. فالأخلاق جزء من المشهد في الرواية، وفي نفس الوقت نُقيّم الكاتب على أحكامه الأخلاقية فيما يتعلق بشخصياته. الأحكام الأخلاقية ورطة لا مفر منها في الرواية.
  7. عقولنا تُنفِّذ كل تلك التعليمات السابقة في وقت واحد، بينما ينمو بداخلنا الوهم الجميل بأن الرواية قد كتبت فقط من أجلنا.
  8. بينما كل هذا النشاط العقلي مُستمر، ذاكرتنا تعمل بشكل مُكثف ودون توقف. نبحث عن محور الرواية السري، وتحقيقًا لهذه الغاية نحاول أن نُخزِّن كل تفصيل من الرواية في ذاكرتنا. ففي الروايات التي بُنيت بشكل جيد، كل شيء مُرتبط ببعضه، وهذه الشبكة من العلاقات تُشكل أجواء الرواية وتُشير إلى جهة محورها السري.
  9. نحن نبحث عن لغز محور الرواية بكل اهتمام، هذه العملية المُتكررة تقوم بها عقولنا دائمًا أثناء قراءة الرواية سواء كان ذلك بشكل ساذج وعفوي أو بتأمل عاطفي. (6)

في اعتقادي تأتي مُتعة القراءة من التسع نقاط السابقة.

إن كنت كاتبًا أو تنوي الانغماس في جريمة الكتابة، فعليك قراءة تعليمات باموق مرات ومرات، لترى هل ينطبق ذلك على روايتك؟ هل تُحفز روايتك عقل القارئ على فعل كل هذا؟

غرفة القراءة والكتابة

في مقالها المطوّل «غرفة تخص المرء وحده» تُشدد الكتابة الإنجليزية فرجينيا وولف على أن المرأة إن أرادت أن تصير كاتبة فعليها أن تمتلك دخلًا مُنتظمًا ولو بسيطًا وغرفة تخصها وحدها، والأمر الأخير ينطبق على الجميع.

غرفة تخص المرء وحده، خالية من الهواتف والفاكسات وغيرها من الأشياء الموجودة في غرفة المكتب التقليدي، إذا كنت روائيًا أو محررًا، أو حتى مجرد قارئ نهم، فلا بد من إنجاز مهامك وأعمالك الإبداعية في غرفة تتسم بالتالي:

  1. اختر غرفة بعيدة عن ضوضاء الشارع، إن لم تكن فقيرًا يمكنك عزل الجدران أو استخدام ستائر ثقيلة. لا يوجد مكان للتلفاز ولا تصطحب معك الضوضاء والتشتيت القادمين من الهواتف الثابتة أو المحمولة وغيرهم. أيضًا الأطفال والحيوانات الأليفة النشيطة يمكن أن تقطع جلسة قراءة أو كتابة مثمرة.
  2. تُظهِر الدراسات أن النظر إلى النباتات أو الأشجار له تأثير نفسي إيجابي ويساعد على تقليل التوتر. تشمل الفوائد الأخرى انخفاض ضغط الدم وزيادة الإنتاجية. لذا اختر غرفة لها تراس أو نوافذ تطل على حديقة، وضع المكتب مُقابل المَشهد، بحيث تقع عيناك دائمًا عليه. وإن تعذر ذلك يُمكنك استخدام المُلصقات على الحوائط.
  3. اختر ديكورًا بسيطًا، وتجنب أيّ أثاث زائد عن الحاجة، وأيّ أثاث يشوه المنظر ويُشتت الانتباه، وتجنب الفوضى التي تمتص طاقة الغرفة.
  4. أنت بحاجة إلى مكان نظيف وإضاءة جيدة، الضوء الطبيعي هو الأفضل دائمًا. إن كنت شخصًا صباحيًا، فانتقل إلى غرفة مواجهة للشرق، توجه إلى الغرب إذا كنت تعمل بشكل أفضل في وقت متأخر من اليوم. إذا كنت بومة ليلية، فأنت بحاجة إلى الانتباه إلى الضوء الاصطناعي للغرفة، الإضاءة الضعيفة تخلق شعورًا بالضيق بينما تخلق الإضاءة المزدهرة تأثيرًا هادئًا ومريحًا. يعتبر الضوء العلوي مع مروحة السقف مثاليًا. الأباجورة فوق المكتب يُمكنها صنع أجواء مُلهمة.
  5. في حالة الكتابة أنت في حاجة إلى الإنترنت للبحث، لكن احذر أن تستخدمه لغير ذلك، تجنب مواقع التواصل الاجتماعي والتي تستهلك الكثير من الوقت.
  6. استخدم مقعد مكتب مريح عالي الجودة لدعم ظهرك أثناء الكتابة، أما القراءة فتتم بشكل أفضل على الوسائد بدلاً من الجلوس بشكل مستقيم على المكتب.
  7. لن تجد مطبخ الشيف بدون لوح تقطيع، تأكد من وجود الكثير من أدوات الكتابة في مُتناول اليد؛ الورق وأقلام الحبر أو أقلام الرصاص والحاسوب الجاهز إن كنت تكتب مُباشرةً على برامج مثل مايكروسوفت وورد.
  8. ضع على الرفوف ممتلكاتك الثمينة، بما في ذلك تماثيل مُلهمة أو أشياء قديمة تُثير ذاكرتك مثل الآلة الكاتبة وغيرها. وبالطبع مؤلفاتك والجوائز التي اقتنصتها، وذلك لتشجيعك.
  9. حاصر نفسك بمصادر إلهام مثل الأعمال الأدبية العظيمة، وقراءة بعض المقاطع من كتاب مفضل يمكن أن يكون مصدر إلهام لك. لذا قم بتخزين كلاسيكياتك المفضلة على الرفوف. وأيضًا تُعد الصور والاقتباسات من المؤلفين المشهورين مصدرًا جيدًا للإلهام أو استحضار الأفكار حينما تهرب منك. فاملأ الغرفة والأدراج بالكثير من الصور لأحبائك وعائلتك أو صور أخرى قد تكون مُلهمة أو خزّنهم على الحاسوب. وإذا كانت الطبيعة مُفضلة لديك، فأحضر صورًا لها، مثل الغابات أو البحر وقت غروب الشمس.
  10. يمكن للموسيقى أن تحفز العملية الإبداعية، ولكن حاول الالتزام بالموسيقى غير الصاخبة والتي تصبح مصدر إلهاء. إن كنت تشعر بالاسترخاء من الأصوات المجردة المهدئة مثل صوت المَطر أو موجات البحر أو دقات الرياح، افتح النوافذ إن كنت محظوظًا كفاية للعيش بالقرب من هذه الطبيعة الساحرة. إذا لم يكن الأمر كذلك، فاستدعِها على الحاسوب.
  11. إن كنت موسيقيًّا، فخذ استراحة بالعزف على آلتك المُفضلة.
  12. وأخيرًا، ارتدِ ملابس مُريحة ونظيفة وادخل غُرفة الكتابة، فحينما سُئلت «إيليت تساباري» عما إذا كان لديها أي طقوس لتحضيرها ليوم من الكتابة، قالت:
أحتاج إلى ارتداء سروال اليوجا وقميص فضفاض لأن الراحة هي كل شيء.

أغلق عليك باب الحياة ولا تسمح لشيء أن يقطع تركيزك، انطلق، استمتع بعوالم صنعها كُتّاب عباقرة، تفاعل مع الأبطال كأنك بالفعل تعيش الأحداث التي تقرأ عنها، أو اخلق بنفسك عالمًا وانحت من الورق أبطالًا حيواتهم مُعقدة، اكتب قصصًا قصيرة، فكل قصة قصيرة ستخلق لديك شعورًا بالرضا عن خلق عالم كامل، كما يقول ستيفنج كينج.

المراجع
  1. كريستوفر يارجودسكي وفرانكلين بوتر، «عجائب الفيزياء: ألغاز ومفارقات وغرائب»، ترجمة: محمد فتحي خضر، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2015، ص 199.
  2. لورانس رايت، «البروج المشيدة»، ترجمة: هبة نجيب مغربي، الطبعة الرابعة، القاهرة، دار كلمات عربية للترجمة والنشر، 2013، ص 17-18.
  3. لورانس بلوك، «كتابة الرواية من الحبكة إلى الطباعة»، ترجمة: صبري محمد حسن، القاهرة، جريدة الجمهورية-مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر، 2009، ص 47.
  4. «اخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة»، اختيار وترجمة: محمد الضبع، الطبعة الخامسة، الكويت، دار كلمات للنشر والتوزيع، 2015، ص ص 64-65.
  5. «حياة الكتابة» مقالات مترجمة عن الكتابة»، إعداد وترجمة: عبد الله الزماي، تونس، مسكيلياني للنشر والتوزيع، 2018، ص 22.
  6. أورهان باموق، «الروائي الساذج والحساس»، ترجمة: ميادة خليل، بيروت، منشورات الجمل، 2015، ص ص 24-28.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.