لم تكن هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 على الولايات المتحدة الأمريكية مجرد حدث فارق على نطاق جغرافي أو زمني محدود، بل كانت له تداعياته المستمرة مدا وجزرًا على مستوى الأعوام الأربعة عشر التالية له، الأمر الذي ولد سياسات خارجية ومحلية انتهجتها أمريكا كان لها أثرها البالغ على السياسة الدولية خاصة المتعلقة بالشرق الأوسط والبلدان الإسلامية، وكذلك على السياسات الداخلية المتعلقة بالمجتمع والنظام الداخلي، لا سيما ما يمس المسلمين والعرب.

وكان هذا التغيير ناتجا عن حجم الصدمة التي تلقاها المجتمع الأمريكي نتيجة الاختراق الأمني والذي بدوره ولد إشكاليات عميقة في مفاهيم النظام السياسي الأمريكي، ليكون السؤال الأكبر المطروح هو أيهما أولى بالرعاية «الأمن أم الحرية؟» مع ما يرتبط بذلك من إعادة النظر في حدود الدور الأمريكي خارج حدودها وإعادة ترسيم قوانين المجتمع الداخلية وتكاليف ذلك ماديا على مستوى الإنفاق المالي، ومعنويا في التأثير على صورة أمريكا أمام العالم كبلد ديمقراطية تطرح نموذجها بوصفه «الحلم» الذي يبتغي الجميع الوصول له أو العيش بداخله.

ومع مرور الذكرى الرابعة عشر لهذه الهجمات اليوم، فإن الأسئلة المتعلقة بأثر تداعيات سياسات ما بعد 11 سبتمبر/أيلول ما زالت مطروحة ومتجددة خاصة مع تبدل الأحداث صعودا وهبوطا داخل أمريكا وخارجها، تبدلات دائما ما تطرح في سياقها الجملة الأشهر منذ ذلك التاريخ وهي «ما قبل وما بعد 11 سبتمبر» فماذا تبقى من هذه السياسات وماذا حققت من أهدافها، وكيف كان أثرها؟


الأمن الداخلي وإشكاليات الحقوق والحريات

منذ إعلان إدارة جورج دابليو بوش لحرب أفغانستان 2001 وغزوها وفيما بعد العراق 2003، متهما تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن بتنفيذ الهجمات وصدام حسين بإمتلاك أسلحة نووية، وتم سن وتشريع عدة قوانين واتخاذ التدابير لتعزيز الأمن كان من شأنها الحد من الحقوق المدنية والحريات في المجتمع الأمريكي.حيث توسعت صلاحيات الرئيس في التعامل مع الأزمة ففي أكتوبر/تشرين أول 2001 سُن قانون The USA Patriot Act وهو القانون الذي سمح بالقيام بعمليات تفتيش دون إذن قضائي، ومراقبة المعاملات المالية والتنصت، واحتجاز وترحيل في سرية، الأفراد المشتبه في ارتكابهم أعمالا إرهابية، فتم اعتقال قرابة 1200 شخص لمدة أشهر دون السماح لهم بالاتصال بمحامين أو الإفصاح عن أسمائهم.

مع إعلان بوش لحرب أفغانستان 2001 تم سن وتشريع عدة قوانين واتخاذ تدابير لتعزيز الأمن مما أدى إلى الحد من الحقوق المدنية والحريات في أمريكا

وفي أغسطس/آب 2002، قضت محكمة الاستئناف الأميركية بأن هذه الاعتقالات السرية غير دستورية إلا أنه مُد العمل بهذا القانون واستمر استخدامه في إدارة باراك أوباما، كما امتدت السياسات الأمريكية لتفتيش وترحيل مئات الآلاف من المهاجرين الذين قد يتم الاشتباه بهم.علاوة على ذلك إنشاء برنامج المجتمعات الآمنة 2008، والذي يسمح بتطبيق القانون المحلي للتحقق من حالة الهجرة من كل شخص حجز في مقاطعة أو السجن المحلي، مما أثر على حقوق وحريات بعض المواطنين خاصة القادمين من منطقة الشرق الأوسط وتعرضهم لعدد من التضييقات والمعاملة التعسفية لفترة ليست بالقليلة. كما توغلت الاستخبارات الأمريكية وأمعنت في مراقبة حياة ملايين من المواطنين، فضلا عن ارتفاع ميزانيتها لما يقارب 52.6 مليار دولار في 2013، بالإضافة إلى تعدد أجهزة التجسس، واتساع هيكلها الإداري.هذا إضافة إلى اعتماد قانون وزارة الأمن الداخلي التي أُنشئت نوفمبر/تشرين ثاني 2002 التي تشير بعض الإحصاءات إلى ارتفاع تلك الوزارة، ارتفعت بشكل تقديري من 16 مليار دولار في 2002 إلى 43 مليار دولار في 2011، ويزيد عدد موظفيها عن 200 ألف موظف مع ظهور منصب وزير الأمن الداخلي الذي عهدت إليه مسؤولية تنسيق إستراتيجية وطنية لحماية البلاد ضد الإرهاب قبل أن يتم استبداله في أبريل/نيسان 2011 بالنظام الوطني الاستشاري للإرهاب (NTAS).وبالرغم من أن المجتمع الأمريكي في تلك الفترة كان على استعداد لقبول أي سياسات متشددة، نظرا لحالة الذعر التي تعرض لها من جراء تلك الهجمات؛ إلا أنه بعد فترة بدأ شعوره النفسي بالاضطراب نتيجة إحساسه بعدم الأمان داخل وطنه، وفقدان قدر كبير من الخصوصية الشخصية، فضلا عن انعكاس السياسات المالية التي أجهدت الخزانة والاقتصاد الأمريكي، بما انعكس على أوجه الإنفاق الأخرى.إلا أن هذه الأمور تأثر بها بشكل رئيسي وأكبر المسلمون والعرب ومؤسستهم، لا سيما من قبل جهاز الاستخبارات الداخلي FBI الذي رغما عن عدم تمييز نصوص القانون ضد فئة بعينها إلا أن الاستخدام الدائم لهذه السياسات كان موجها لهم ولكل قادم من الشرق الأوسط، حتى ارتفعت معدلات الهجرة العكسية بكثافة لتلك الجاليات، لا سيما مع استهدافها من مواطنين عاديين وصلت لدرجة إطلاق الرصاص على بعض أصحاب الأعمال التجارية ودهس مصلين في الشارع، وتزايد حدة التمييز المجتمعي مع تنامي شعور بالخوف من الغرباء أو ما يسمى ب«زينوفوبيا».لكن مع مرور الوقت ورحيل جورج بوش ومجيء أوباما وشعور الأمريكيين بالخطر على النموذج الخاص بهم، تراجعت أشياء كثيرة سواء نوعية التتبع أو مراقبة الأموال بعد أن أضرت عائلات كثيرة نظرا لعدم استخدام الجماعات المسلحة الطرق التقليدية في إرسال الأموال التي تم التشديد عليها بشكل مبالغ، وكذلك تسجيل المكالمات التي بات التوسع المستمر فيها حتى الآن مقلقا لدى شرائح عديدة عن الأغراض والنيات حولها ونمط الدولة الذي تنتجه، فلم يعد مرحبا به على نطاق واسع حتى وإن وجد تفهما. يُضاف إلى ذلك حدوث هجرة عكسية أخرى للولايات المتحدة بعدما قلت سياسات التمييز ونجاح جهود المنظمات الإسلامية وبعض المنظمات الحقوقية في إعادة رسم الصورة الذهنية عن المسلم والعربي، وإن كانت لم تعد مثلما كانت قبل 11 سبتمبر، مع وجود بقايا قلق وتوجس تحت السطح في بعض الولايات الأمريكية خاصة الجنوبية منها.


السياسة الخارجية بين عهدين

لم تكن حالة الاندفاع في السياسة الخارجية في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر بأفضل من نظيرتها الداخلية، فقد اعتمد بوش وفريقه سياسة «من ليس معنا فهو ضدنا»، ساعيا لبناء تحالف دولي لما أسماه «محاربة الإرهاب» دون تحديد تعريفٍ له سوى الاتفاق مع الولايات المتحدة محددا هدفه في تنظيم القاعدة وطالبان في أفغانستان كرد فعل سريع وفوري بهدف الانتقام، ثم العراق من أجل إسقاط صدام حسين لأجل تأمين إمدادات النفط وبناء ما سُمي آنذاك «الشرق الأوسط الجديد» الخالي من الإرهاب,وقد مرت السياسية الخارجية لبوش بمرحلتين: الأولى، هي نقل المعركة إلى منطقة الشرق الأوسط مستخدما ومعتمدا فقط على القوة العسكرية المدمرة وهي المرحلة من 2001 حتى 2004 ، قبل أن تسيطر فكرة نشر الديمقراطية في المنطقة بين عامي 2004 و 2008 على يد مستشارين وباحثين وجدوا أن نشر الديمقراطية في المنطقة يقوض «الإرهاب» والعمليات المسلحة، ويحسن من صورة الولايات المتحدة بأنها ليست راعية للأنظمة الديكتاتورية.إلا أن إدارة بوش سرعان ما تمهلت في هذا الأمر بعد أن جاءت الانتخابات بالحركات الإسلامية في أغلب البلدان؛ سواء بصعود الإخوان في مصر عام 2005 أو حماس في فلسطين المحتلة 2006، فضلا عن وجود حالة من الممانعة «لفرض» النموذج الأمريكي كاملا؛ ثقافيا وسياسيا. ومساومة ديكتاتوريات المنطقة أمريكيا بالتنسيق الأمني في محاربة التيارات الإسلامية المسلحة. فكان أن أنهى بوش فترة حكمه بسياسة خارجية عدائية للولايات المتحدة، تنشأ سجونًا سرية خارج أراضيها وترسل أطقما للتعذيب الوحشي في الدول التي تحتلها، مركزة بشكل جوهري على الشرق الأوسط فقط، موجهة حجم إنفاق باهظ الثمن وصل في أغلب التقديرات نحو تريلون جنيه بعد عامين فقط من حكم أوباما، وأشارت الكثير من التقارير إلى دخول ما يقرب من 3.1 مليون أمريكي الخدمة العسكرية بين عامي 2001 و 2011، وما يقرب من 2 مليون شخص ضمن القوات المنتشرة في أفغانستان أو العراق. وخلال ذلك الوقت، كان هناك أكثر من 6000 جندي أمريكي قتلوا، وأصيب ما يقرب من 44,000 شخص ، وأكثر من 18 في المئة لديهم اضطراب ما بعد الصدمة أو الاكتئاب، وذكرت ما يقرب من 20% يعانون من إصابات في الدماغ.أما عهد أوباما فقد حاول معالجة تداعيات وآثار سياسات ما بعد 11 سبتمبر خارجيا، بعدما حدث نوع من الإرهاق العام للأداء الأمريكي من كثرة الملفات وتشابكها وتعقدها، إضافة إلى إدراك الكثير من المواطنين الأمريكيين أن رد فعل بوش على 11 سبتمبر لم يكن في محله، وتجلى ذلك في مهاجمة «جيب بوش» شقيق بوش حينما سُئل في إحدى اللقاءات الانتخابية، الأسبوع الماضي، عما إذا كان سيكرر فعلة أخيه لو عاد به الزمن، فأجاب بالإيجاب وهو ما أدى إلى شن هجوم واسع عليه، بما يكشف إدراك قطاع غير قليل من الأمريكين لحجم ما تسبب به بوش لهم. لذا فإن أوباما سعى لإنهاء الاحتلال الأمريكي للعراق بعد رفض حكومة المالكي أن تعطي حصانة للجنود الأمريكين الذين من الممكن استمرار وجودهم في العراق، رافضا حتى الآن إرسال أي قوات برية للمشاركة فيما يجري في سوريا أو العراق، إلا أنه توسع في استخدام «الدورنز» المقاتلة (طائرات بدون طيار)، وقد تغيرت بوصلة الاهتمام بالشرق الأوسط تدريجيا لدى الولايات المتحدة لصالح الصين وآسيا وشرق أوروبا، بعد نجاح الولايات المتحدة في تحييد الملف النووي على الرغم من عدم وجود رؤية واضحة لها فيه، بوصفه آخر ملفات الشرق الأوسط الهامة المعلقة. إلا أن الولايات المتحدة لم تستطع أن تنهي «الإرهاب» الذي بدأت تحركها من أجله، ولم تستطع القضاء على أي جماعات مسلحة سوا إضعاف القاعدة التي تستعيد قوتها مرة أخرى، في حين تحتل داعش آبار النفط الكبيرة في العراق.


كيف تأثر النموذج الأمريكي؟ وهل حققت أمريكا أهدافها؟

حاول عهد أوباما معالجة تداعيات وآثار سياسات ما بعد 11 سبتمبر خارجيا بعدما حدث نوع من الإرهاق العام للأداء الأمريكي لكثرة الملفات وتشابكها وتعقدها

كانت الهزة الكبيرة التي تعرض لها النموذج الأمريكي، نتيجة الصدمة في السياسات التي انتهجت بعد 11 سبتمبر واضحة بشكل لا تخطئه عين، وهو ما ظهر عبر المظاهرات المستمرة ضد احتلال العراق، وضد الاعتداءات والانتهاكات الجسدية والجنسية في سجون جوانتنامو، وأبو غريب، فضلا عن الاضطهاد الناعم والمبطن ضد المسلمين والعرب وتركهم فريسة للمتعصبيين ضد وجودهم، وإزدواجية الولايات المتحدة في قضايا الشرق الأوسط.

استطاعت أمريكا أن تفرض على نفسها طوقا أمنيا شبه محكم داخليا وكان ذلك في مقابل الانتقاص من الحريات العامة والخصوصية الفردية ومراقبة حركة الأموال

وهو ما استمر نحو 8 سنوات كاملة، قبل أن تسعى إدارة اوباما لممارسة نوع من التهدئة من خلال إعادة النظر في سياسات إدارة بوش في التعامل مع المعتقلين والسجون واحتلال العراق، وهو ما حسن نسبيا صورة الولايات المتحدة مرة أخرى خاصة في فترة أوباما الأولى التي شهدت الربيع العربي.لكن سرعان ما اهتزت هذه الصورة مرة أخرى مع شعور أطراف كثيرة بأن أمريكا يدها مرتعشة في ملف سوريا على ما فيه من مآسٍ وتحركت في ليبيا من وراء ستار، فضلا عن اتهامها من جميع الأطراف في مصر بأنها السبب في إفشاله.أما على مستوى الأهداف المعلنة، فبعد 14 عاما، يمكن القول أن أمريكا استطاعت أن تفرض على نفسها طوقا أمنيا شبه محكم داخليا، لكن كان ذلك في مقابل بعض الانتقاص من الحريات العامة والخصوصية الفردية، والمزيد من مراقبة حركة الأموال، حتى وإن قلت عما قبل الآن.أما خارجيا فلم تستطع الولايات المتحدة سوى إضعاف القاعدة، لكن خلفت محلها تنظيما أكثر شراسة هو «داعش» ولم تحصل العراق على ديمقراطية بل تفكك، وبالتالي لم يحدث قضاء على «الإرهاب» ولا على «التنظيمات المسلحة»، وصعدت الأفكار المعادية للولايات المتحدة بشكل كبير بين الفرقاء السياسيين، واضطرت الولايات المتحدة للانصراف أكثر عن الشرق الأوسط ،ولم يعد النموذج الأمريكي السياسي مصدر ثقة للغالبية من الشباب، وعادت الولايات المتحدة للتعاون الوثيق بالديكتوريات الباقية، فيما يشبه عدم القناعة بحدوث تحول ديمقراطي يحتفظ لها بمكانتها.

المراجع
  1. Post-9/11 Changes By the U.S. Government
  2. lowdown
  3. 10 years later: How did the 9/11 attacks change America?