في صباح الواحد والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000، كانت الشرطة الكتالونية تنتشر في محيط ملعب «كامب نو». تأمل أن يمر هذا اليوم في سلام: المناسبة هي الكلاسيكو الإسباني الذي سيحتضنه بعد سويعات أكبر ملاعب أوروبا، لكنه الليلة يختلف كثيرًا عن أي كلاسيكو سابق.

في تلك الأثناء، كانت جماهير برشلونة تضع اللمسات الأخيرة استعدادًا لمباراة أرادوا ألا تمر مرور الكرام. في البداية قاموا بتوزيع أنفسهم جيدًا، فانتظر بعضهم طائرة مدريد في مطار برشلونة، واصطفّ بعضهم على جانبي الطريق الذي سيحمل حافلة الميرنجي، وملأ بعضهم جنبات الملعب، وكانوا كلهم مسلحين بالهتافات العدائية والطوب والزجاجات الفارغة. كل هؤلاء جاءوا يستهدفون «لويس فيجو»، أو كما أطلقوا عليه ليلتها: «يهوذا».

فيجو لم يخن المسيح، لكنه اختار، في أوج تألقه، الانتقال للغريم الأزلي: ريال مدريد. هو الآن يتجول من بين جماهير كتالونيا مرتديًا للمرة الأولى القميص الأبيض، ويمكنه بوضوح سماع إيقاع صافرات الاستهجان يرتفع كلما قطع خطوة باتجاه عشب الملعب، حتى كادت الصافرات أن تصم أذنه بمجرد أن ظهر طيفه للعيان. هنا وقبل ثلاثة أشهر فقط، اعتاد لويس أن يستمع لتلك الجماهير وهي تغني وتهتف له. كان قديسًا قبل أن يصير في عيونهم يهوذا.

هناك قائمة من اللاعبين الذين لعبوا لطرفي الكلاسيكو، كان أبرزهم «رونالدو الظاهرة»، و«خافيير سافيولا»، وبالطبع «صامويل إيتو». لكن انتقال أحد من هؤلاء اللاعبين من ناديه إلى الغريم لم يكن له الصدى الواسع، ولم يحدث حالة الجدل الكبرى التي أحدثها انتقال فيجو، هذا الانتقال الذي تم التخطيط له داخل حفل زفاف!


فيجو هو المستقبل

يعرف أي متابع للكرة الأوروبية مدى نجاح أكاديمية سبورتنج لشبونة في إعداد لاعبين رائعين في الشق الهجومي، وتحديدًا في مركز لاعب الطرف. يكفي هذه الأكاديمية أنها قدمت كلاً من «كرستيانو رونالدو»، «ريكاردو كواريسما»، و«ناني»، لكن قبل هؤلاء قدمت لشبونة للعالم لويس فيجو.

بعد تصعيده للفريق الأول في سن 17، تمكن من لفت الأنظار إليه سريعًا، إذ امتلك إمكانيات فنية أهلته ليكون لاعب جناح رائعًا، يتميز بقدرة فائقة على مراوغة دفاعات الخصوم، وصناعة الفرص بتمريراته وعرضياته المتقنة، هذا بالإضافة لشخصيته التي بدت دومًا أنضج من سنه، يكفيك معرفة إجابة قائد خط دفاع الملكي، «مانويل سانشيز»، عندما سُئل عن أكثر لاعب أرهقه في الملعب، وهنا لم يتردد الأخير في الإجابة باسم الصغير فيجو عندما حل لشبونة ضيفًا على الميرنجي في البرنابيو، أجاب باسم فيجو قبل مارادونا شخصيًا!

ذاع صيت الشاب البرتغالي قبل أن يتم عامه الـ23، فسعت أندية يوفنتوس وبارما للتعاقد معه، لكن عرّاب برشلونة «يوهان كرويف» كان أكثر منهم رغبة في الحصول على خدماته. كان الهولندي يشغل منصب مدرب الكتلان آنذاك، لكنه لم يكن يعيش أفضل أيامه معهم، وكان يدرك أنه على وشك الإقالة أو الاستقالة، إلا أنه رغم ذلك كان يرى أن الشاب هو أفضل استثمار تقوم به إدارة النادي في المستقبل.

انتقل لويس للبرسا صيف عام 1995 بقيمة 2.5 مليون يورو، وشارك في موسمه الأول رفقة كرويف قبل أن يرحل ويحل مكانه المدرب الإنجليزي «بوبي روبسون».


رجل برشلونة الأول

عندما جاء روبسون لقيادة النادي الكتالوني عام 1996، كانت مهمته أوضح ما تكون، حيث مروا بموسم كارثي بنهاية حقبة كرويف، وفشل الفريق في الفوز بأي بطولة، لذلك كان على الإنجليزي بناء قوام جديد يزاحم به الميرينجي، وقد شكّل فيجو عنصرًا رئيسًا في ذلك القوام إلى جانب الانتدابات التي أجراها الكتلان.

في ذلك الموسم، تضاعفت فاعلية الوافد الشاب، وارتبط اسمه بلحظات الحسم في الأوقات الصعبة. صحيح أن الظاهرة كان يقدم موسمًا استثنائيًا، لكن ذلك لم يمنع فيجو من ترك بصمته. حيث نجح البرتغالي في تسجيل وصناعة أهداف في كل البطولات التي فازت بها برشلونة سواء بالسوبر الإسباني، الكأس المحلي، أو كأس الكؤوس الأوروبية.

لم يكن ذلك سوى انطلاقة لويس فيجو مع برشلونة، فبحلول صيف 1997 ومع رحيل رونالدو للإنتر والإتيان بـ«فان خال» بدلًا من روبسون، تحول الرقم 7 ليكون رجل برشلونة الأول، يكفي أنهم منحوه شارة قيادة الفريق وهو ابن الرابعة والعشرين فقط.

كوّن البرتغالي مع زميله البرازيلي الجديد «ريفالدو» ثنائية رائعة، وبدا متوافقًا أول الأمر مع المدرب الهولندي الذي كان يأمل في الاستفادة من قدراتهما للفوز بالليجا الإسبانية بعد ثلاثة مواسم من المحاولات الفاشلة. لم يخيب أحد منهما ظن مدربه. فأنهى ريفالدو الموسم كهداف للفريق، وقاد فيجو البلوجرانا للفوز ببطولتي الليجا والكأس.

عاش موسمين من التألق وسط أجواء جماهيرية مشجعة. كانت صوره تملأ مدرجات الملعب، وتنتشر قمصانه في أرجاء كتالونيا، شعر فعلًا بالانتماء لهذا المكان، حتى أنه كان يعشق الطعام الياباني هناك، فأقدم على افتتاح مثيله في الإقليم الساعي للانفصال عن إسبانيا.

مع نهاية هذين الموسمين، كان هناك أمران يسعى إليهما فيجو بموسم 1999/2000؛ الأول هو تحقيق المجد الأوروبي والفوز بدوري الأبطال، والثاني هو الحصول على عقد جديد مع برشلونة يضمن له راتبًا أفضل.

خلال تلك النقطة الزمنية، كان اسمه قد برز بوضوح في قائمة أفضل لاعبي العالم، وأراد أن يقطع شوطًا في ذلك السباق بقيادة برشلونة نحو منصة التتويج الأوروبي، خصوصًا وأن البلوجرانا لم يملك آنذاك تاريخًا كبيرًا في المنافسة على البطولة القارية الأهم. في الوقت ذاته، كان فيجو يدرك القيمة الكبيرة التي يمثلها في برشلونة فنيًا ومعنويًا، وأراد الاستفادة من وضعه بالحصول على تقدير مالي أكبر.


هيكتور كوبر يدمر أحلامه

كل شيء كان يسير على ما يرام حتى جاءت مباراة الفريق مع فالنسيا بنصف نهائي الـ«تشامبيونزليج». يرى «ستيفن سكراج»،المحرر بمجلة thesefootballtime s، أن هذه المباراة شكلت نقطة تحول لمسيرة فيجو مع برشلونة.

إذ غاب البرتغالي عن تلك المواجهة بعد تعرضه للإيقاف، فحضر في مدرجات ملعب الميستايا لمؤازرة رفاقه، لكن رفاقه كانوا على موعد مع خسارة مذلة بنتيجة 4/1 على يد لاعبي المدرب «هيكتور كوبر». صُعِق فيجو بالكيفية التي ودع بها برشلونة البطولة، وتفجرت الخلافات بينه وبين فان خال، وبدا للمرة الأولى غريبًا عن مملكته.

تعززت هذه الغربة عندما أخبره وكيله «جوزيه فيجا» أن الإدارة رفضت أن تعده براتب أفضل. كرر جوزيه طلبه على رئيس النادي «جوزيب نونيز»، فأخبره الأخير أن بإمكان لاعبه البحث عن الراتب في نادٍ آخر، فقط على أحدهم أن يدفع قيمة الشرط الجزائي له.

يقول لويس فيجو في حوار أجراه عام 2009 إن مشكلته ليست مع جمهور برشلونة إطلاقًا، بل مع مسئولي النادي الذي شعر بدرجة من درجات اللا مبالاة في تعاملهم معه. إذ كان يقدم أفضل العروض في الملعب، ويحقق للنادي انتصارات كبرى، لكنه عجز أن يحصل منهم على زيادة في راتبه. كانوا يعتقدون أنهم يمتلكونه، وأن بقاءه أمر مسلم به، فكان الانتقال الذي زلزل إسبانيا.


ألف مبروك

على الجانب الآخر، عاش ريال مدريد فترة تألق تحت ولاية الرئيس «لورينزو سانز»، إذ تمكن الفريق من الفوز ببطولتين من دوري الأبطال في آخر 3 نسخ منها. لذلك فعندما اقتربت انتخابات النادي، كان واثقًا من فوزه، لأن من المستحيل أن يعد أي مرشح آخر بما هو أكثر من ذلك، لكن المهندس المدني الثري «فلورنتينو بيريز»، الذي لمع اسمه حينها في قطاع العقارات، كان يخبئ لمنافسه ما لم يخطر على بال أحد.

في السادس من يوليو/تموز عام 2000، كان بيريز مدعوًا لحفل زفاف ابنة «سانز» على «ميشيل سلجادو». وأراد فلورنتينو استغلال تلك المناسبة في الترويج لنفسه، فاستقطب حوله عددًا كبيرًا من أعضاء النادي الذين يحق لهم التصويت بالانتخابات، و ألقى عليهم سؤالًا واحدًا: من هو اللاعب الذي تتمنون انتقاله لريال مدريد صباح الغد؟ أجاب بعض المدعوين: لويس فيجو بالطبع، هو الآن أفضل لاعب في العالم، لكن من المستحيل أن يترك الغريم برشلونة لصالحنا.

ابتسم بيريز بثقة، وقال جملة واحدة فقط: أنا أعدكم بلويس فيجو إذا تم انتخابي رئيسًا، قالها ثم انصرف بعد أن قلبت الاجابة الزفاف رأسًا على عقب.

هذا الوعد كان أمرًا مجنونًا، بل هو الجنون والخبل والفانتازيا مجتمعين. كان فلورنتينو وحده يعرف أن الأمر ممكن. فهو لم يأت صدفة، بل أتى بعد أن فتح بيريز خطوط اتصال عن طريق وسطاء مع الوكيل جوزيه فيجا. وعرف رجل الأعمال الظروف التي مر بها فيجو قبل أن يعرض عليه عرضًا لم يتمكن فيجو أو وكيله من رفضه.

أما لورينزو سانز فخرج يسخر من ذلك الوعد:

تصريح ساخر من لورينزو سانز رئيس ريال مدريد


جلاكتيكوس

تقولون إن فلورنتينو سيتعاقد مع لويس فيجو؟ فيجو كابتن برشلونة؟ حسنًا أود أن يتعاقد أيضًا مع الممثلة كلوديا شيفر. فأنا أحبها جدًا

بمرور الوقت، بدا أن وعد بيريز أمر حقيقي، خصوصًا بعدما أكد أنه توصل لصيغة تفاهم مع فيجو في الكواليس. وصيغة التفاهم تلك لم تكن سوى عقد أولي وقّع عليه نظير حصوله على 1.8 مليون يورو. سيكون لفيجو الحق في الاحتفاظ بذلك المبلغ الكبير إن خسر فلورنتينو الانتخابات دون الانتقال للريال، لكن إن فاز الأخير فعلى لويس الانتقال للميرنجي فورًا وإلا دفع مبلغ 19 مليون يورو كاملة لبيريز!

كان العرض مغريًا جدًا، خصوصًا وأن فرص بيريز لم تكن كبيرة، لكن فيجو لم يكن يعلم أن هو نفسه من سيرجح كفة بيريز بعد أن صدقه أعضاء الجمعية العمومية وقرروا انتخابه.

فاز بيريز في مفاجأة كبرى، ورفضت إدارة برشلونة دفع هذا المبلغ عن فيجو، فكان أن طار إلى ملعب السنتياجو برنابيو صباح الـ24 من أكتوبر/تشرين الأول ليتم إعلانه رسميًا لاعبًا في صفوف الريال، ليكون الصفقة الأولى في جلاكتيكوس الريال الذي ضم أيضًا زيدان، الظاهرة، وديفيد بيكهام.

في المقابل، لم يصدق جمهور برشلونة وزملاء لويس السابقين أعينهم وهم يطالعون الصور الواردة إليهم من العاصمة. كان الأمر أشبه بكابوس مفاجئ، فقد سلب منهم بيريز نجمهم الأول الذي صار اسمه منذ تلك اللحظة: يهوذا، يهوذا الذي خان برشلونة.