مش ممكن الـ100 مليون مصري ميكونش فيهم أفضل حاجة في كل حاجة.
الرئيس «عبد الفتاح السيسي» – ديسمبر/ كانون الأول 2021

علميًا .. ينطوي كلام الرئيس المصري على حقيقة شبه مؤكدة، بينما يختفي جانب آخر من الحقيقة يمكن استنباطه بالاستدلال العلمي والتجريبي.

إن كنت من هواة البرامج الرياضية المصرية، فمن المؤكد أنك سمعت الجملة التالية مئات المرات: «نحن 100 مليون. كيف لا نستطيع أن ننجب مهاجمًا فذًا بعد اعتزال الجيل الذهبي؟».

يمكنك بسهولة أن تحذف «مهاجمًا فذًا» وتستبدلها بأي شيء في الحياة. «عالمًا نوويًا» أو «رائد فضاء» أو أي شيء، 100 مليون يستطيعون أن يفعلوا أي شيء أفضل من أي أحد!

لماذا ليست الصين؟

الجانب الحقيقي الذي يحويه هذا التركيب، أنه وفقًا لنظرية الاحتمالات فإن هذا أمر بديهي، أن تبحث عن أي شيء في تعداد 100 شخص فكرة مرشحة للنجاح أكثر من أن تبحث عن ذات الشيء بين 10 أشخاص، لكن السؤال الذي يتفجر حيال هذا الطرح هو: لماذا لا تعد الصين الأفضل في كل الأشياء إذن وهي التي يقترب عدد سكانها من 1.5 مليار نسمة؟

سحبًا على كرة القدم، فالصين حقًا مثال صارخ، البلد الذي وصل إلى المونديال مرة وحيدة وهزم في مبارياته الثلاثة، لا يتمتع بتاريخ يذكر في اللعبة الشعبية الأولى بالعالم، تنفق الصين تريليونات الدولارات لتحسين منتجها الكروي باستقدام نجوم أوروبا، لكن الشعب الصيني لا يعتبرها الرياضة الأولى.

في 2017، أظهرت دراسة أجرتها كلية «وهو أوتو بيشيم» للإدارة أن نسبة من لا يشاهدون الرياضة في الصين هي الأعلى بين الشباب متفوقة على مشاهدي كرة السلة أصحاب المركز الثاني، ومشاهدي كرة القدم في المركز الثالث، وفي ضوء امتياز الصين في الرياضات الفردية يزداد الأمر غموضًا.

عوامل موضوعية

الموريتاني المحمدي العلوي، محلل شبكة قنوات «بي إن سبورتس» أدلى بتصريحات خاصة لـ«إضاءات» بهذا الصدد فقال: «كرة القدم في الصين ليست الرياضة الأولى، وربما لأسباب بيولوجية، الإنسان الصيني يتقن أكثر الرياضات الفردية» مضيفًا: «في الصين يرتبط الأطفال أكثر بالألعاب الإلكترونية كوسيلة ترفيه، ليست هناك كرة قدم شوارع، هذا قد يكون عاملًا حاسمًا في إنتاج الموهبة».

في ذات السياق يرى د.وليد أبو طالب، أستاذ علم النفس الرياضي ومدرس علم الاجتماع الرياضي بجامعة الفيوم أن التميز الصيني في الألعاب الفردية وخصوصًا في القتاليات «نابع من الثقافة نفسها».

أبو طالب قال في تصريحات خاصة لـ«إضاءات»: «علميًا لا يوجد ربط بين تعداد السكان وإعداد بطل رياضي بنسبة 100%، ولكن وفقًا لنظرية الانتقاء من الممكن أن نتحدث عن أن التعداد قد يكون عاملًا مهمًا، أن تدرب 100 طفل في عمر 10 سنوات بشكل سليم، يعني أن تصل إلى 50 جيدين في عمر 12 سنة، وبعمر 15 عاما يمكنك أن تصل إلى 20 بأعلى مستوى، عكس أن تبدأ بالأساس مع 20 طفلًا».

ويضيف: «في علم الاجتماع الرياضي ندرس تأثير العادات الاجتماعية على ممارسة الرياضة أو تاثير الرياضة على الجماعة، وببساطة فإن هناك مجتمعات تلعب أنواعًا من الرياضات تناسب ثقافاتها. على سبيل المثال من المعروف أن التنس والفروسية رياضات الطبقات العليا، بينما كرة القدم كلعبة تمارسها الفئات الدنيا أو المتوسطة الدنيا بشكل أكبر».

وأردف: «في الدول الخليجية على سبيل المثال تجد اهتمامًا بركوب الخيل، الأمريكيون أتقنوا كرة السلة لأنها انتشرت أولًا بين ذوي البشرة السمراء وناسبت بنيتهم الفارعة».

الإشكالية المصرية

إذن ونحن نبحث عن رحلة المواهب المصرية نحو الوصول إلى أعلى مستوى، لا بد أن ندرك جيدًا أن هناك عوامل موضوعية، منها ما هو بيولوجي ومنها ما هو ثقافي، تقوم بـ«فلترة» الأعداد الكبيرة للأطفال ممارسي الرياضة بشكل عام.

لكنها مصر، حيث كرة القدم هي الشغف الأول للأطفال والشباب وكبار السن، حيث لا عوامل بيولوجية ولا ثقافية يفترض أن تعيق شغف الأطفال بكرة القدم! ما عسى أن يكون عاملًا موضوعيًا يمنع مصر من أن تنجب عشرات اللاعبين الأفذاذ في كل عام بشتى المراكز؟

المحمدي العلوي يواصل في تصريحاته لـ«إضاءات»: «المشكلة في الحالة المصرية أن كل أسباب النجاح متوفرة لإنتاج المواهب، هناك شغف بكرة القدم وارتباط جذري وعاطفي، كرة القدم في مصر تعد الترفيه الأول بالنسبة للطفل، وبالنسبة للشعب المصري بشكل عام كرة القدم هي ترفيه جاد ومهم يصل لدرجة الارتباط والشغف، إذا أضفنا إلى ذلك تعداد السكان الهائل فإن مصر لا بد أن تنتج مواهب بالمستوى العالي».

يرى العلوي أنه على الرغم من أن «الأطفال يمارسون كرة القدم في مصر وإفريقيا بشكل يومي، فإن قدرتهم على الاستفادة من هذا الامتياز محدودة جدًا لأنهم ببساطة يمارسون بشكل خاطئ» موضحًا أن «الممارسة اليومية لا تضمن الموهبة، نوعية الممارسة هي الأساس».

«نوعية الممارسة» عنوان قادنا إلى محمد عمران، الحاصل على درجة الدكتوراه في «الدماغ الاجتماعي» من كلية التربية الرياضية جامعة حلوان، والذي قال في تصريحات خاصة لـ«إضاءات»: «الموضوع ليس مجرد إمكانيات، بل مبني على عوامل كالتنشئة الاجتماعية التى تشكل الرياضيين ذوي المستويات العليا، رأس المال الاجتماعى للأطفال وعلم اجتماع الطفولة، الطفل المصري طبعًا لا يتلقى أي تأهيل نفسي أو اجتماعي».

عوامل وسيطة

أيضًا من الممكن أن نذكر أن التعداد السكاني المرتفع يفسح المجال لظهور عوامل وسيطة تتسبب في وأد الموهبة مبكرًا وإصابة الطفل الرياضي بالإحباط، مثل الواسطة والفساد الإداري، وعن هذا يقول العلوي: «وجود المحسوبية والفساد الإداري وشعور الطفل بأن هناك أسبابًا غير موضوعية قد تعيق مشواره نحو مستوى معين يمثل صدمة ذهنية لطفل في عمر يجعله آخر من يتعامل مع هذا النوع من الصدمات، هذا عامل من العوامل التي أدت إلى تدهور الموهبة المصرية، لكن لا أعتقد أنه السبب الرئيسي».

وليد أبو طالب يرى في نفس السياق أن «سوء أحوال المعيشة، الرغبة في العمل، نظام الدراسة في مصر الذي لا يتيح التفرغ للرياضة وعدم قيام المدرسة بدورها الرياضي» كل هذه عوامل أدت إلى ضعف الموهبة الرياضية المصرية في آخر السنوات.

الاحتراق الرياضي

لكن سعينا نحو إجابة سؤال المواهب الرياضية المصرية، قادنا إلى نقطة شديدة الأهمية، كانت موضوع دراسة ماجستير في علم النفس حصل على الدرجة العلمية جراءَها إسلام فايز، الذي أدلى لنا بتصريحات خاصة قال فيها: «أعددت رسالتي عن الاحتراق الرياضي أو الانسحاب المبكر من الرياضة، مشكلتنا في مصر أننا نحرق الناشئين، نحن أبطال العالم في رياضات عدة على مستوى الناشئين لكن هذا المستوى لا يصل إلى الأولمبياد، وذلك نظرًا لأننا نتعامل بشكل خاطئ مع النشء بعمر 10 أو 11 عاما، وتلك مرحلة خطيرة جدًا».

ويستطرد فايز: «في تلك المرحلة تكون لدى الطفل طاقة هائلة، يأتي المدرب مركزا على حصد الطفل لميدالية، يجلب ذلك نتائج على المدى القصير ويصل المدربون إلى المجد الشخصي الذي ينشدونه، لكن يدفع الطفل ضريبة ذلك بأن ينسحب بعمر 15 عاما عن ممارسة الرياضة تحت ضغوطات نفسية وبدنية هائلة مورست عليه بذريعة (ضرورة النجاح وإحراز ميداليات)».

ويردف: «يقوم المدربون بـ(طحن) الأطفال بدنيًا، يدربونهم 3-4 مرات يوميًا، والممارسة متاحة للكل، وأولياء الأمور يرون أن أبناءهم سيكونون أفضل رياضيين في العالم، وتحت هذا الضغط ينسحب الأطفال من الرياضة من فرط الضغط الواقع عليهم، والأحمال البدنية التي لا تلائم أعمارهم».

العلوي يقر بهذا الطرح وهو المتابع للحالة المصرية من وسائل الإعلام، فيقول: «كل حديث الإعلام المصري منصب حول اللياقة البدنية، هذا يؤدي في كثير من الأحيان بكرة القدم إلى إنتاج لاعبين بدنيين أكثر منهم لاعبين جيدين تقنيًا، عدم وجود أساس معرفي أدى إلى تراكمات أثرت في إنتاج مصر للمواهب بكل تأكيد ومنها هذا العامل».

ويوجز د.محمد عمران كل ذلك فيضيف: «الأساس هو تشكيل دماغ وعقلية اللاعب وليس جسده فقط!».

المدربون: روشتة الحل

التنشئة في السن المبكرة إذن هي مكمن الداء، ولذلك يرى العلوي أن «مشكلة مصر هي مشكلة تكوين وبنية تحتية للفئات السنية الأدنى، اقتصار دورات التكوين على معايير معينة قد لا تكون موضوعية تؤدي إلى إشراك أعداد محدودة، ونوعية الدورات غير مفيدة على الإطلاق، والمدربون لا يكونون مؤهلين لإدارة هذه الدورات وتحقيق الإفادة للطفل».

ويضيف: «لو افترضنا أننا نستطيع تكوين 100 مدرب سنويًا، هذا يعني تجهيز آلاف الأطفال بأعلى مستوى، متى ما تم تكوين مدربين جيدين للفئات السنية، مصر ستستطيع إنتاج مواهب أفضل».

العلوي يؤكد أيضًا أن المواهب في أعمار مبكرة لا يتم استغلالها بالشكل الأمثل في مصر على عكس دول أخرى في محيطها الإفريقي، مشيرًا إلى النموذج الإيفواري: «كوت ديفوار بلد لا يتعدى 30 مليون نسمة، مع هذا يستطيعون دائمًا إخراج مواهب على المستوى العالي عالميًا، أكاديميات أسيك على سبيل المثال وجلب مدربين من فرنسا، جعلهم يستثمرون مواهبهم بشكل أفضل».

يتفق د.وليد أبو طالب مع هذا الطرح قائلاً: «لابد أن يتقن المدرب معرفة الدوافع النفسية للطفل، وأن يعرف كيفية استثارة النشء، وأن يشعره بالاستمتاع بالتدريب، وأن يتحلى بمهارات اتصال ناجحة مع اللاعبين، وأن يكون تخطيط حمل التدريب وأعداد المتدربين مراعيًا لخلق الدوافع الصحية».

ويشخّص الداء مؤكدًا أنه يكمن في «ضعف الإدارة والتنظيم وعدم سلامة الانتقاء والوصول إلى المهارات الأعلى، وعدم تأهيل المدرب كي يملك الدراية الكافية للتعامل مع الناشئين».

الإجابة: عمرو زكي

يحيلنا كل هذا إلى قصة لاعب بقيمة وموهبة عمرو زكي أحد أفضل مهاجمي مصر عبر التاريخ، والذي قال مدربه في ناشئي المنصورة أحمد شهبور إنه كان يمنحه 5 جنيهات عن كل هدف يسجله في طفولته، فطلب زكي ذات مباراة أن يكون الهدف بـ 10 جنيهات، شهبور قال إن زكي سجل يومها هاتريك في أول 10 دقائق كي يحصد 30 جنيهًا بعدما يحقق المطلوب.

ما يثير الدهشة حقًا هو التطابق العجيب بين ما كان يفعله عمرو زكي في المنصورة، وما حصل معه في أهم محطات حياته بويجان الإنجليزي، حين كان العقد يمنحه حافزًا بمضاعفة المقابل المادي إذا سجل 10 أهداف في موسمه الأول بالدوري الإنجليزي، سجل معظمها قبل انتهاء الدور الأول وكان حديث إنجلترا كلها، وما إن وصل إلى الهدف العاشر حتى تجمد رصيد أهدافه وكثرت مشكلاته إلى الحد الذي وصفه مدربه ستيف بروس بأنه أسوأ محترف تعامل معه في مشواره كله!

من أجل تلك الجنيهات العشرة انتهى عمرو زكي، ومن أجل هذه التنشئة تحبَط المواهب المصرية باكرًا للغاية.