تواصلت خلال الفترة الأخيرة الهجمات العسكرية من قبل قوات النظام السوري وروسيا على مناطق شمال غربي سوريا، مستهدفة مناطق مدنية مما أوقع عددًا كبيرًا من الضحايا بينهم نساء وأطفال، وسط صمت عربي ودولي.

ووثق المرصد السوري لحقوق الإنسان استمرار القصف الصاروخي من جانب قوات النظام السوري على جبل الزاوية في ريف إدلب الجنوبي، والقصف المدفعي على قرى غرب حلب، واستمرار المعارك شمال غرب حماة وريف إدلب، بين فصائل المعارضة وقوات النظام المدعومة بسلاح الطيران الروسي.

خفض التصعيد

تسمى هذه الأماكن المستهدفة مناطق «خفض التصعيد» لأنها مشمولة باتفاقات بين موسكو وأنقرة تنص على وقف إطلاق النار ومنع التصعيد العسكري، وتمتد رقعتها الجغرافية لتشمل جزءًا كبيرًا من محافظة إدلب وغرب محافظة حلب وشمال غرب حماة وشرق اللاذقية، وهي آخر معاقل المعارضة المسلحة في الشمال السوري، وتهيمن على المنطقة جماعات مسلحة موالية لتركيا، وتديرها ما يسمى بـ «حكومة الإنقاذ» المقربة من جماعة هيئة تحرير الشام، وتنضوي تلك المجموعات في كيان كبير يسمى «الجيش الوطني» تشرف أنقرة على تدريب فصائله وإمدادها بمختلف أنواع الأسلحة المتطورة المصنعة في تركيا بما فيها الأسلحة الثقيلة.

ورغم التحذيرات المتكررة للحكومة التركية من أي تصعيد وانتهاكات تحدث شمال غربي سوريا، فإنها لم يكن لها رد فعل مباشر على معظم الهجمات لكنها تنفذ بين الحين والآخر ضربات مدفعيّة على أهداف عسكريّة تابعة لقوات النظام وحلفائها.

وكانت أنقرة قد شنّت في السابق ثلاث عمليات عسكرية كبيرة في شمال سوريا سيطرت بموجبها على أجزاء كبيرة من تلك المناطق، ووقعت مع موسكو وطهران اتفاقية أستانة عام 2017 من أجل «خفض التصعيد»، تلتها اتفاقية سوتشي مع الروس في عام 2018، ونصت أيضًا على وقف إطلاق النار في إدلب، ثم اتفاق موسكو عام 2020، وكل هذه الاتفاقيات تم انتهاكها مئات المرات ومارس الروس سياسة القضم التدريجي لمناطق سيطرة المعارضة إلى أن تم حشرها في المنطقة المتبقية الحالية.

وعلى الرغم من ذلك، فقد أسفر اتفاق موسكو في 5 آذار/مارس 2020 عن تثبيت الخريطة السورية لفترة غير مسبوقة، وهو وضع لا يُرضي أيًا من الأطراف المتصارعة لكنه يعكس توازنات القوى بشكل كبير.

وتواصل تركيا زيادة عدد قواعدها العسكرية في المنطقة ودعمها بالجنود والآليات الثقيلة، وتحاول فرض وقف شامل ودائم أو طويل الأمد لإطلاق النار في إدلب، لكن الروس يرفضون ذلك ويضغطون من أجل تنفيذٍ كاملٍ لبنود اتفاق موسكو الذي نصّ على إنشاء ممرّ أمني بمسافة 6 كيلومترات على جانبَي طريق M4 الدولي الرابط بين حلب واللاذقية، مارًا بمنطقة إدلب، وتسيير دوريات مشتركة مع الجيش التركي عليه، وبالتالي تقليص المساحة التي تسيطر عليها المعارضة. ومن أجل تحقيق هذا الغرض، تستمر الهجمات على الأجزاء الجنوبية من إدلب.

وتسعى أنقرة إلى التهدئة في مناطق سيطرة المعارضة، لأن أي تصعيد عسكري سيُحدث أزمة إنسانية كبيرة ينجم عنها موجة لجوء جديدة تجاه جنوب تركيا، في وقت تخشى حكومة حزب العدالة والتنمية التركية بقيادة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان من استقبال لاجئين جدد لأن ذلك سيضعف موقفها السياسي في أي استحقاقات انتخابية مقبلة.

في قلب الجحيم

يبلغ عدد سكان المنطقة أكثر من 4 ملايين نسمة، ويطلق عليها السكان «المناطق المحررة» لأنها خارج سيطرة قوات النظام، وتمثل وجهة لمئات الآلاف من العائلات النَّازحة التي تشرَّدت من مناطقها، بعد أن أُجبرت على الاستسلام والرَّحيل، خوفًا من عمليات اعتقال أو تعذيب يقوم بها النظام السوري والميليشيات الإيرانية، أو إجبار أبنائها على التجنيد القسري ضمن جيش النظام، وازداد عدد المقيمين في إدلب بعد غلق الحدود التركية في وجوههم، وبالتالي توقف باب اللجوء إلى دول أوروبا الغربية، كما يتدفق سكان المناطق الطرفية التي تتعرض للقصف باستمرار إلى داخل إدلب للإقامة المؤقتة في أماكن أكثر بعدًا عن مرمى القصف المدفعي.

ويعيش النَّازحون في محافظة إدلب، خاصة ممن يقطنون الخيام، أوضاعًا إنسانية متردية، في ظلِّ تهديد مستمر بالقتل بفعل الهجمات السورية والروسية على مختلف مناطق المحافظة، بما فيها مخيمات النزوح.

فلم تؤدِّ اتفاقية خفض التصعيد إلى تحقيق أي أثر حقيقي ملموس في وقف عمليات القصف والمجازر والهجمات العشوائية التي تشنُّها قوات النظام السوري وحلفاؤها، ولا غارات الطيران الروسي الذي لا يوفر الأهداف المدنية البحتة كالمستشفيات والمخابز والمخيمات والمساجد، بينما تنوء البنية التحتية المتهالكة بأحمالها وتتأثر بشدة جراء تلك الهجمات. فعلى سبيل المثال، انقطعت مياه الشرب النظيفة عن 225 ألف شخص بسبب ضرب محطة ضخ المياه الرئيسية في إدلب خلال غارة استهدفتها مطلع الشهر الجاري وفق تقرير نشره مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية.

وبغض النظر عن الأضرار المادية الفادحة، فإن قاطني المناطق الجنوبية من إدلب يعيشون جحيمًا لا يطاق بسبب تلك الهجمات التي تستهدفهم، فلا ملاجئ لديهم يحتمون بها ولا أي ملاذ آمن، لذلك ما إن يرى هؤلاء النازحون الطائرات الحربية الروسية وطائرات الاستطلاع تحلق في سمائهم حتى يدب الرعب في أوصالهم ويهرب البعض منهم إلى العراء تاركين خيامهم ومتاعهم خشية أن يكونوا من أهداف تلك الغارات الجوية التي لا ترحم.