في أكتوبر من عام 2018، سأله الإعلامي الشهير «جيمي كيميل» عن احتمالية لعب ابنته في دوري كرة السلة الأمريكي للسيدات «WNBA»، ليجيبه سريعًا: «بالتأكيد»، ثم حكى له معاناته مع بعض المشجعين الذين كانوا يجلسون بجواره، هامسين في أذنه مرارًا وتكرارًا كي يحظى بابن يكمل مسيرته الأسطورية، لتجيبه ابنته الصغيرة: «أنا لها».

ربما كان منتظرًا لهذه القصة أن تروى بعد سنوات، عندما تلعب الابنة أولى مبارياتها في عالم المحترفين، ثم نرويها من جديد بعد أن تحقق أول ألقابها، وبجوارها صورة الأب المعلم والملهم، لكن شاء القدر أن يتحول المشهد من الأمل إلى الحزن، بعد أن غادر الأب وابنته الحياة.

في السادس والعشرين من يناير لعام 2020، رحل أسطورة ال«NBA» «كوبي براينت» (41 عامًا) عن عالمنا، رفقة ابنته «جيانا» (13 عامًا) إثر حادث تحطم طائرة هيليكوبتر في ولاية كاليفورنيا. ولم يتبقى لنا سوى إحياء ذكراه بتذكير الجميع لماذا نحب بلاك مامبا «Black Mamba»؟

بلاك مامبا

أطلق كوبي على نفسه هذا الاسم، تيمنًا بفصيلة الأفاعي السامة «Black Mamba». هو لم يشاهد قناة ناشيونال جيوجرافيك أو ما شابهها، لكنه حصل على الاسم من فيلم «Kill Bill» في نسخته لعام 2004، حين أعجب بخفة حركة الأفعى وعدوانيتها، ورأى أن هذا الاسم الحركي يليق به وبأسلوب لعبه.

ربما كان «كوبي» سببًا في معرفتنا بهذا النوع من الكائنات، كما كان سببًا في تعلق جيل كامل بكرة السلة الأمريكية. فقد قضى كامل مسيرته داخل جدران نادي «لوس أنجلوس ليكرز»، 20 عامًا كاملة منذ 1996 حتى 2016، بدأها بالرقم 8 وأنهاها بالرقم 24. وعندما كان ال«NBA» بحاجة إلى أيقونة بعد اعتزال «مايكل جوردان»، كان «كوبي» حاضرًا.

ورغم قدسية «مايكل جوردان»، انهالت المقارنات بينهما، لأن «كوبي» كان أكثر من اقترب منه على مستوى السرعة،والتكنيك، والحدة. «جوردان» نفسه كان يرى أحقية «براينت» بهذه المقارنة، لأنه كما قال نصًا: «لقد قام بالعمل اللازم ليستحقها، هو الوحيد الذي فعل».

وهذا تحديدًا الذي جعل من «كوبي براينت» أيقونة لكل الرياضيين، فهو من اليوم الأول لم يكتفِ بإمكاناته، ولم يمل من التحدي، فقد رأى أنه سريع لا خارق السرعة، يقفز عاليًا لكن ليس الأعلى، لذلك كان عليه دراسة اللعبة والخصوم ليطور تكنيكه، ويركز على نقاط الضعف والقوة. كان أشبه بحالة «mode» عاشها كل يوم لمدة 20 عامًا، وكأنه ممثل وضع نفسه في قفص ليتقمص دوره، ولم يرد لأحد أن يشتته.

عقلية «كوبي»

بإمكانك تخيل كل أنواع القصص عن التدريب، بدايةً من نوم الكابتن ماجد بجوار الكرة، وصولاً بكريستيانو رونالدو، الذي لا يُضاهى بهذا الشأن – لتكتشف أن «براينت» هو من اخترع هذا النوع من الالتزام. مدربه السابق «برايان سكوت» أخبر موقع «Business Insider» عن ذلك اليوم الذي سمع فيه صوت الكرة داخل مركز التدريب في التاسعة صباحًا والأنوار مطفأة! ليتفاجأ ب«كوبي» يتمرن على التسديد في الظلام، كم كان عمره وقتها؟ 18 عامًا.

ذكر العملاق الأسطوري «شاكيل أونيل» في كتابه، أنه رآه ذات مرة يتدرب ويركض ويراوغ ويفعل كل شيء يمكن فعله بالكرة، لكن من دون كرة. لم يفهم «شاك» شيئًا، لكنه ظن أن ذلك ساعد «كوبي» كثيرًا.

في أولمبياد بكين عام 2008، حكى نجما ميامي هيت «كريس بوش» و«دواين وايد» قصة أخرى تؤكد جنون الرجل بالتدريب. كان المنتخب الأمريكي يستعد في معسكر بـ «لاس فيجاس»، واجتمع اللاعبون في الثامنة صباحًا لتناول وجبة الإفطار، وإذا بـ «كوبي» قادم للانضمام إليهم بصحبة طاقمه التدريبي، يظهر عليه العرق الناتج عن التمرين، واضعًا الثلج على ركبته. ختم «وايد» قصته بهذه الجملة: «كان الجميع يتثاءب، وهو يتمرن منذ 3 ساعات».

في أحد اللقاءات، كان «كوبي» يحكي عن رؤيته للاعبين وهم يقضون الإجازات معًا، لكنه أبدًا لم يفعل ذلك، كان كل شيء في حياته يدور حول التدريب، حول الفوز، حول الخسارة والنهوض من جديد، كان يبالغ في الالتزام، حتى لا يأتى عليه يوم بعد الاعتزال ويتمنى لو بذل مزيدًا من الجهد.

أرقام خالدة

لأن «كوبي» لم يرد فقط أن ينحنى خصومه له، بل أراد أن يلهمهم جميعًا. حتى برؤيته الفلسفية عن نفسه، عندما تم سؤاله عن كونه محبًا للفوز أم كارهًا للخسارة؟ فاختار لا هذا ولا ذاك، هو يلعب ليعرف، ويتعلم. رغم أن الجميع يعلم كم كان قائدًا عنيفًا يستميت من أجل الفوز، إلا أنه أراد أن ينقل لنا رؤية أفضل للرياضة بشكل خاص وللحياة بشكل عام.

وعلى قدر هذا المجهود، وهذه العقلية الفذة، خلد كوبي أسطورته بأرقام مبهرة. فقد أحرز 5 ألقاب لدوري ال «NBA»، ثلاثية متتالية مواسم: 1999/2000، 2000/2001، 2001/2002، بفضل شراكته مع العملاق «شاكيل»، بيد أن هذه الشراكة لم تدم طويلاً بعد خلافات بينهما، لكنه عاد وحقق لقبيه الآخرين في موسمي: 2008/2009، 2009/2010، بفضل شراكته مع الإسباني «باو جازول».

إلى جانب إحرازه ميدالتين ذهبيتين لبلاده في أولمبياد 2008، و2012. وبخلاف الألقاب، ترك كوبي لجماهيره لحظات كثيرة لا تنسى، كتلك الليلة التي أمطر فيها سلة فريق تورنتو الكندي ب 81 نقطة في عام 2006، ومباراته الأخيرة على ملعب الليكرز أمام فريق يوتا جاز، والتي ودع فيها جماهيره بإحراز 60 نقطة.

لكن يظل رقمه الأعظم والأكثر تراجيدية، هو احتلاله للمركز الثالث من حيث عدد النقاط المسجلة برصيد 33,643 نقطة خلف كريم عبد الجبار وكارل مالوني، وعندما تمكن ليبرون جيمس من تجاوزه، كان ذلك في الليلة السابقة لرحيل كوبي براينت، وكأن حياته كانت مرتبطة بهذا الرقم. وداعًا كوبي!