هل يحتاج الناس بالضرورة إلى من يحكمهم؟ وهل يمكن أن يعيش الناس في مجتمعاتهم المختلفة من غير أن يتولى بعضهم رئاسة بعض فيكونون بذلك جميعا سواسية ليس فيهم رئيس ومرؤوس؟

هذه الفكرة يطرحها السياسي والفيلسوف الفرنسي «مونتسكيو»[1] في كتابه «الرسائل الفارسية» حيث افترض أن الناس كانوا يعيشون جميعا في سلام ووئام، ولا يحتاجون إلى قائد ينظم أمورهم لما يتحلون جميعًا به من النضج والرشادة، التي تمكنهم من التصرف بالحكمة الكافية في كل الأمور.

ثم بدأت الشرور تظهر، وبدأت الانحرافات تبدو، فاحتاج الناس إلى انتخاب واختيار قادة لهم يثيبون المصيب، ويعاقبون المخطئ. وحسب مونتسكيو، فإن هذا الأمر من مظاهر عدم النضج الذي تعاني منه المجتمعات الإنسانية عامة، وأن البشر إذا تقدموا في درجات الرقي فإنهم يصبحون في غناء عن اختيار هؤلاء القادة والرؤساء.

وقد أجاب الشاعر العربي عن هذا السؤال –هل يحتاج الناس إلى من يحكمهم؟- بجواب جامع عام حيث قال:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة إذا جُهالهم سادوا

والسُراة هم القادة والموجهون للرأي والحركة في المجتمع، ولابد من وجودهم في أي مجتمع إنساني مع اتصافهم بالعلم والحكمة. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائد والموجه الأعلى للمجتمع المسلم. فكان يقوم المعوج، ويصحح الخطأ، ويضبط الأمور في نصابها مع بيان القواعد والضوابط والمعايير التي تنضبط بها الأمور، ليكون قوله صلى الله عليه وسلم في السنة مع قول الله سبحانه وتعالى في القرآن، هو المعرفة النظرية، والبناء الفكري للمجتمع الإسلامي.

ثم يكون فعله صلى الله عليه وسلم، أو إقراره الفعل إذا حصل في حضرته ولم يعترض عليه بمثابة التطبيق العملي لهذه المعرفة النظرية، والبناء الفكري. وقد سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خلقه القرآن» رواه البخاري في (الأدب المفرد) (308).

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، اضطربت أحوال الناس حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من هول الصدمة عليه رفع سيفه مهددًا من يقول إن رسول الله قد مات! وجعل يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذهب للقاء ربه، كما ذهب موسى للقاء ربه، وإنه سيعود فيقطع رقاب قوم يقولون إنه قد مات!

حتى جاء سيدنا أبو بكر مسرعًا فكشف عن وجهه وقبّله، وقال: «بأبي أنت وأمّي، طبتَ حيًا وميتًا»، ثم خرج وخطب بالنّاس قائلاً: ألا من كان يعبد محمدًا، فإنّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، وقرأ قول الله تعالى:

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} (سورة آل عمران: 144)

وهنا خبر عمر بن الخطاب على الأرض كأنه لأول مرة يسمع هذه الآية وعلم حينها أن الأمر حق. اجتمع الأنصار فورًا، وقبل أن يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة (مكان مظلل بجريد النخل وسعفه) في بستان لقوم من الأنصار يسمون ببني ساعدة، وتشاوروا حول من يتولى أمر الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فاقترحوا سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج وزعيمهم، واتفق على ذلك الأول والخزرج. وهنا يأتي سؤال مهم وهو: لماذا أسرع الأنصار بهذا الشكل إلى اختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألم يكن من الأنسب أن ينتظروا قليلًا حتى يتم تجهيز رسول الله ودفنه، ثم يجلس أهل المدينة جميعًا من أنصار ومهاجرين فيتشاورون فيما بينهم في اختيار الخليفة، أو حتى ينتظرون أن تأتي القبائل الأخرى لتشارك في عملية الاختيار هذه؟ ألا يعد تصرفهم هذا من باب المسارعة إلى الدنيا، وحرصهم عليها مع عدم شعورهم بالحزن على النبي صلى الله عليه وسلم؟

ما فعله الأنصار أمر نبيل شريف قصدهم منه ضبط أمور المدينة حتى لا تكون عرضة لكل طامع ظالم.

والجواب الجلي القريب من أذهان المنصفين والبعيد كل البعد عن أذهان وتصورات المغرضين المشككين أن الأمر أعجل من ذلك. فالقبائل العربية التي توحدت منذ فترة وجيزة تحت راية الإسلام، هم قوم حديثو عهد بشرك وجاهلية وارتدادهم عن الإسلام أمر متوقع تمامًا. وعبس وذبيان قبيلتان قريبتان من المدينة تأخر إسلامهم، فلو ارتدوا وأغاروا على المدينة، فمن ينظم أمر المسلمين ويقودهم في الحرب؟

وماذا لو قرر الفرس أو الروم استغلال لحظات الاضطراب في المدينة بعد رحيل القائد المعصوم صلى الله عليه وسلم، وعدم اختيار قائد آخر فقرروا الهجوم على المدينة؟

وماذا لو نقض يهود المدينة العهد على عادتهم وغدروا بالمسلمين وأحدثوا فتنة واضطرابا داخليا؟ وماذا لو اجتمع المنافقون فبايعوا واحدا منهم خليفة للنبي صلى الله عليه وسلم، أيقبل المسلمون بذلك ويحكمهم منافق؟ أم يشقون عصا الطاعة بعد أن يبايع بعض الناس لهذا الخليفة وينقسم المسلمون إلى أحزاب وفرق متناحرة متصارعة فور وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة يظهر لنا أن ما فعله الأنصار أمر نبيل شريف قصدهم منه ضبط أمور المدينة، حتى لا تكون عرضة لكل طامع ظالم. وأن إسراعهم بتنظيم أمور المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر من مناقبهم وفضائلهم، لأنهم صبروا على المصيبة، وحولوا حزنهم إلى سلوك إيجابي نافع لأنفسهم وللمجتمع.

فلم يقعدهم الحزن عن العمل الصالح، واجتهدوا في إجابة السؤال الذي يجب أن يسأله كل مسلم لنفسه عندما يقدم على فعل ما وهو: ماذا لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا اليوم أكان يسره فعلنا؟

ووفق اجتهاد الأنصار كان فعلهم هذا بمثابة حسن الاتباع والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظ الأمة من التفرق والتمزق والفتنة واضطراب الأمور. ولله در الأنصاري الشريف النبيل أنس بن النضر رضي الله عنه عندما علم يوم أحد بأمر الإشاعة التي انتشرت بين المسلمين فأقعدتهم عن الجهاد، وفتت في عضدهم، ووهنت بسببها عزيمتهم ومفادها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل ومات. فقال لإخوانه من الصحابة الذين يأسوا وتركوا الجهاد:

«إن كان رسول الله قد مات فقوموا وقاتلوا على ما مات عليه رسول الله». فانطلق يشق صفوف المشركين قائلاً: «اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعنى أصحابه)، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعنى المشركين)»

وانطلق في القتال حتى لقي ربه شهيدًا وهو يردد: «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»، ولم تكن قد نزلت هذه الآية بعد، فنزل القرآن الكريم موافقًا لقوله رضي الله عنه.

هذا إذن شأن الأنصار رضي الله عنهم أنهم يحولون الحزن إلى سلوك عملي نافع ولا تثبط المصائب عزيمتهم المتقدة القوية، وعليه فقد اجتمعوا ليحسموا الأمر سريعا وينظموا شأن المجتمع الإسلامي حتى يكون مستعدا لأي أخطار داخلية أو خارجية قد تهدد المدينة المنورة بهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو: لماذا اجتمع الأنصار وحدهم وفي سقيفة بني ساعدة التي تقع في حي من أحيائهم ولم يجتمعوا في المسجد النبوي ولم يقوموا بدعوة المهاجرين لحضور هذا الاجتماع؟ وماذا كانت ردة فعل المهاجرين تجاه هذا الأمر؟

هذا ما نحاول الإجابة عنه في اللقاء المقبل إن شاء الله تعالى… وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.

المراجع
  1. شارل لوي دي سيكوندا المعروف باسم «مونتيسكيو – Montesquieu»، فيلسوف وسياسي فرنسي، صاحب نظرية فصل السلطات الذي تعتمده غالبية الأنظمة السياسية حاليًا.