كان من أعظم الخير الذي أكرم الله تعالى به الخلق أن بعث إليهم رسولا من أنفسهم عزيز عليه ما عنتوا حريص عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فأنقذهم الله تعالى بهذا النبي من الجهل إلى العلم وأخرجهم به من الظلمات إلى النور فأصبحوا أمة عظيمة تهابها الدنيا.

بعدما كانوا أشتاتا متفرقين فيهم من العصبية وحمية الجاهلية المفرقة لا المجمعة ما فيهم، وربى رسول الله «صلى الله عليه وسلم» أصحابه على الهدى والنور ودين الحق الذي جاء به إلى أن أوشكت مهمته الشريفة في الأرض على الانتهاء فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يهيئ أصحابه لقرب رحيله عنهم فكان من ذلك ما يرويه سيدنا أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ”. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمُنَا بِهِ

وكان من تهيئة الله لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص هذا الحدث الجليل الذي سيقبلون عليه وهو رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم جاء قول الله سبحانه وتعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، ففرح الصحابة بها واستبشروا لكن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بكى حين سمعها وذلك أنه فهم أن الله ينعي نبيه لأن إتمام الدين بمعنى إتمام الرسالة المطلوب تبليغها للناس معناه أن دور مبلغ الرسالة قد انتهى في الدنيا وكان هذا من علمه العميق رضي الله تعالى عنه ووقوفه مع كتاب الله تعالى تأملا واستهداء.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بقرب أجله وكان أشد ما يخافه على الأمة من بعده أن تُفتن وتضل وتتفرق بها سبل الشيطان عن صراط الله المستقيم، فكان صلى الله عليه وسلم يحذر من الفتن وعلى رأسها فتنة الكفر وفتنة سفك دماء المسلمين وفتنة أكل أموالهم بالباطل وفتنة ظلم النساء والضعفاء في المجتمع وفتنة النساء للرجال والرجال للنساء وفتنة ترك الصلاة.

وهذه الأمور الخطيرة من أهم أسباب انهيار المجتمعات لذلك حذر الله تعالى منها وحذر منها النبي صلى الله عليه وسلم وخاف على الأمة من بعده أن تقع في واحدة منها أو فيها جميعا، ومع ذلك فقد أغوى الشيطان بعض المسلمين في اتباع سبله المتفرقة التي شتت الأمة وأوقعتها في ظلمات هذه الفتن.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى أخبرنا في حديث شديد الخطورة لو تأمله المسلمون أن هذه الأمة ستقع في نفس أخطاء الأمم السابقة تقريبا وذلك في حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: لَتَتّبِعُنّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، حَتّىَ لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لاَتّبَعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ آلْيَهُود وَالنّصَارَىَ؟ قَالَ: فَمَنْ؟

البخاري:كتاب الاعتصام، ومسلم: كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسَ وَالرُّومِ فَقَالَ وَمَنْ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِك
البخاري: كتاب الاعتصام

وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تتفرق الأمة كما تفرقت الأمم من قبل فقال عليه الصلاة والسلام:

افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي.

رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم

ومن أكثر الأمور التي تفرق بين الناس وتفسد الود والإخاء مسألة الحكم والسياسة والإمارة والرياسة كما قال بعض العارفين: «آخر ما يخرج من قلوب الصالحين حب الرئاسة»، ومع ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدد من هو الخليفة الذي سيحكم المسلمين من بعده مع ما لهذا الموضوع من أهمية بالغة فلماذا ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة من غير أن يحسم هذا الموضوع الذي قد يثير الكثير من الحساسيات أو الصراعات بين المسلمين؟

ولإجابة هذا السؤال ينبغي أن نعرف أن منهج النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بأمر السياسة هو وضع الأطر الحاكمة والقواعد الكلية وترك التفاصيل للأمة تدبرها وتجتهد بشأنها حسب ما يتجدد في واقعها من أحداث، واجتهادها هذا في إطار نصوص الوحي الشريف قرآنا وسنة يجعل للمصيب من المجتهدين أجران وللمخطئ أجر واحد.

وقد كان الصحابة يجتهدون في فهم نصوص الوحي وتنزيلها على الوقائع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث معاذا إلى اليمن قال كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله قال أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله.

وقد أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا «تمرا رديئا» فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا، قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم.

وقد بوب له النووي في شرحه على صحيح مسلم فقال: باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سيبل الرأي.اهـ

ومن ذلك نعرف أن الإسلام يعطي أتباعه القيم العليا التي يجب عليهم تمثلها والالتزام بها ثم يترك لهم باب الاجتهاد مفتوحا لاختيار ما يناسب واقعهم وحال دنياهم، وأمر الحكم والسياسة كذلك فلو عين رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو الخليفة من بعده لكان هذا هو النظام الإسلامي في اختيار الخلفاء أنه يجب على كل خليفة أن يختار من يخلفه إذا مات ولا يكون للأمة من أمر اختيار من يحكمها شيء، وإذا كان هذا مقبولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النبي المعصوم الذي يوحى إليه فإن هذا ليس مقبولا من الخلفاء اللاحقين للنبي فإنهم بشر يصيبون ويخطئون، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى فضل بعض الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم ومات ولم يسم واحدا من أصحابه للخلافة فاجتمع الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لاختيار الخليفة الجديد ووقع خلاف في الرأي بين المهاجرين والأنصار نتحدث عنه في الحلقة المقبلة إن شاء الله تعالى.

وصلى الله على محمد وآله.