القصة

في إحدى حلقات المسلسل الكارتوني الشهير «أليس في بلاد العجائب» (Alice In Wonderland) تواجه الفتاة أليس مفترق طرق، فتتحير أي الطرق تسلك، ثم تسأل صديقها الأرنب الصغير باني، عن الطريق الأفضل في ظنه، فيسألها مستفهمًا: إلى أين تريدين الذهاب؟ فتقول: أي مكان. فيجيب بحكمته المعهودة: إذن كل الطرق تؤدي إلى هناك.


الحكمة

إذا لم تعرف إلى أين تريد الوصول فستقف حائرًا كثيرًا، ثم لن تصل إلى ما تريد، ببساطة لأنه ليس هناك ما تريده!

يقولون: إن الإنسان لا يصل إلى أبعد من حلمه غالبًا، وعلى قدر وضوح الأهداف يكون الإنجاز، ويقال أيضًا: ليس الفقير من لا يملك مالًا، بل الفقير من لا يملك حلمًا وهدفًا.

لذلك أرشدنا النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى أهمية النية وتحديد الهدف في الأعمال كافة، بل وجعل الأمر مقصورًا على هدفه، إذ العمل دون هدف محض عبث، فعن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه»[1].

ولهذا الحديث قصة ذكرها أهل الحديث، وذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، حينما هاجر من مكة إلى المدينة وهاجر معه أصحابه كانت بين الصحابيات في مكة امرأة يقال لها أم قيس، وأراد رجل أن يتزوجها، فقالت له، إني سأهاجر إلى يثرب مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن أردت الزواج فهاجر وسأقبل الزواج به هناك، فقبل الرجل طلبها وهاجر مع من هاجر إلى يثرب، لكن شاع أمره بين الناس، وقيل إنه لم يهاجر طلبًا لرضا الله، تعالى، وجنته، بل هاجر لأجل أم قيس، وسموه بمهاجر أم قيس، وحين وصل الأمر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، قال هذه الكلمات البليغة التي توضح جانبًا مهمًا وكبيرًا من الفلسفة الإسلامية، ببساطة أن الأعمال بأهدافها، وكما يعد سؤال «ماذا فعلت؟» سؤالًا مهمًا، فإن سؤال «لماذا فعلت ما فعلت؟» لا يقل عنه أهمية ورتبة.

وقد قال النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، هذه الكلمات معلمًا الصحابي المهاجر والأمة كلها أن اعتنوا وانشغلوا بأهدافكم ومقاصدكم، ودعكم من أهداف الآخرين، فإن لنا الظاهر والله يتولى السرائر، وها أنتم ترون الرجل قد هاجر، فلا تكونوا عونًا للشيطان عليه بهذه التسمية، بل فوضوا أمره إلى الله، تعالى، فإن كان قد هاجر لوجه الله، تعالى، واتباعًا لنبيه ورسوله فقد وقع أجره على الله، تعالى[2]، وإن كان هاجر طلبًا للزواج أو للتجارة أو التنزه أو غير ذلك من شؤون الدنيا فلا بأس، فلكل إنسان هدفه، ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات، لكن هذا الذي هاجر للدنيا قد فعل المباح وفاته الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى للطائعين، فلو أنه قصد بعمله وجه الله، تعالى، لكان له بنفس هذا الجهد الذي بذله أعظم الأجر والنصيب عند الله تعالى يوم القيامة.

وللدلالة على قلة شأن الدنيا وخفة وزنها في الميزان عند الله، تعالى، عقب النبي، صلى الله عليه وسلم، على حال من هاجر لها بقوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» ولم يقل: فهجرته لدينا يصيبها أو امرأة ينكحها، فأشار بذلك إلى أن المتوجه إلى الله، تعالى، له هدف واحد دقيق، إنه يطلب رضا الله فيكون ثوابه على الله، وأما الدنيا فأهدافها كثيرة، ولا يدري مستهدفها والمتوجه إليها أيصيب هدفه ويحقق مقصده وغايته أم يعجز عن ذلك.


ربع الدين

هذا الحديث الشريف محل حديثنا قال بعض العلماء إن عليه مدار الدين، وإن الإسلام يقوم عليه، فقيل هو نصف الدين إذ الأعمال ظاهر وباطن، فالنية رأس أمر الباطن، والصلاة عمود الظاهر.

وقيل إن هذا الحديث ثلث الدين، أي يقوم الدين عليه وعلى حديثين آخرين معه، وقيل هو ربع الدين، أي يشكل هو وثلاثة من الأحاديث الأخرى أساسًا متينًا يقوم عليه الدين.

وهذه الأحاديث الأربعة هي: حديث عمر بن الخطاب «إنما الأعمال بالنيات»، وحديث النعمان بن بشير عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»[3]، وحديث أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من حسن إسلام المرء: تركُه ما لا يعنيه»[4]، وأما رابعها فحديث سهل بن سعدٍ الساعدي، رضي الله عنه، قال: جاء رجلٌ إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس»[5].

وقد نظمها بعضهم فقال:

عمدة الدين عندنا كلمات ** محكمات من قول خير البرية اتق الشبهات وازهد ودع ما ** ليس يعنيك واعملن بنية

إذن فقد اتفقت كلمة العلماء على أهمية هذه الحديث والمعنى الذي تضمنه، وأن الإسلام يقوم أمره على وضوح الأهداف وتحديدها، ومن لا هدف له فعمله ضائع بل في حكم العدم، إذ قصر النبي، صلى الله عليه وسلم، الأعمال على وجود ووضوح أهدافها.


أهمية الأهداف في علوم الإدارة الحديثة

يقول خبراء الإدارة المعاصرون، إن لتحديد الأهداف فوائد عظيمة وأثر حسن ملموس على العمل، ومن هذه الفوائد التحكم في النفس وإدارتها بكفاءة، وتعزيز الثقة بالنفس، والشعور بقيمة الحياة، وحسن إدارة الوقت، والحصول على نمط حياة أفضل، وغير ذلك الكثير.


تعدد النوايا والأهداف

يُروى عن أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا تجار نوايا مع الله، عز وجل، فكان الواحد منهم لا يخرج من بيته إلى الصلاة إلا وقد استحضر أكثر من 70 نية، أي باللغة المعاصرة جعل لعمله 70 هدفًا، فإذا حققها كلها فخير وبركة، وإلا فعلى الأقل يحقق نصفها أو ثلثها أو ربعها، وفي كل الأحوال هذا أفضل من أن يكون له هدف واحد قد يحققه أو يضيع منه هذا الهدف فيضيع العمل كله.


اجتماع أهداف الآخرة مع أهداف الدنيا

لا بأس أن تجتمع نية الآخرة مع نية الدنيا في العمل الواحد، فينوي المسافر إلى مكة المشرفة حج بيت الله الحرام كما ينوي البيع والشراء وتقليب التجارة والسياحة في الأرض والتعرف إلى شعوب وقبائل الدنيا، وتأمل إن شئت قول الله تعالى: «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿*﴾ لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴿*﴾ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ»[6].

فرخص الله للحجيج أن يشهدوا في حجهم منافع لهم، وعموم لفظ المنافع يشمل منافع الدنيا والآخرة، فكذلك إذا قصد المصلي مثلًا الخروج من بيته للصلاة واستهدف من خروجه أيضًا شراء بعض ما يلزمه في بيته، أو المرور على صديق له، أو عيادة مريض، أو صلاة جنازة، أو التصدق بصدقة، أو تحريك جسده طلبًا للصحة بممارسة رياضة المشي، أو دفع السآمة والملل عن نفسه، أو غير ذلك من أهداف الدين والدنيا، فإنه بذلك يكون مثابًا على كل ما نواه وقصده من الأهداف الدينية، ويكون ذكيًا ماهرًا بما يحققه من الأهداف الدنيوية التي أراد تحقيقها.


وقت تحديد الأهداف

كان الصحابة، رضوان الله عليهم، يجددون النية قبل العمل، وأثناء العمل، وبعد العمل، فقبل العمل نحدد أهدافنا من هذا العمل، ثم إذا شرعنا فيه ربما استحدثنا أهدافًا جديدة نضيفها إلى ما استهدفناه مسبقًا، أو ربما نجد أن بعض أهدافنا القديمة يفوق قدرتنا على تحقيقها فاستبدلناها بأهداف أخرى أكثر واقعية وأنسب لأحوالنا، فإذا ما أنهينا أعمالنا وجب علينا أن نراجعها مقارنين ما أنجزناه بما أردنا في البداية تحقيقه، فتكون هذه المحاسبة لأنفسنا تقييمًا لما فات، وتقويما لما هو آت.

وكذلك الحال في الأمور كلها، فقد ينوي الإنسان الخروج للحج، ويقصد مع ذلك بيع بعض السلع التجارية في مكة، ثم يحبسه حابس اضطراري في الطريق فلا يستطيع مواصلة الرحلة، فيكون في الحال الذي يسميه الفقهاء بالإحصار، وهو الوارد في قول الله تعالى: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّـهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»[7].

فيوجهنا ربنا، سبحانه وتعالى، عند العجز عن العمل ماذا نفعل؟ وعند وقوع بعض الزلل والقصور والنقص في العمل كيف يمكن جبر هذا النقص وتعويضه؟ وفي هذا توضيح مهم لمسألة مراجعة الأعمال وبيان ما اعتراها من قصور من أجل تصحيحها ورعاية ذلك عند تكرار العمل في المرات المقبلة، وهو ما فهمه الصحابة، رضوان الله عليهم، فكان هذا شأنهم في الأعمال كافة، وهو ما ينبغي علينا رعايته في نوايانا وأهدافنا من أعمالنا الدينية والدنيوية.


النية في الصيام

أرأيتم لو قام أحد الناس من نومه فوجد في نفسه عزوفًا عن الطعام والشراب والجماع، ولم يرغب في شيء من ذلك ولم يفعله من قبل الفجر إلى ما بعد غروب الشمس، أيكون صائمًا بمجرد الترك؟ والجواب الذي نعرفه جميعًا هو: لا، لا يكون صائمًا شرعًا إلا بأن يكون تركه لهذه الأشياء بنية مخصوصة (أي: هدف محدد واضح) وهو قصد التقرب إلى الله تعالى بأداء فريضة الصيام، أو بأداء نافلة الصيام.

وهنا يتضح لنا وجود فرق بين صيام الفريضة وصيام النافلة والتطوع، والفرق بينهما له أكثر من محور، ما يخصنا منها الآن هو النية، فصائم الفريضة لا بد أن يقصد الفريضة، فلا يكفيه مثلًا أن يقصد التقرب إلى الله بالصيام مطلقًا من غير أن يعلم أن صيام رمضان خاصة فريضة شرعية دون غيره من أيام العام.

كما أن صيام الفريضة يختلف عن صيام النافلة والتطوع في وقت نية كل منهما، فصيام الفريضة يجب فيه تبييت النية من الليل، أي لا بد أن تكون النية حاضرة في القلب في أي وقت خلال الليلة السابقة لليوم المراد صومه (من المغرب إلى الفجر)، فإذا أذّن الفجر من غير نية فلا يصح صيام هذا اليوم بنية الفريضة، لكنه يصح بنية النافلة، إذ يجوز تأخير نية النافلة عن الفجر إلى أذان الظهر، فما دام لم يؤذن الظهر ولم تأكل أو تشرب فيمكنك أن تنوي صيام النافلة، وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يستيقظ أحيانًا فيسأل السيدة عائشة، رضي الله عنها: أعندكم طعام؟ فتقول: لا. فيقول، صلى الله عليه وسلم: فإني إذن صائم[8].

وإذا افترضنا أن إنسانًا نام من قبل المغرب ولم يستيقظ إلا بعد الفجر فهل يصح صيامه لهذا اليوم على سبيل الفريضة؟ والجواب لا يصح صومه، فإن كان في رمضان وجب عليه إعادة صيام هذا اليوم بعد انقضاء الشهر الكريم، وإذا قال قائل: ألا تكفيه نية واحدة في أول شهر رمضان لصيام الشهر كله؟ نقول له: واصل قراءة هذا المقال إلى آخره تجد الجواب.

ومن الفروق المهمة كذلك بين صيام الفريضة والنافلة أنه يجوز قطع صيام النافلة في أثناء النهار لأي سبب، كأن يأتيك ضيف فتحب مؤانسته بالطعام معه، أو تحل ضيفًا على من سيتأذى بعدم مشاركتك إياه في الطعام، وقد يظن أن بينكما جفوة أو أنك تمتنع عن طعامه قصدًا، أو غير ذلك من الأسباب، ولا تجب إعادة صيام النافلة إذا قطعته بل تستحب، أما صيام الفريضة فلا يجوز قطعه إلا لضرورة، كمرض شديد مثلًا يمنعه من إكمال الصيام، أو إرهاق أو عطش شديدين، أو أن يجبره شخص على الفطر وإلا قتله مثلًا، أو نحو ذلك، ويجب على من قطع صيام الفريضة لعذر أن يعيده بعد ذلك بخلاف النافلة كما وضحنا.

والمقصود بصيام الفريضة ثلاثة أمور: أولها، صوم رمضان وقضاؤه، وثانيها، صوم النذر، وثالثها، صوم الكفارة، فهذه الثلاثة يجب تبييت نيتها من الليل، فإن طلع الفجر من غير أن تسبقه نية لم يصح صيام شيء منها، ومن هنا نعلم خطأ من يستيقظون في الضحى مثلًا فينوون صيام يوم من الأيام التي أفطروها في رمضان السابق، وهذا أمر تقع فيع كثير من النساء كما وصلنا عن حالهم من أسئلتهم.


كيف تكون نية الصيام؟

ببساطة أن يخطر ببال العبد أنه غدًا صائم، وهذا يحصل في وقت فطوره مثلًا، فيقول عند الفطور الحمد لله الذي أعانني على صيام اليوم وأسأله العون في صيام الغد، أو عندما يتناول السحور، أو يشرب بعض الماء يقول نفسه: قبل أن يؤذن الفجر، أو أي شيء آخر، فقط مجرد تذكرة ولو للحظة أن غدًا من أيام رمضان وأنه سيصومه فهذه هي النية المفروضة في الصيام، ولا يشترط أن يتلفظ بها، فالنية محلها القلب، لكن إن أراد التلفظ على سبيل مساعدة القلب على استحضار النية فلا بأس بهذا ولا مانع.


هل تكفي نية واحدة لرمضان كله؟

بقي لنا سؤال أخير في نية الصيام وهو: هل تكفي نية واحدة في أول الشهر لصيام الشهر كله؟

ونقول للجواب عن هذا السؤال: أرأيت لو بطل صوم يوم من رمضان أيجب عليه إعادة صيام الشهر كله أم يعيد صيام يوم واحد؟ بالتأكيد سيعيد يومًا واحدًا، وهذا يعني أن كل يوم من أيام الشهر عبادة مستقلة، فتحتاج إلى نية مستقلة، لذلك فصاحبنا الذي ذكرنا قبل قليل أنه نام قبل المغرب واستيقظ بعد الفجر لم يصح صومه لهذا اليوم لافتقاده الركن الأول من أركان الصيام وهو ركن النية.


قصة طريفة

وقعت لي هذه القصة في رمضان من عام 1428 هجرية، الموافق لعام 2007 ميلادية، وكنت حينها منشغلًا بأعمال كثيرة، بين دراستي وعملي الخاص وأعمال المسجد واعتكاف العشر الأواخر، فكان الجدول اليومي ممتلئًا تمامًا، إذ كان برنامجي يبدأ بعد صلاة الفجر بمقرأة القرآن في مسجد الحي، ثم أذهب لحضور محاضراتي الدراسية حتى الظهر، ثم أؤدي عملًا حرًا حتى العصر، ثم صلاة العصر وحضور مقرأة القرآن بعد العصر، ثم المشاركة في تجهيز مائدة الرحمن، ثم صلاة المغرب والإفطار مع زملاء المسجد، ثم بعض المذاكرة، ثم صلاة العشاء والتراويح، ثم إنجاز عمل حر إلى الثانية ليلًا، ثم صلاة التهجد، ثم السحور، ثم صلاة الفجر ويبدأ اليوم الجديد!

نعم، كما لاحظتم، لم يكن هناك وقت للنوم، واستمر هذا الأمر خلال 13 يومًا، من منتصف الشهر الكريم إلى ليلة السابع والعشرين منه، ويومها بعد الفجر تركت المسجد وذهبت أودع أهلي إذ كانوا على موعد للسفر، وسافروا في السابعة صباحًا، فقلت لنفسي: لن أقوى على حضور محاضرات اليوم، فلأدخل للنوم الآن، ولأستيقظ في الحادية عشرة ظهرًا للحاق بمواعيد عملي الحر.

ضبطت المنبه ليصدر رنينه في الحادية عشرة، ودخلت في فراشي، وغلبني النوم فلم أسمع صوت المنبه، حتى استيقظت في الساعة الواحدة! قمت فزعًا فقد نمت ساعتين أكثر مما خططت، وتأخرت عن الموعد الذي كان ينبغي لي أن أكون فيه في الثانية عشرة والنصف، أي منذ نصف ساعة من الآن، وأنا ما زلت في فراشي. هرولت إلى الحمام وتوضأت سريعًا لأصلي الظهر وألحق بموعدي، ثم إذ بي أنظر من خلال نافذة الحمام فأجد الشارع مظلمًا! يا ربي، ما هذا؟! إنها الواحدة ليلًا وليست الواحدة ظهرًا. لقد نمت سبع عشرة ساعة متصلة من غير أن أتقلب تقريبًا، ربما قمت وسطها للحمام وعدت من غير أن أشعر، لا أدري، لكنه أمر لا يُصدق.

لقد فاتتني صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فضلًا عما وراء كل منها من ارتباطات وأعمال. على كل حال، فلأصلي ما فاتني من صلوات ولأنصرف الآن إلى أحد المطاعم ألتمس طعامًا إذ فاتني الفطور مع إخواني بالمسجد بسبب نوم أهل الكهف هذا.

توجهت إلى أقرب مطعم أعرفه فوجدته مغلقًا، فتعجبت إذ هذا وقت السحور والمطاعم في عادة مدينتنا بالقاهرة تكون مزدحمة في هذا الوقت. ذهبت بعده إلى أكثر من مطعم وإذ بها كلها مغلقة، حتى الشوارع كانت مظلمة أكثر من العادة، إذ كانت أغلب المحلات مغلقة رغم أن القاهرة عمومًا مدينة لا تنام، ويزداد هذا الأمر في رمضان فيكون زحام الشوارع في الثانية ليلًا مشابهًا لزحامها في الثانية ظهرًا.

تعجبت لما أراه من ظلام الشوارع وإغلاق المحال التجارية والمطاعم وغيرها، ثم لما يأست من الحصول على طعام يسد جوعي بسبب صيامي الممتد إلى هذا الوقت من الليل توجهت إلى المسجد حيث أصدقائي المعتكفين وقلت أستغني بالسحور عن الإفطار، فلما وصلت وجدتهم يصلون التهجد، فدخلت معهم في الصلاة، وبعد انقضاء الركعتين وتسليم الإمام أقبل جاري في الصلاة علي سائلًا: أين كنت؟ افتقدناك..

اعتذرت له عن غيابي غير المقصود عن مقرأة العصر والإفطار والتراويح، وأخبرته أني قد غلبني النوم، فقال لي: أي نوم هذا، أتحدث عن غيابك عنا أمس وليس اليوم فقط. قلت له: لا، لقد صليت الفجر معكم اليوم وحضرت مقرأة الفجر قبل أن أنصرف. قال: لا، إنما كان هذا أمس! قلت: بل اليوم، لعلك واهم بعض الشيء. قال: لا، لست واهمًا، فقد سألنا عنك في مقرأة العصر أمس، ثم عند الإفطار، ثم في التراويح، ثم التهجد، ثم السحور، ثم فجر اليوم، ثم مقرأة الفجر، ثم مقرأة العصر، ثم الفطور، ثم التراويح، وفي كل هذا لم نجد لك أثرًا، حتى انشغلنا وتوجسنا أن يكون قد أصابك مكروه لا قدر الله.

قلت في نفسي: لعل صديقي هذا أراد خداعي مازحًا، وتعجبت من هذا بعض الشيء، ثم تشاغلت عنه وقمت للصلاة فقد دخل الإمام في الركعتين التاليتين، ثم بعدما انتهى من الركعتين رآني شيخي فصافحني بحرارة ثم قال: حمدًا لله أنك بخير. قلت: الحمد لله. قال افتقدناك أمس واليوم. فزاد عجبي واستحييت أن أقول إن الشيخ واهم هو الآخر، ثم إن شخصين مختلفين لن يتوهما نفس الوهم، كما أن الشيخ لن يمازحني بمثل هذا الخداع الصبياني الذي أتوقع صدوره عن أصدقائي وليس عن شيخي!

ساعتها شعرت بخوف حقيقي، واتصلت بأمي وسألتها أعجب سؤال قد يسأله إنسان لأمه المسافرة، قلت لها: أنت لن تكذبيني بالتأكيد، فأخبريني الحق، في أي يوم نحن؟ قالت الثلاثاء، وبعد قليل يحين فجر الأربعاء. قلت ألم تسافروا اليوم – الاثنين؟ قالت: بل سافرنا أمس، وهذا يومنا الثاني حيث نحن..

وقتها أدركت أن الأمر جد، وأن هذه هي الليلة الأخيرة من رمضان – ليلة التاسع والعشرين- وفهمت لماذا أغلقت المحال التجارية والمطاعم أبوابها، إذ هذه عادتهم في الليلة الأخيرة من رمضان حيث يرجع أصحاب المحال والعمال إلى قراهم مغادرين المدينة إلى ما بعد انتهاء عيد الفطر المبارك، وأدركت حينها أني نمت نومًا متواصلا دون فاصل تقريبًا، بل ربما دون أن أتقلب في فراشي، من السابعة صباحًا يوم الاثنين 27 رمضان، إلى الواحدة ليلًا يوم الثلاثاء 28 رمضان قريبًا من فجر التاسع والعشرين من الشهر الكريم. لقد نمت لإحدى وأربعين ساعة متصلة!

والسؤال الذي سألته لنفسي حينها، وهو موضوع هذه المقالة: حكم صيامي لهذا اليوم (أعني الثلاثاء) – إذ دخلت ليلته وخرجت وأنا نائم، كما دخل هو وخرج وأنا نائم؟

والجواب أن صومي لهذا اليوم باطل، وقد أعدته بعد رمضان والحمد لله، غير أني لمست بنفسي في هذا الموقف العجيب شيئًا يسيرًا جدًا من شعور أهل الكهف الذين ناموا ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعًا، أو شعور عزير، عليه السلام، الذي نام مائة عام ثم بعثه الله، بالتأكيد هناك فارق كبير جدًا بحيث لا أقارن حالي بحال أي منهما، ولكنه شعور العبد الذي يضرب الله على أذنه الساعات والأيام والسنين بل والقرون الطوال، ثم إذا بعثه الله قال مثلما قلت أنا أول مرة:

لقد نمت ساعتين إضافيتين على ما قدرته قبل نومي، كذلك قال أهل الكهف وقال عزير، عليهم السلام جميعًا، قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم، وكذلك يقول المجرمون يوم الحشر في موقف رهيب عرضه ربنا، سبحانه وتعالى، لنا في آخر سورة الروم، فقال عز من قائل: «اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴿*﴾ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ﴿*﴾ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّـهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ ۖ فَهَـٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿*﴾ فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴿*﴾ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚوَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ﴿*﴾ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿*﴾ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ »[9].

أعاذنا الله وإياكم من مصير الغافلين، وجعلنا من المنتبهين المستعدين ليوم الدين، وحشرنا فيه المؤمنين الوجلين المخبتين، آمين.


الخاتمة

كان هذا حديثًا عن النوايا والأهداف، وضرورتها دينيًا ودنيويًا من أجل تحقيق الإنجازات وتحصيل الثمرات، ثم تحدثنا عن نوايا الصيام وما تيسر من أحكامها.

ونتحدث بعد ذلك عن الهدف من العبادة عمومًا والصيام خصوصًا، لماذا شرعه الله تعالى؟ ولماذا كلفنا بالعبادة وهو الغنيّ عنا؟ وهل من منافع وفوائد دنيوية للصيام أم هي منافع وفوائد وأهداف أخروية فقط، فليكن عنوان مقالنا المقبل، إن شاء الله تعالى، هو «لماذا نصوم؟».

إلى حينها نترككم في رعاية الله وأمنه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله رب العالمين.

المراجع
  1. حديث صحيح، رواه البخاري في صحيحه
  2. مصداق قول الله تعالى : «وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا»، سورة النساء، آية: 100
  3. حديث صحيح، رواه البخاري ومسلم
  4. حديث حسن، رواه الترمذي وغيره
  5. حديث حسن، رواه ابن ماجة وغيره
  6. سورة الحج، الآيات 27 : 29
  7. سورة البقرة، آية 196
  8. حديث صحيح، رواه الإمام مسلم في صحيحه
  9. سورة الروم، الآيات 54: آخر السورة