كالوليد خارجًا من رحم أمه بصرخة الميلاد، بدت الدراما الفلسطينية تحبو في فضاء الفن، تواجه الموت لأجل الحياة، مستمدة قوتها من زخم الحياة الإنسانية في الأراضي الفلسطينية فتُنتج قصصًا بثوب درامي، تارةً تُبكي وأخرى تُضحك، دونما الحاجة للكثير من التقنيات الفنية، فالصورة تكفي.

فمنذ نشأة التلفزيون الفلسطيني إثر عودة السلطة الفلسطينية إلى جزءٍ من الأرض والوطن في عام 1994، راود الفنانين الفلسطينيين حلمٌ كبير بتكريس القضية الفلسطينية من خلال الدراما، وما فتئوا أن اجتازوا حدود الواقع والإمكانات المتاحة لإخراجه مشاهد تُلامس العقل قبل العاطفة.

فكل زاويةٍ من تاريخ الشعب الفلسطيني تُشكل رافدًا لأعمال درامية جمّة تُسلط الضوء على ما جرى، وتُنبه لما سيجري سواء على الاجتماعي والإنساني البحت أو على المستوى السياسي، ورغم ذلك ما زالت الدراما الفلسطينية في المهدِ تحبو بخطى بطيئة لأسبابٍ لا تعدو التقصير الرسمي وغياب الاهتمام بالاستثمار في ذلك المجال الذي من شأنه أن يُحقق جدوى اقتصادية رائعة.


محاولات البداية

دأبت هيئة الإذاعة والتلفزيون التي أُنشئت مباشرة بعد العودة إلى الوطن على صناعة دراما تُحاكي الواقع، وأنتجت عددًا من المسلسلات منها مسلسل «سواليف» للمخرج سعود مهنا، والذي جاء بصيغة اجتماعية ساخرة، وكان أول مسلسل درامي من ثلاثين حلقة يتناول الحياة الاجتماعية للفلسطينيين، وصُورت تفاصيل مشاهده في قطاع غزة.

كان أبرز تحدٍّ لهذا المسلسل -وفق مُخرجه مهنا- ضعف الخبرة التمثيلية لدى فناني القطاع، فمنهم من كان يواجه الكاميرا لأول مرة، ومنهم من لا يمتلك الخبرة في العمل الدرامي، إضافًة إلى ضعف وجود العنصر الأنثوي في المسلسل نظرًا لفكر المجتمع الفلسطيني وقتها، إذ لم يكن يُشجع فتياته على الظهور أمام كاميرا الدراما أو المسرح أو التلفزيون عمومًا، ناهيك عن ضعف الإمكانات الفنية والمادية.

واجه المسلسل العديد من الانتقادات لكن مخرجه ما زال راضيًا عنه، ويؤكد أن إخفاقات التجربة منحته المزيد من الإصرار على تنفيذ دراما أكثر جودة.

وعلى مدار ثلاثة عشر عامًا حتى وقت الانقسام الفلسطيني وسيطرة حماس على قطاع غزة عام 2007، بقي إنتاج التلفزيون الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية موصومًا بالضعف ليس في الموضوع وإنما في طريقة الطرح والمعالجة الدرامية.

فما كان يُكتب وُصف بالجيد والجيد جدًا، ولكن التطبيق على الأرض بالقوالب الدرامية كان يحتاج إلى المزيد من الإمكانيات الفنية واللوجستية التي لم يستطع التلفزيون الرسمي توفيرها، لافتقاره لموازنات مالية مناسبة، أو لتقصير المؤسسة الرسمية وعدم اهتمامها بالدراما كمنفذ إعلامي خطير يُمكن من خلاله إبراز القضية الفلسطينية وتعريف العالم بها وكذلك تدعيم القيم المجتمعية.

في العام 2002 حاول المخرج «مصطفى النبيه» من خلال العمل الدرامي «غدًا تُشرق الشمس» أن يُنبه المؤسسة الإعلامية الرسمية بالسلطة إلى الحالة الإبداعية التي يملكها البعض، علّها تحتضنها وتدعمها وتعمل على تطوير قدراتها وطاقاتها الإبداعية التي ترنو إلى إيجاد حالة درامية واعدة، لكن لم يحدث ذلك بل ازداد الوضع سوءًا، إذ لم تتوفر الإمكانيات المادية بأي حالٍ من الأحوال.

أراد النبيه من خلال مسلسله «غدًا تُشرق الشمس» أن يُقدم دراما بطريقة عميقة تمس جوهر الحياة الإنسانية والاجتماعية بعيدًا عن المعالجة السطحية التي وُجدت في أعمال سابقة، وعلى مدار سبع حلقات قدم أنموذجًا دراميًا حقيقيًا كان من المفترض البناء عليه ومراكمة تجربته سواء في النص أو الطاقة الشبابية بالتبني والاحتضان والدعم من أجل التطوير والارتقاء، غير أن عدم اهتمام السلطة وعجز إمكانياتها المادية حالا دون ذلك.

وفي الضفة الغربية لم يكن الإنتاج كسيحًا، بل وُجدت مُحاولات استطاعت أن تنقل واقع الحياة المُعاش بين أنياب الاحتلال.

وكان مسلسل «المطب» الذي أنتجه المركز الفرنسي الألماني عام 2008، وكتب سيناريو وحوار حلقاته العشرة وأخرجها الفنان جورج خليفة، محاولة جريئة لتصوير تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة بطريقة كوميدية لا تخلو من قصص الحب.

ففي كل حلقة يُعايش الجمهور مطبًا جديدًا يواجهه الفلسطيني في الأراضي المحتلة، فنجده يقع في مطب المشكلات الأسرية تارة، وفي مطب مشكلات الاعتقال التي يتعرض لها المواطن الفلسطيني بشكل عشوائي على يد الاحتلال تارةً أُخرى، ولعلَّ هذا التنوع في المطبات والمشاكل كان سببًا في إقبال الجمهور عليه رغم منافسة الأعمال الدرامية العربية التي كانت تُبث عبر تلفزيون فسطين وقتها.

ثمَّ جاء «وطن ع وتر» للثلاثي «منال عوض وخالد المصو وعماد فراجين»، الذين يكتبون حلقاته علاوة على تمثيله، لينتقد الواقع الفلسطيني على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، فكان نُقطة تحول للدراما بأن تلبس الثوب السياسي، وتُمرّغ مُخطئيه في عباءة الدراما الناقدة الهادفة إلى التصحيح لا التشهير، علاوة على أنها لم تنزع الثوب الاجتماعي عنها فاستمرت أيضًا بانتقاد العادات البالية أملًا في تصحيح مسار سالكيها.

ويُشير القائمون على المسلسل أن نجاح وقبول الجزء الأول منه عام 2009 لدى الجمهور الفلسطيني منحهم القدرة على المواصلة فتابعوا الأداء بأجزاء متتالية حتى العام 2016، ومنحتهم التركيبة الغريبة التي يحظى بها الواقع الفلسطيني من احتلال وانقسام وحصار وانتفاضة وتنسيق أمني وغيرها في الضفة الغربية وقطاع غزة مادة دسمة ومتنوعة، عملوا على توظيفها بقالب ساخر استطاع أن يوصل الفكرة والمضمون بطريقة بسيطة.

ظلت تجربة الإنتاج الدرامي في الأراضي الفلسطينية زهيدة قاصرة على التلفزيون الرسمي الذي لا يملك موازنات مالية، وعلى بعض المؤسسات الأجنبية التي مولت بعض الأعمال وفقًا لرؤيتها وأجندتها، فجاءت ضعيفة لا ترقى للمواصفات الفنية التي تُمكنها من القبول في المحطات الفضائية لشرائها وعرضها، على عكس المسرح والسينما اللذين حظيا بتجربة رائدة.


بدء التطور

مع ظهور عدد من القنوات التلفزيونية الفضائية بُعيد العام 2010 كفضائية الأقصى، وهنا القدس، ومعًا، والفلسطينية، والقدس؛ وُجدت حالة من الاعتناء والاهتمام بعض الشيء على مستوى الإنتاج بالأعمال الدرامية التي تخدم القضية وتُعزز قيمًا مجتمعية مختلفة سواء على مستوى القصة أو الصورة أو الإنتاج أو حتى الكفاءات التمثيلية والفنية، مما ساهم في تلبية حاجة المواطن الفلسطيني منها، وفتح لها آفاقًا للعرض في السوق العربي.

فغزة التي صرخت في وجه الاحتلال «الْمُوتْ ولَا المَذلَّة»، كانت قادرة على أن تُحوّل ما لديها من فكرٍ مقاوم إلى أعمالٍ درامية تُحاكي الدراما العربية من حيث كتابة السيناريو وجودة أداء الممثلين ورؤية الإخراج رغم الإمكانيات البسيطة والمتواضعة بفعل الحصار الإسرائيلي، الذي يمنع إدخال أدوات ومعدات الإنتاج.

وفي زمن قياسي أنتجت «الروح»، المسلسل الفلسطيني الأول الذي يُصور عمليات المقاومة الفلسطينية في جناحي الوطن بقطاع غزة والضفة الغربية.

يطرح المسلسل قضية الأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية، وينقل أساليب إدارة مصلحة السجون في تعذيبهم في رسالة تفضح زيف الديمقراطية وحقوق الإنسان الذي يدعيه دومًا الاحتلال، كما يُصور المعاناة اليومية للفلسطينيين على الحواجز الإسرائيلية والتي تغتال الوقت وتنفي حق حرية التنقل والحركة عن الفلسطينيين، ذلك الحق الذي كفلته القوانين الدولية وانتهكته إسرائيل بعنجهيةٍ كبيرة.

غير أن اللافت في هذا المسلسل أن التصوير رغم إتمامه في قطاع غزة ذي الطبيعة الساحلية، إلا أنه اخترق حدود المكان وأدخل المشاهِد إلى جوف الطبيعة الجبلية في الضفة المحتلة بوسائل ديكور بسيطة مرة، وبالتصوير في مناطق طبيعية موازية بالقرب من الحدود الفاصلة بين غزة والاحتلال، كان ذلك عامل جذب ونجاح يُحسب للقائمين على العمل.

المسلسل الذي عُرض على شاشة فضائية الأقصى في رمضان 2014، لاقى من الترحيب ما شجع القناة ذاتها على إنتاج المزيد من الأعمال الدرامية التي تُواكب الحياة وتشرح القضية وتُؤصّل للحق الفلسطيني في الأرض والوطن والهوية.

وفي الضفة الغربية خرج مسلسل «باب العامود» ليرسم البسمة على وجوه الناس في الأراضي الفلسطينية، فقد استطاعوا من خلاله زيارة القُدس التي يحرموا من رؤية كل شيء فيها سوى المسجد الأقصى.

ووفقًا للمزاج الإسرائيلي وهواجسه الأمنية، فالمسلسل كان بمثابة نافذة يُطلون به على البلدة القديمة، يُشاهدون واقعها بطريقة كوميدية ساخرة.

ومع ذلك تُركز على جمالية المشهد وأصالته بالتصوير في الأحياء الأثرية، واعتُبرَ المسلسل أضخم أعمال التلفزيون الفلسطيني ومسرح الرواة الفلسطيني، وتميّز بالبناء الدرامي للحوار الذي أعده الفنان المسرحي إسماعيل الدباغ وساعده فيه الكاتب طارق السيد، بالإضافة إلى الطاقة الهائلة لدى الممثلين التي لعبت دورًا أساسيًأ في نجاحه بجدارة وحفزت القائمين عليه لإنتاج جزء آخر منه.


فكرة أعمق

ثم جاء «الفدائي» بجزأيه الأول والثاني بفكرة أعمق في معالجة قضايا الهم الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، فأبدع مخرجه محمد خليفة في نقل معاناة الفلسطينيين من اعتداءات المستوطنين وجرائمهم في الضفة الغربية المحتلة وتصوير مشاهد الحرب والدمار الإسرائيلية في قطاع غزة المحكوم عليه بالحصار في قبضة الاحتلال.

تمكّن المسلسل من تقديم الرؤية الفلسطينية البحتة للأعمال الدرامية ما جعله منافسًا لأعمال درامية قدمت القضية الفلسطينية برؤية سورية أو مصرية، حيث استطاع ترسيخ مفهوم المقاومة ضد الاحتلال كحق أساسي كفله القانون الدولي لكل شعب يرزح تحت الاحتلال.

وأبدع القائمون على المسلسل في إبراز الجانب الاجتماعي والعاطفي والوطني في بوتقة واحدة، جاءت متكاملة بأسلوب إخراجي قائم على المتعة والتشويق رغم بساطة الإمكانيات التي أُنتجت به، ما جعله يلقى قبولًا على المستوى الفلسطيني والعربي وبُث على عدة قنوات: الزيتونة، والتونسية، واليرموك الأردنية، بالإضافة إلى ترجمته إلى اللغة التركية وعرضه هناك.


عقبات لا تخلو من السياسة

لا شك أن عقبات الإنتاج الدرامي في بلدٍ لا زالت لا تُسيطر على مواردها الطبيعية تكون متعددة تبدأ بالإمكانيات المحدودة على المستوى المالي، ولا تنتهي بعدم وجود مدينة للإنتاج الإعلامي، مما يدفع القائمين على الأعمال الدرامية إلى التصوير في أماكن طبيعية حيّة داخل الأزقة وبين شوارع المخيمات وأحيانًا على الحدود مع الأراضي الإسرائيلية، الأمر الذي قد يُكلف بعضهم حياته.

ويُضاف إليها فقدان العنصر النسائي في الأعمال الدرامية، فالمجتمع الفلسطيني ما زال يرفض أن تُجسد نساؤه الأدوار المختلفة وراء الشاشة.

ولا تخلو العقبات التي تواجهها الدراما الفلسطينية من نزعة السياسة، فبعد الانقسام الفلسطيني انقسم العمل الدرامي ولم يعد الإنتاج موحدًا، وكل منظومة سياسية تُنتج ما يتوافق مع فكرها، وهذا ما أخبرنا به المخرج مصطفى النبيه الذي انتقد الصورة النمطية للإنتاج الدرامي في غزة، والتي تُصور الحياة في قالب واحد هو المعاناة والألم من الحروب، بينما الضفة الغربية تخرج من هذا النطاق إلى نطاق السُخرية من الأجواء والرموز السياسية.

وبيّن النبيه أن مشكلة الدراما الفلسطينية أنها تنحصر في رؤية الجهة التي تقوم على إنتاجها، سواء كانت حكومة أو حزبًا فهي ستسعى إلى إنتاج ما يدعم وجودها ويُؤصل لاستمرارها بعيدًا عن المهنية والإبداع في كثير من الأحيان.

داعيًا إلى ضرورة توجيه رؤوس الأموال إلى الاستثمار فيها بما يُعزز مكانتها للتعبير عن هموم الفلسطينيين ومعاناتهم، بالإضافة إلى ضرورة إخراجها من تحت مطرقة التمويل العربي لتحظى بجهد أكبر لتكون إنتاجًا فلسطينيًا خالصًا على أرض فلسطين.

المراجع
  1. رياض سيف، "ربيع الدراما الفلسطينية"، موقع صحيفة دنيا الوطن، 27 مارس 2012.
  2. منير النشاشيبي، "باب العامود يرسم البسمة على وجوه الناس"، موقع دنيا الوطن، 12 يوليو 2013.
  3. ياسر دبابش، "في ظل الإبداع وقلة الإمكانيات الدراما الفلسطينية تُحاول شق طريقها نحو فضاء الفن"، موقع وكالة سما الإخبارية، 26 أغسطس 2011.
  4. أحمد عبد العال، "الروح: دراما فلسطينية في رمضان لتجسيد المقاومة:، موقع الجزيرة نت، 9 يونيو 2014.