يعتبر هذا السؤال من أكثر الأسئلة المربكة التي قد تسمعها في حياتك، والإجابة الدارجة هي من أكثر الإجابات وهمية، فالإجابة هي عادة أنه لا يوجد إنتاج ضخم؛ بل وسمعت نصائح وتمنيات منذ صغري، سواء من جماهير السينما في المنتديات أو الفنانين، بضرورة تعاون الشركات المنتجة ورأس المال الخليجي والجيش المصري والجيش السوري (قبل الثورة) في الإنتاج، لنستطيع عمل فيلم ينافس على جائزة الأوسكار، وأن فيلم يوسف شاهين «الناصر صلاح الدين» كان سيأخذ جائزة الأوسكار لولا أنهم وجدوا ساعة في يد أحد الكومبارس.

الحقيقة التي لا يعملها أغلب المصريين أن فيلم يوسف شاهين لم يرشح لأي جائزة أوسكار، وأن بمتابعة صفحة الفيلم على موقع «imdb» ستجد أنه لم يترشح لأي جائزة، ولو كان يستحق أن يأخذ جائزة الأوسكار كانت ستعطى له حتى لو كان خطأ الساعة ظاهرًا بشكل فج.

اقرأ أيضا:عبد الناصر صلاح الدين: ما لم يخبرنا به يوسف زيدان

الحقيقة الثانية أن الجيشين المصري والسوري، ورأس المال الخليجي، ومواقع التصوير المغربية، لو اجتمعوا لإنتاج فيلم لن يأخذ الأوسكار إلا إذا تحققت فيه معايير من الممكن أن تتواجد في فيلم لا يتعدى إنتاجه 10 ملايين جنيه مصري.

ربما يكون سبب هذا الوهم الخاطئ هو سماعهم عن الجوائز التي حصل عليها فيلم «تيتانك»، وفيلم «سيد الخواتم» بحكم شهرة الفلمين، ولكنهم لم يسمعوا عن بقية الأفلام التي حصلت علي جوائز الأوسكار والتي أغلبها متوسطة الإنتاج إلى رشيدة الإنتاج.

الحقيقة أن هناك العديد من الأسباب التي قد تجعلك تنافس علي جوائز الأوسكار بسهولة، وهي متاحة في ظل الإمكانيات المادية المتاحة حاليا، ولكن هناك إمكانيات أخرى غير متاحة وأغلبها ليست مالية يجب أن نصنعها لتحصل مصر على جائزة الأوسكار.


التعليم

لكي نعلم الأسباب الحقيقة علينا أن نصل لأول الخيط، وهو طبيعة التعليم، كيف يؤثر التعليم ما قبل الجامعي بشكل أخص على السينما. ليس المقصود بالتعليم الحجة المبتذلة الخاصة لاستسهال كل شيء وإرجاع كل فشل للتعليم (وإن كانت هذه الحجة صحيحة بطريقة أو أخرى)، ولكن أتحدث عن التعليم الذي يضع نمط تفكير الأجيال المتلقية له. لنعقدُ مقارنة بين الطالب الفاشل الأمريكي الذي يجتاز الاختبارات بصعوبة والطالب المصري النجيب.

نمط التعليم والبنية الفكرية لأفراد المجتمع التي يخرج منها الفنانون لا تعلم ولا تعرف كيف تمارس التفلسف أو النظر للحياة

الطالب المصري الذي التهم المواد بنهم لم تمر عليه قبل ذلك سيرة الفلسفة، لم يتدرب قبل ذلك على السياسة وأفكارها، أفكاره حدودها الدائمة محددات التعليم المصري، نجد أن الأجيال الأخيرة خصوصا ممن تلقوا تعليمهم في عصر «عبد الناصر»، ومن بعده من الرؤساء اعتادوا على نفس الطريقة في التعليم المضادة للتفلسف -التفلسف بمعناه العام أو بمعنى النظر للحياة وجدواها ومساراتها بعمق- والسياسة بكل تأكيد والتاريخ، فلم يعد التاريخ سوى ما يراه الرؤساء من بطولات عظيمة في تاريخ مصر، واللحظة المقدسة التي خلقنا من أجلها وسنبعث من وسط الهزائم وسننتصر على الكافرين أو الأعداء. الجملة الأخيرة هذه هي المعبرة لملخص التعليم المصري في مواده الاجتماعية.

أما التعليم الأوربي والأمريكي، فالطلبة العاديون قليلو الموهبة المتعلمون في مدارس دنيا؛ قد تلقوا بحكم طبيعة التعليم مبادئ في الفلسفة والسياسة والتاريخ، حتى ولو قُدمت لهم بطريقة تصب في الاتجاه المحافظ.

فنجد أن معرفة أي طالب لبعض الفلسفة في باطن عقله أمر طبيعي، بعض الطلاب الذين لم ينجحوا في الدراسة يستطيعون صناعة بعض أنواع المخدرات بطريقة كيميائة بالمبادئ الطبيعية التي تعلموها في المدرسة، أما الطالب المصري النابغ في مادة الكيمياء فهو لا يعرف عن الكيمياء إلا معادلات ولم يرَ في خياله أساسا حتى تلك التجربة، فلو وضعت في يده المواد فجأة وقيل له طبق المعادلة سيصاب بالذعر.

المقصد أن البنية الفكرية للمجتمع المصري مضادة للتفلسف ونظريات السياسة والتاريخ، وبالتالي هذا يصنع ندرة في صُنّاع السينما الذين يعلمون بعض الأفكار عن الفلسفة أو السياسة أو التاريخ، من يمتلكون هذه المعرفة نادرون، وأيضا مهما بلغت روعة فنِّهم؛ كانت محددة ببعض الأشياء أيضا التي لم يخرج العقل المصري عليها، سيتم التعرض لها لاحقا.

نمط التعليم والبنية الفكرية لأفراد المجتمع التي يخرج منها الفنانون لا تعلم ولا تعرف كيف تمارس التفلسف أو النظر للحياة، الفن المصري في أغلبه وخصوصا السينما يمارس الدور الخدمي، كما هو نمط دولة يوليو/تموز في كل شيء، فأعظم ما قد يصل إليه العقل الفني المصري (باستثناء القليلين الذين لم يخرجوا كثيرا عن القيود) هو مناقشة بعض المشاكل الاجتماعية بطريقة هشة، والرومانسية بطريقة هشة، أما الأفلام الكوميدية فمنتهاها السخرية على بعض نماذج الشخصيات في المجتمع، أو في حالة التمرد الشديد يتم السخرية من رموز الحكم حسب درجة سماح رموز الحكم بذلك.

أما أفلام الإثارة والأكشن فلم يتعدَّ حتى أكثر المبدعين في السينما أو الدراما المصرية مرحلة الضرب، أو يقوم عادة (على طريقة «عمرو سمير عاطف» في مسلسلاته) بمفاجأة المشاهد أن كل الشخصيات ليست على طبيعتها، وأن الشخص الذي ظهر في الحلقة الأولى ولم تنتبه له هو الذي يقود المصائب (كأنه هكذا قام بإبهار المشاهد!).

سأستمر مع عمرو سمير عاطف كمثال لمن يقوم بكتابة مسلسلات بوليسية وتشويقية. بحكم نوعية هذه المسلسلات فأنت يجب أن يكون لك بعض المعرفة السياسية والتاريخية، وعمرو سمير عاطف كذلك يتبنى موقفا معارضا من نظام الحكم، ويعتبر أحد أكثر المؤلفين إبداعا حاليا، والوحيد القادر على كتابة مسلسل تشويقي كل عام.

تابع صفحة عمرو سمير عاطف وأسباب معارضته لنظام الحكم الحالي، ستجد أن معرفته السياسية مسيرة للشفقة فهي لم تتعدَ مرحلة أنَّ النظام يعيد طريقة حكم مبارك وغيرها من تلك الشعارات التي تنم عن عدم وجود أية رؤية نقدية سياسية أساسا، وأن الأمر لا يتعدى عدم الارتياح النفسي وبعض المعارضات الشعبوية. هذا نموذج صارخ على المبدعين.


دولة يوليو والإسلام السياسي

منذ انقلاب 1952، وكان قادة الانقلاب المؤسسين لدولة يوليو/تموز التي ظلت مستمرة حتى الآن، يمتلكون تصورا خاصا بهم عن الفن، تصورا شديد المحافظة، ويشترك في العموم معهم أغلب الإسلاميين في هذه الرؤى: أن الفن غرضه الوحيد تقديم دروس تعليمية ونشر القيم الحميدة والأخلاق القويمة ونشر رسالة الدولة أو على الأقل عدم مخالفتها.

يقول «جمال عبد الناصر» الرمز الأكبر لهذه الدولة، أن معيار القبول رقابيا هو: «هل الفيلم يخدم المصالح الشعبية؟»، ثم يعقبها بقوله:

فكما تم التوضيح أن رؤية السلطة للفن والتي ما زالت مستمرة؛ رؤية شديدة التقييد للفن وإطلاق أفكاره وفلسفته وحرية الإبداع؛ بل مع الوقت تم الترويج لمفهوم شعبي سلبي لمعنى حرية الإبداع، وظلت المحاربة الرسمية وتقييد الفن وتوجيهه سلطويا من قبل الدولة.

ومع الوقت انضم إلى عملية المحاربة الشعبية أغلب قوى الإسلام السياسي. ربما اتفقوا على أن على الفن الدعوة لنفس المبادئ تقريبا؛ الفرق أن السلطة بطابعها العلماني تسمح بهامش حرية شكلي (حرية الزي – الرقص – التقبيل) واختلف معها الإسلام السياسي في ذلك. بالتدريج، بالإضافة لمشكلة التعليم وتكون الطبقة الوسطي المصرية بصورة مشوهة، ولد فنانون محدودو الرؤية، قليلو المعرفة، شديدو المحافظة (وإن كان يبدو شكليًا عكس ذلك). والفنانون منهم حقا لديهم تلك الرؤية النمطية للفن.


ربط العمق (الفلسفة) بالجدية

الاستثناءات كانت متواجدة بكل تأكيد، ولكنهم تأثروا بهذه العوامل. فالمبدعون القلائل الذين امتلكوا رؤية فلسفية ونظرة لحياة الإنسان ونقدا للسلطة السياسة ظلت أغلب أعمالهم ذات طابع جدي. اقترنت الفلسفة بالجدية بل، وأكثر من ذلك، باللامفهوم؛ كأن هناك حكما أخلاقيا أنه يجب على الأفلام التي تنظر للإنسان والفلسفة والسياسة ألا تكون أفلاما كوميدية مثلا، أو أفلام حركة وأكشن.

استثمار الأفكار والفلسفة لم يتواجد في السينما المصرية كما تواجد في السينما الأمريكية. فمن السهل في أمريكا أن ترى فيلم كوميك تجاريا جاذبا للكثير من الفئات العمرية مثل: «The dark knigt»، و«Fight club»، وفنتازي مثل «Lord of rings»، وخيالي مثل «Inception»، ينطوي على فلسفة وانتقادات للمجتمع الحديث وحياة الإنسان والثورة الصناعية بالإضافة لسهولة إيجاد نقطة سياسية أو عنوان سياسي لفيلم تجاري بحت.

نتكلم عن هذه الأفلام ولم نتحدث عن «تارنتينو» مثلا. فهناك يقبلونه كمخرج له فلسفة ويتحدث عن الإنسان بطريقة شديدة الجنون. بينما إن أردت أن تقنع مبدعا مصريا بذلك سيتهمك بتحميل الأمور بأكثر مما تحتمل. هذه كلها نماذج لعملية التقيد التي تمت بالتعليم والرؤية السياسية التي عادت بشكل مباشر على السينما، وبالتالي أصبحت السينما المصرية شديدة التقليدية لا تقدم جديدا، حتى أشد مبدعيها كانوا مقيدين برؤية ما، جدية، برغم محاولاتهم الخروج من هذا النفق المظلم للسينما.


النهاية

ربما بدت الأعمال التي تستند إلى هذه المبادئ: السلام، العمل، الأمل.. إلخ، فجة أو مفتعلة في البداية. لكن الإصرار على تضمين أعمالنا الفنية المختلفة هذه المبادئ، سيحل شيئا فشيئا المشاكل الفنية الخاصة بعملية التجسيد الفني المقنع لأسلوب الحياة في المجتمع الجديد. إن إغلاق الأبواب أمام المبادئ الضارة وفتحها أمام المبادئ المؤيدة للإنسان لا يلبث أن يجتذب لأعمالنا الفنية الجديدة مواهب خلاقة.

هذا المقال لا يتحدث عن عدم الفوز بجائزة الأوسكار بشكل خاص، بل يأخذ من قضية الترشح للأوسكار رمزا لناتج ما، تعانيه السينما المصرية والأصول الاجتماعية التي هي أوسع من السينما فقط. الأزمة التي تتمثل في عملية التسفيه منذ اللحظات الأولي للعقول المصرية والحد من التفلسف (ونؤكد ليس التفلسف بالمعنى الحرفي للكلمة بل بمعنى الرؤية الواقعية الجيدة للحياة وما تعانيه) وسط المجتمع الذي ينعكس بدوره على عقلية المبدع.

بالإضافة لعملية الرقابة وخلق مفاهيم خاطئة عن الفن والتي تؤثر حتى على المبدعين. في النهاية الحل يكمن في قيام جيل جديد من المبدعين لهم رؤية ما ويعلمون هذه المشاكل جيدا، ومحاولة إيجاد طرق إنتاج جديدة لهذه السينما الجديدة التي يجب أن تبدأ.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.