اختلفت طرائق الناس وأساليبهم في معالجة ما يدور بخلدهم من أفكار ومشاعر، فمنهم من نقشها على حجر، ومنهم من كتبها على أوراق التوت والبردي، بينما وجد آخرون في العصور الحديثة ضالتهم في الكتابة والنشر اعتماداً على مختلف إبداعات البشر وما أسهمت به التكنولوجيا من منصات ووسائل كتابيّة، إلا أنهم جميعاً لا يكادون يختلفون على مبدأ واحد ومستقرٍ ثابت لا يتزحزح، وهو أن الكتابة تُشبِع حاجة داخلية عند الإنسان، لا يوجد لها مسمى ولا يُعرف لها كُنه، وهي تدل على ذاتها بنتاجها والعكس صحيح أيضاً.

لماذا نكتب؟

من أول وهلة وعند قراءاتك للمقدمة السابقة، يتبادر إلى ذهنك سؤال مُلح، وهو لماذا نكتب؟ وما المحركات والدوافع التي تلجئ البشر إلى الكتابة؟ وغيرها من الأسئلة سهلة الطرح عسيرة الجواب لصعوبتها واختلافها عند كل فرد من الأفراد بتباين مدركاته وتجاربه السابقة وخبراته ونظرته عن الحياة والكون وما يحويهما.

فهناك من يكتب ليُخفِّف من وطأة التجارب والمعارف، التي أثقلت روحه، وبات من الصعب أن تستقيم ذاته معها دون أن تنزح عن كاهلها ذلك العبء. وهناك من يكتب اشتياقاً وحنيناً إلى إنسان لم يوجد إلا في مخيلته. بينما يرفع آخر سيف المعرفة ويؤكد أنه عندما يرتدي ثوب الحكمة ويبدأ في إلقاء النصح والإرشاد على الآخرين عبر قلمه، فإنه يحقق نجاحاً ملحوظاً. كلها أجوبة تعبر عن تجربة داخلية فريدة، إلا أنها جميعاً تتقابل عند ملتقى المعرفة وبيت الحكمة وهي القراءة.

كيف نعبر عن أنفسنا بالكتابة؟

إن أي معرفة نسعى إلى تحريرها في شتى الصور لا بد وأن تكون نتاجاً لواقع مُعاش أو تجربة سابقة، ومهما حاول الكاتب أن يخفي حقيقة تجربته بزرع المحسنات والصور الإبداعية، فإنها حتماً تظهر على كتابته من أفراح وأتراح ومآس وشجون، عاشها ولم يعشها أحد سواه.

تقول الكاتبة البريطانية (جوليا كاميرون): «لكي نبدع فإننا نستخلص ما في آبارنا الداخلية، فهذه البئر الداخلية خزّانٌ فنّيٌ مثالي، مثل بركة أسماك السالمون الممتلئة جيداً…». وعليه فنحن ننهل من ذلك المورد، ويجب علينا أن نحافظ عليه بتجديده الدائم وري محيطه المستمر بكافة أشكال المعرفة حتى لا ينضب ويصيبه الجدب، وكم من فقير حُرمَ تلك اللذة ولو ذاقها لنازل دونها بالسيف ولأنفق ما يملك دون أن يعرف حقيقة الأيدي الخفيّة التي تحركه. إنها بلا شك جنيّة من عالم آخر أو أرواح أتت من عالم مجهول، وصوّرت لنا الدنيا بملكوت خاص نقاتل دونه، نراه ولا يراه أحد سوانا.

لعله كان على حق ذلك المُذهّبُ الفم.

إنها الكلمة المنطوقة والتي لم تُشكّل ولم تتكون إلا من معين الكلمة المقروءة، يلومننا أننا نحب الكتابة وذهب عقلنا في إدمان رائحة الكتب المرصوصة على رفوف خزانة البيت. هل أحببنا الكتابة أم أحبتنا؟ أليست تلك النسمات العابرة والتي نزغت في عقلك وأرهفت قلبك وألجأتك إلى هنا هي ذاتها ما كانت سبباً في وحدتك، حتى قالوا عنك كئيباً تحب الوحدة وكأنك لم تُخلق لتجالس أحياء، إنك جئت إلى هنا لتعيش مع الأموات عند البشر، الأحياء بما كتبوا وأناروا من الطرق.

هل ذنبنا أننا لا نعرف العزف على آلة موسيقية أو أننا لا نتقن الرسم ولا قدرة لنا على تصوير أي متحرك أو ساكن عبر الفرشاة؟ هل لأننا لم نتعلم السباحة أو لعجرنا عن الفروسية وركوب الخيل؟ ألعدم المقدرة على الصيد والقبض على جمرات صبره أو لندرة نطقنا بـ «كش ملك» ولو لمرة واحدة في لعبة الصفوة والنبلاء؟ فليسامحونا أننا لا نجيد إلا تلك الهواية التي نعبر بها عن أنفسنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

البقاء في سيرة الخالدين

الموت سُنة بشرية جرت عليها عادة الكون، ولم يحدث أن أحداً من الأموات أتى لنا ليقصّ علينا ما رآه وشاهده، لكنك حين تقرأ فاحتمالية قراءتك لمن غادر الحياة تصبح حقيقة، وحين تكتب فأنت بصدد أن تُكتب مع الخالدين في ذكرهم، فالكتابة لا تُسجل فقط الأحداث الفائتة، لكنها بلا شك شاهد على أزمنة قادمة.

لقد تملّك الحزن الفيلسوف الفرنسي «رولان بارت» حينما ماتت أمه، وهداه رشده إلى النظر في صورها الفوتوغرافية القديمة حتى لا يفقد ملامحها وشعوره بوجودها معه، ويقول في ذلك:

إن بعض الصور تمتلك قدرة غامضة على إثارة الشعور.

ولعله أصاب أيضاً لو كان أضاف الكتابة إلى ذلك السجل المتفرد الذي يحفظ الوجوه كما يحفظ التاريخ والحقائق، إنها المشاعر الجياشة والحنين الذي يخرج من الصورة متشبهاً بذلك الشعور المربك والمرتبك والمختلط الذي يخالجك عند خطِ أول حرف من فكرتك.

ولقد كانت الكتابة من دواعي الفخر عند العرب، فالشاعر كان في قبيلته رمزاً لا تدانيه مكانة، فقد كانت أسواقهم ساحة للنزال الأدبي والمباراة الفكرية بين الجميع، ورغم أن العرب القدامى اشتهروا بنظم الأشعار أكثر من كتابة القصائد، فإنهم عندما جرت فيهم روافد الكتابة تميزوا وبرعوا.

وفي العصر الحديث نجد أن الشعراء الفطاحل استغلوا ملكتهم الأدبية في نظم دُرر الأشعار، تحت لواء محاربة الاستعمار والدفاع عن الأوطان، فلقد كتب أحمد شوقي في رثاء عمر المختار قائلاً:

رَكَزوا رُفاتكَ في الرمالِ لواءِ
يستنهضُ الوادي صباحَ مساءِ
يا ويلهم نصبوا مناراً من دمٍ
يوحي إلى جيل الغدِ البغضاءِ
جُرحُ يصيحُ على المدى وضحيةً
تتلمسُ الحرية الحمراءِ.

رحم الله الشاعر أحمد شوقي، الذي قدّم للعربية بقدر حبه لها، والذي نحسب أن حبنا في الكتابة قرّبنا ممّن هوانا تشابه مع هواه في المقصد دون أن نحلُم أن نقترب من مكانته، وحسبنا أننا قرأنا فكتبنا فوقعنا في العشق، ولم نجد من يخلصنا من شباكه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.