الضربة القاضية يمكنها أن تُريحك من خصمك تمامًا، وتمنحك فوزًا مهمًا. عليك بالطبع أن تسبقها ببضع ضربات لإضعاف خصمك وتشتيت انتباهه، في تلك الأثناء تتحين اللحظة المناسبة لتوجيه اللكمة التي ستُنهي كل شيء. لكن حين تستمر في تسديد اللكمات الاستباقية، وتتراجع حين تسنح لك إمكانية الضربة القاضية، فهذا أمر غير معتاد في عالم الملاكمة. لكنه قد يكون معتادًا في عالم السياسة الذي تتبدل أحواله في كل لحظة.

فبعد سنوات طويلة من التوتر والمشاحنات بين السعودية والإمارات من جهة، وتركيا متمثلة في شخص رجب طيب أردوغان من جهة أخرى، حانت اللحظة لتوجيه الضربة القاضية. ضربت تركيا أزمة لم تمر بها منذ عقود، زلزال مدمر وضحايا بعشرات الألوف، كما أن توقيت الزلزال كان مثاليًا بقواعد السياسة، فأتى قبل أسابيع معدودة من انتخابات رئاسية فارقة، توحدت فيها المعارضة التركية بمختلف أطيافها لأول مرة في تاريخها خلف مرشح واحد لهدف وحيد، هو الإطاحة بالرجل الذي يحكم منذ عشرين عامًا.

لكن كان المفاجئ أن السعودية والإمارات اتخذتا نهجًا جديدًا، فشهدت العلاقات بين الأطراف الثلاثة تحسنًا ظاهرًا في الأسابيع الأخيرة. فمثلًا أودعت السعودية مبلغًا ضخمًا في الخزينة التركية. كما عقدت الإمارات اتفاقية شراكة مع تركيا. من جهته أعلن الصندوق السيادي للتنمية عن إيداع 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي. البيان أردف أن تلك الخطوة تمثل التزامًا سعوديًا بدعم تركيا لتعزيز اقتصادها. بالطبع استدعت الوديعة ردًا من الجانب التركي ليؤكد أن الوديعة تعكس ثقة المملكة في اقتصاد تركيا.

لكن توقيت الوديعة يقول ما هو أبعد من مجرد الهدف الاقتصادي. فيبدو أنها توضح لنا اسم المرشح الذي يريده ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أن يفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة. خصوصًا أن الإقراض السعودي لتركيا أتى دون أي شروط. فالسعودية تُقرض دولًا أخرى مثل مصر وباكستان وتونس والبحرين، لكن المملكة تشترط توافر السياسة الاقتصادية الجيدة، وأن تكون الدولة المقترضة ضمن برامج صندوق النقد الدولي.

يرغبان في استمرار أردوغان

كما ترفض المملكة أحيانًا عملية الإقراض للدول إلا بعد إجراء إصلاحات محددة. الأمور التي لم تذكرها المملكة إطلاقًا بخصوص الوديعة التركية. ما يُظهر أن الضمان لتلك الوديعة هو أردوغان ذاته، وأهميته السياسية على الساحة الدولية. لأن تركيا كدولة تعاني من تضخم متزايد، وتقترب العملة من أدني مستوياتها منذ سنوات. وبجانب العجز التجاري فيمكن وصف اقتصاد تركيا بأنه غير مستقر.

بجانب الوديعة السعودية، شهدت الأوساط الدولية توقيعًا لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين تركيا والإمارات. وتم التوقيع في مراسم افتراضية حضرها بن زايد وأردوغان. وتوقع أردوغان أن تلك الاتفاقية سترفع حجم التبادل بين البلدين إلى 25 مليار دولار خلال 5 سنوات فحسب. وهو أمر غير مستبعد، فعلاقة التكامل التي تربط اقتصاد الدولتين بتركيا ترجحان من تلك الاحتمالية. فتركيا اقتصاد ضخم مفتوح على مصراعيه لمن يرغب في الاستفادة منه. كما توفر تركيا مصدرًا رخيصًا لعمليات النقل والسياحة والمنتجات صديقة البيئة التي تطلبها الدولتان.

بالطبع بجانب لغة الأرقام والمال، توجد لغة التبادل الدبلوماسي. فقد زار أردوغان السعودية في أبريل/ نيسان 2022. ثم زار ولي العهد السعودي تركيا في يونيو/ حزيران من نفس العام. وقد زار محمد بن زايد تركيا في أواخر عام 2021، ثم زار أردوغان الإمارات في فبراير/ شباط 2022. تلك الزيارات كانت إيذانًا بطي صفحة الخلافات التي وُلدت نتيجة قتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في أسطنبول.

بالتالي فإن المشهد السياسي بات واضحًا. السعودية والإمارات، وقطر بطبيعة الحال، يرغبان في استمرار أردوغان في منصبه. بالتأكيد يظل الاحتمال الآخر واردًا، وهو أن السعودية والإمارات أرادتا القيام بتلك الخطوات قبل نتائج الانتخابات الرئاسية تأكيدًا منهما على أن شراكتهما هي شراكة مع دولة تركيا نفسها، لا مع هوية الفائز أيًا يكن. وهي خطة طموحة وذكية، تضمن للدولتين الفوز في كل الأحوال. لكن يظل توقيت الاتفاقات في صالح أردوغان، أكثر مما هو في صالح المعارضة.

إسلاميو تركيا أفضل للخليج

حتى إذا كانت السعودية والإمارات قادرتين على مد جسور التواصل مع المعارضة التركية حال فوزها، فإن وجود كيان إسلامي على رأس السلطة بالتأكيد مفيد للدولتين. فرغم أن الرئيس كمال كليجدار لن يشغل باله بمناطحة دول الخليج في مناطق النفوذ، لكنه في النهاية يأتي من العلمانية التركية. ومعضلة الخليج مع العلمانية ليس الأيديولوجيا في ذاتها، بل لأن العلمانيين الأتراك دائمًا ما ينظرون جهة الغرب، ويمدون جسور التواصل معه بدلًا من الشرق والخليج.

بمعنى أن المنطقة العربية لن تخلو من حالين في منتهى السوء، أن تتجاهلهم تركيا الجديدة. أو الاختيار الثاني أن تناصبهم العداء لأجل الحفاظ على رضا الناخب الكاره للشرق الأوسط، والراغب في تحطيم إرث أردوغان الذي بناه مع الخليج العربي والشرق الأوسط.

وأن حزب الشعب ستكون له علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي يبدو الخليج غير راغب فيه في الوقت الحالي. فتوجه الخليج متماش مع ما يقوم به أردوغان من الميل الجزئي نحو روسيا، والتحدي النسبي لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم.

أضف إلى ذلك أن حزب الشعب الجمهوري أعلن أكثر من مرة عن رغبته في إعادة فتح العلاقات مع بشار الأسد، وفي نفس الوقت طرد اللاجئين السوريين لإجبارهم على العودة لبلادهم. التقارب التركي- السوري قد يهدد نفوذ الرياض في المنطقة. كما قد يجعلها تمر بأزمة لاجئين غير مستعدة لها. والأهم أن وجود كيان ذي خلفية إسلامية على رأس الحكومة التركية كان يمنح السعودية ورقة إضافية للضغط بها على تركيا، باعتبار السعودية بلد الحرمين الشريفين، ولها قدستيها في نفوس المسلمين.

لهذا فإن تركيا أردوغان صارت شريكًا مهمًا للخليج في حلمهم نحو تصنيع السلاح محليًا. فتركيا احتلت مكانة ضخمة في سوق التصنيع العالمي. وهو ما تريده الدولتان، أن يتحولا من المستورد الأكبر عالميًا للسلاح إلى مُصنّع لها. وتركيا من أكثر الدول التي تبدي استعدادًا لنقل تقنياتها في التصنيع للدول الصديقة لها. أو حتى تجميع ونقل أسلحتها لأي دولة ترغب في ذلك، بخاصة إذا كان ثمة تقارب ديني وثقافي.

صفر مشاكل

إذا أخذنا خطوة للخلف للنظر بشكل شامل للدول الثلاث فسنجد رغبة لديهم جميعًا في تقليل المشكلات مع الجيران. أو تصفيرها تمامًا حال أمكن ذلك. فالإمارات بعد عقد كامل من دخولها في مشاحنات وحروب مع أطياف عدة، أدركت الإمارات أن ذلك يؤثر على صورتها كمركز إقليمي للسياحة والتكنولوجيا في الشرق الأوسط. وأن خوضها الصراعات المتكررة قد يقوض رغبتها الرامية للجلوس على كرسي الزعامة العربية.

ولا بد لتلك الزعامة من شركاء أساسيين يُعتمد عليهم. وهو ما تفتقده الإمارات والسعودية على حد سواء. فتآكل التناغم بين البلدين جعل كل منهما منافسًا للآخر، بالتالي لم يعد من المنطقي اعتمادهما على بعضهما. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأخيرة اتخذت توجهًا واضحًا بتحجيم تدخلها في الشرق الأوسط، والابتعاد عن المنطقة المشتعلة. كما أن الولايات المتحدة غاضبة من التقارب السعودي والإماراتي مع الصين مؤخرًا. ما يعني أن البلدين قد عزفا عن شراكتهما التقليدية مع الولايات المتحدة.

السعودية هي الأخرى أطلقت العنان لسياسة صفر مشاكل، بخاصة بعد الخسائر التي مُنيت بها في الملف اليمني والسوري. فأعلنت المملكة من الصين إعادة علاقاتها الدبلوماسية مع إيران. الغريم العتيد للمملكة، والمختلف عن المملكة سياسيًا وأيديولوجيا، الذي ناصبته المملكة العداء الذي تطور لحرب فعلية سنوات طويلة. بالتالي في هذه الأجواء التصالحية التي تملأ الأجواء الدبلوماسية الخليجية، ليس بمستغرب أن يمتد تأثير التصالح إلى تركيا، بخاصة تركيا التي يحكمها أردوغان.

أردوغان بدوره استقبل الدولتين استقبالًا مهيبًا، متناسبًا مع حملات الهجوم الضخمة التي شنها عليهم سابقًا. وأوضح أن بلاده تفتح صفحة جديدة مع الدولتين، وشكر لهما دعمها الإنساني والاقتصادي في الفترة الأخيرة، قائلًا إن الدولتين وقفتا مع تركيا منذ اليوم الأول. فهو الآخر يريد تهدئة حدة النزاعات التي خلقها مع جيرانه على مدار السنوات الماضية.

لكن يمكننا القول إنه من المبالغة النظر إلى الاتفاقيات السعودية والإماراتية مع تركيا باعتبارها تحالفًا إقليميًا أو محورًا استراتيجيًا جديدًا في المنطقة. فالتنافس على القيادة سيظل حاضرًا في علاقة الثلاثي ببعضهم البعض. خصوصًا أن تركيا تمتلك نفوذًا قويًا في مناطق تراها السعودية مجالًا لها، وهكذا الحال مع الإمارات.