لعل من أعظم الأخطاء التي يقترفها الإنسان، أن يحرم نفسه من إعادة النظر في الأمور التي كان يظنها غير قابلة للنقاش والجدل؛ فيحرم روحه من لذة اكتشاف الأفضل، وعقله من متعة التفكير البناء المثمر، وقلبه من الإحساس بالجمال الذي لا تحسه سوى القلوب التي سمحت لسحر الجمال أن يداعبها.

لعل من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان نعمة البيان والتعبير عما في نفسه من مشاعر، ونعمة تذوق فنون الأدب المختلفة، التي يشبه أثرها في النفس أثر السحر وإبهاره للعيون والألباب والأفئدة، وهذا هو السحر الحلال الذي قال عنه الرسول – صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرًا».

السحر الذي حاولت أن أحدده – بعد أن تعجبت من إنكار بعضهم له – حدوده ودوائره التي وقعت في تأثيرها، بينما ينكرها آخرون قد حرموا أنفسهم وأرواحهم من لذته ونشوة الاستمتاع به. إنها الدوائر السحرية السبع لسحر البيان كما عهدتها، أحددها كما لمستها وتلمست تأثيرها على نفسي وروحي على مر الأيام.

1. أسمعه كله دائمًا دون أن أدري

إن وجود أحد المساجد ذات مكبرات الصوت العالية المستخدمة حتى في التلاوة، قد يبدو أمرًا مزعجًا لبعض الناس في أغلب الأحيان، بينما ستحفظ رغمًا عنك ولو بعض آيات متفرقة تتعلق بأذنك وفؤادك وروحك، ومع التكرار يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر وسنة بعد سنة، تزداد هذه الآيات، ويزداد شغفك في فهم معاني ما تسمعه، والمقصود من تلك العبارة أو ذلك الأسلوب:

«اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ». «وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ». «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا». «وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا».

ما تزال تلك الآيات العذبة الساحرة، وكلماتها التي لا أعلم من معانيها إلا ما أحسسته بفطرتي وسليقتي اللغوية، التي حمدت الله كثيرًا على سلامتها. تلك السلامة التي ساعدت الفضول في نفسي وروحي، ومن هذا الفضول بدأت الدائرة الأولى في الاكتمال من حولي.

2. «الجمعة» يزيدني تعلقًا وفهمًا

إنه لا يمثل الحنين لأكثر ذكريات العمر عذوبة فحسب، إنه اليوم الذي كنت أنتظره لأفهم ما رآه الكبار أكبر من استيعاب طفل مثلي آنذاك، بينما أزداد نهمًا لحلاوة البيان ولذة الفهم.

لكل آية يفسرها الشيخ «الشعراوي» فيتبعها الحاضرون أمامه: الله، فتح الله عليك.. وغيرها من الكلمات التي كانت تملأ الأجواء والقلوب فرحة وبهجة. تلك القلوب التي لم يمنعها أصحابها من لذة المعرفة وحلاوة الإيمان. لكم وددت أن أكون بين هؤلاء الحاضرين؛ لأسمع منه دون انقطاع، وكم وددت أن أفهم كل آيات القرآن بتلك الطريقة السهلة البسيطة، وأعيش معها ما تبقى من عمري.

3. بين الأعمال التاريخية والرسوم المتحركة

لم يكن من الغريب على ذلك الطفل أن يجد في الرسوم المتحركة المدبلجة بلغة عربية سهلة؛ لذة أخرى غير تلك التي وجدها بقية الأطفال، ولم يكن من الغريب أيضًا أن يستمتع دون كثير من الكبار بمشاهدة الأعمال التاريخية، بالرغم من إمكاناتها من حيث المؤثرات والتجهيزات، ولكن ما كان يبهرني، وما يزال يبهرني، هو تلك الأجواء بين الخلفاء والأدباء والعلماء، بفصاحتهم وقصصهم الآسرة: «عمر بن عبد العزيز»، «هارون الرشيد»، «عصر الأئمة»، وغيرها كثير.

لقد رسخت هذه الأعمال في نفسي ثلاثة أمور: كان أولها، توسط هذه اللغة بين اللغة العالية للقرآن واللغة البسيطة للرسوم المتحركة. ثانيها، يتمثل في سماع بعض الكلمات في أكثر من سياق، أو لنقل في سياقات أسهل، أما الأمر الثالث، فقد تمثل في جذبي إلى محور دوائر السحر السبعة، وهو تاريخ الأدب.

4. الأدب المترجم

إن الاطلاع على تلك الروايات صغيرة الحجم ذائعة الشهرة، مثل «دايفيد كوبر فيلد»، و«الآمال الكبرى»، و«قصة مدينتين»، و«أوليفر تويست»؛ كان فرصة ذهبية لا تعوض حينما أتى أخي الأكبر مني بذلك الكيس المملوء بالتعاويذ الجديدة القوية من مكتبة الأسرة. لقد قرأت قدر ما أستطيع قبل أن يعيد أخي الكيس الذي كان قد استعاره من صديقه، إلا أن تأثير هذه التعاويذ تأجل لصعوبة توفر هذه الروايات، حتى وجدت في مكتبة المدرسة الثانوية ما أشبع به نهمي، فقرأت المزيد من الروايات والقصص العالمية مثل «مونفليت»، و«شبح باسكرفيل»، و«جزيرة الدكتور مورو».

لقد كنت شديد الشغف بقراءة المزيد من القصص والروايات، التي تأخذني عبر الزمان والمكان إلى حيث لم تر عيناي، ولم يتصورها عقلي، إنها تلك اللذة بالدخول إلى عالم آخر بسرعة قراءتي لسطور القصة، وكأن عصًا سحرية قد نقلتني في طرفة عين إلى أسر الدائرة الرابعة، ومنها إلى ما يليها من دوائر.

5. شعرٌ أجمل مما ندرسه

لقد كنت أتأكد يومًا بعد يومٍ أن ما ندرسه من أدب بصفة عامة، ومن شعر تحديدًا، تعد نماذج في منتهى القبح، بل هو العامل الرئيس في كره بعض الناس لهما، فلماذا ندرس هذا الشعر الركيك؟! ولماذا لا نختار نصوصًا أفضل؟ ولماذا لا تعرض النصوص عرضًا مشوقًا نعرف منه المناسبة الحقيقية لكل نص؟!

لقد بحثت عن الدرر بنفسي، وبدأت باكتشاف تكملة بعض القصائد التي ندرسها، ودائمًا ما أعجبتني الأبيات التي لم يخترها الكتاب المقرر، وكذلك فعلت مع الشعراء، تكوّن لدي مختارات خاصة من الأشعار التي كتبتها بخط يدي في دفتر خاص، ولكم فـُتنت بأشعار «شوقي»، و«حافظ إبراهيم»، و«أبي نواس»، و«البارودي»، وغيرهم.

لقد كتبت وأعدت مرارًا قصيدة شوقي الرشيقة: «مضناك جفاه مرقده»، ودائمًا ما كنت أكرر منها:

يستهوي الوُرْق تأوُّهه ويذيب الصخرَ تنهُّدهُ ويناجي النجمَ ويُتعبه ويُقيم الليلَ ويُقْعِدهُ ويعلم كلَّ مُطوَّقة ٍ شجنًا في الدَّوحِ تُردِّدهُ..
وأسترجع حوار «أبي نواس» الممتع مع خمره:
فاسْتوحشَتْ، وبكتْ في الدّنّ قائلةً: يا أُمُّ ويحكِ، أخشى النّار والّلهبَ فقلتُ: لا تَحْذَريه عندنا أبدًا قالتْ: «ولا الشمسَ؟» قلتُ: «الحرّ قد ذهبا».
وقول «البارودي» راثيًا زوجته:
لَوْ كَانَ هَذَا الدَّهْرُ يَقْبَلُ فِدْيَةً بِالنَّفْسِ عَنْكِ لَكُنْتُ أَوَّلَ فَادِي أَوْ كَانَ يَرْهَبُ صَوْلَةً مِنْ فَاتِكٍ لَفَعَلْتُ فِعْلَ الْحَارِثِ بْنِ عُبَادِ

وبعد ذلك عرفت «الحارث بن عُباد» وقصته، وعرفت لماذا ذكره البارودي في هذا الموضع، وعرفت قصة هذا الرجل الذي يحاور خمره، وعرفت لماذا يتغير أسلوب أمير الشعراء في بعض القصائد؛ فلقد كان ذلك في الدائرة السادسة.

6. مع «المتنبي» وهؤلاء

إن دراسة ما أهواه كان وما يزال أمرًا مسلّمًا به، وقناعة لا تتغير في عقلي، ولا تستطيع روحي أن تتحمل خلاف ذلك؛ لهذا لا يمكن أن أندم على قرارٍ كهذا يومًا ما، رغم أنه لم يكن كما تخيلت وتمنيت، فدراسة اللغة العربية وآدابها مثل أي دراسة في وطننا، تسير – في معظمها – تأديةً للواجب من الطرفين، خلف مناهج وضعها أجيال لن ترضى – إذا أعيدوا إلى الحياة – عما وضعوه ولم تمتد إليه يد التطوير، ولم ترعه عين الإنصاف والتدبر، فعرفت من فوري أنه يجب عليّ صنع عالمي، وتكوين ثقافتي الخاصة، التي جعلت أساسها ما ندرسه، ما عدا بضعة أشياء، منها تلك الشخصية التي شغلتني لسنوات، كما شغلت الأستاذ «محمود شاكر»، فقال جملته الأشهر:

لكنني لم أندم أيضًا على الافتتان بالمتنبي بشخصيته وشعره، وبينما درسنا النقد كاملًا، ولا سيما النقد القديم، إضافة إلى الأدب بعصوره وشعرائه، سقط المتنبي سهوًا من تلك المقررات بقرنه الرابع الهجري بأكمله، وكأنه كان معاديًا لسياسات قسم اللغة العربية آنذاك، فزاد تعلقي به، وتعجبت كيف ينسون شاعر اللغة العربية الأول؟ أم كيف ينسون مَن «نظر الأعمى إلى أدبه» ومَن «ملأ الدنيا وشغل الناس»؟!

لعلّني لم أنتظر إجابات عن تساؤلاتي، بل حمدت الله أن أفسحوا لي الوقت لأدرسه على طريقتي، إضافة إلى كل ما ندرسه من شعراء عظماء مثل «بشار بن برد»، و«أبي تمام»، و«البحتري»، وغيرهم؛ حتى أتهيأ لدائرة السحر الأصعب.

7. بين الأدب المقارن والخيال العلمي

المتنبي.. ليتني لم أعرفه.

لقد سنحت الفرصة أخيرًا لأعود إلى افتتاني القديم بالأدب الغربي الراقي، ولكنني كنت هذه المرة قد ملأت قلبي وروحي بما درسته في الأدب العربي والنقد، وبعد أن تعرفت إلى أعمال أديب أمريكي عبقري هو «إدجار آلان بو»، فتمكنت بعد معاناة من تسجيل موضوع الماجستير عن تأثره بالأدب العربي والإسلامي كما لم يرد بعض الأساتذة، ومع تأثره، تأثيره في الأدب العربي كما لم أرد أنا، ولكني اجتزت كل ذلك في النهاية.

ورغم غرابة الموضوع وعالم «بو» الساحر الغريب، لكن الدائرة السابعة لم تزدد إثارة إلا بموضوع أغرب عن أبعاد الزمان والمكان في رواية الخيال العلمي، ذلك النوع الأدبي الذي يجذب معظم الفئات العمرية، بينما ما يزال بعض الأساتذة الأكاديميين يتوجسون منه خيفةً، وينظرون إليه نظرة إنكار وتعجب، وبخاصة لأول باحث يرونه مُقدمًا على تقديم رسالة فيه لنيل الدكتوراه، ولا يدرون أنه قد وجد في دوائر سحر الأدب السبع ما لم يجده أكثرهم أو ربما تناسوه.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.