تعاملت الكرة المصرية عبر تاريخها مع مئات المدربين الأجانب، جزء هام من تاريخ الكرة في مصر يدين لهؤلاء المدراء دون شك. بل إن فكرة ريادة مصر الكروية في أفريقيا والشرق الأوسط هي نتاج هذا التعامل مع كرة القدم الأجنبية سواء على صعيد الأندية أو المدربين.

هناك جنسيات محددة لمع أصحابها في مصر دون غيرهم، لهذا قرر المصريون تسمية جنسيات المدربين بالمدار، فهناك المدرسة الألمانية والمجرية والفرنسية.

يمكنك أن تلحق بالمدرسة الألمانية أي مدير ألماني خطت قدماه طريق مصر أيًا كانت طريقة لعبة أو نجاحاته. وهي مدرسة قدر لها المصريون أنها تتسم بالتنظيم والعمل البدني. وكأن كرومر وتسوبيل وهولمان وديكسي وبوكير وأوتوفيستر جميعهم مُنظمون وتركوا إرثًا بدنيًا جيدًا وراءهم.

أصحاب فكر المدارس يتحدثون الآن عن نجاح المدرسة البرتغالية في مصر، بدأ الأمر رفقة العبقري مانويل جوزيه صاحب البطولات الأكثر والأثر الأكبر. تلا هذا الرجل قدوم العديد من البرتغاليين لمصر سواء للأهلي أو الزمالك، حتى أن الأهلي والزمالك يدربهم مدربون برتغاليون ومنتخب مصر يحاول استعادة مدربه البرتغالي السابق دون جدوى.

في الحقيقة أن المصريين لم يلجؤوا للمدرسة البرتغالية استثمارًا لنجاح جوزيه كما يعتقد البعض، بل إن مدربي البرتغال هم من عملوا بجد حتى أصبحوا أكثر المدربين نجاحًا في العالم. نجاح أضفى بظلاله على الكرة في مصر والشرق الأوسط وليس العكس.

ماذا حدث في البرتغال في مجال التدريب؟ ولماذا يعتقد الكثيرون أن المدرب البرتغالي سينجح في مصر؟

دعنا نحاول أن نجيب على تلك الأسئلة بشيء من التدقيق.

لماذا يتربع مدربو البرتغال على القمة؟

لا يخلو دوري من الدوريات الخمس الكبرى من مدرب برتغالي. يمتد هذا التواجد الناجح ليشمل أفريقيا وآسيا، بل وأمريكا الجنوبية أيضًا. تعتبر البرتغال والتي لا يتعدى سكانها العشرة ملايين نسمة ببساطة خط الإنتاج الأهم والأكثر تميزًا فيما يخص المدربين خلال الوقت الحالي.

لا تملك البرتغال الإمكانات المادية التي تمتلكها بلاد أوروبية أخرى، فصار العامل الأول والأهم لتميزهم هو قدرة مدربي البرتغال على التكيف. أفاد هذا البرتغال في إنتاج مدربين قادرين تمامًا على فهم تكتيك اللعبة ولاعبيها على حد سواء. خبرة عملية في مستويات كرة القدم المختلفة مكنتهم من النجاح باختلاف الظروف والمكان.

فكرة التدريب في البرتغال تبدأ دومًا بمحاولة التكيف مع الموارد القليلة التي تتاح في مجال كرة القدم، علاقة صحية بين كرة القدم والفقر، لكن فقر البرتغال هذا ليس بفقر درامي كما تخيل البعض بالعكس فهي دولة تهتم بالرياضة والشباب.

من هنا كان التوازن المنطقي، في البرتغال تبدأ مهنة التدريب دون إمكانيات ضخمة لكن أيضًا دون مستقبل مخيف.

في التسعينيات هنا في البرتغال، كان الوضع مختلفًا للغاية. مدرب مثلي إذا ذهبت للعمل على مستوى الشباب لا يمكنني العيش على هذا النحو بل أحتاج وظيفة أخرى لأعيش. الآن هناك الكثيرون يمكنهم العمل بوظائف مثل تلك.
لويس مارتينيز أحد أقدم مدربي الشباب في البرتغال

يتفق جوزيه جوميز مدرب الأهلي السعودي السابق مع حديث مارتينيز، حيث يؤكد أنه عندما بدأ التدريب كان عليه أن يشارك الملعب مع فريقين آخرين لذلك كان لديه 25 لاعبًا يتدربون في ثلث الملعب. كان هذا يجعله يفكر كثيرًا في محاولة استغلال المساحة مما جعله مدربًا أفضل، لكن جوميز يؤكد أن ذلك لم يكن ليحدث لولا الدراسة الأكاديمية.

هذا ينقلنا للعنصر الثاني، البرتغال هي واحدة من تلك البلدان التي جعلت التدريب مهنة أكاديمية. لا يكفي كونك لاعبًا سابقًا كالعادة لتصبح مدربًا شابًا.

بالطبع يقتدي مدربو البرتغال هنا بمورينيو، الرجل الذي وقف على قمة كرة القدم في العالم دون ممارسة اللعبة. يتم تدريس كرة القدم في عدة جامعات برتغالية مختلفة، بعد أن ينتهي أحدهم من الشهادة يتعلم الحياة المهنية من خلال عمله مع أحد الأندية ليبرهن جودته على أرض الملعب.

أما إذا قرر لاعب كرة قدم محترف أن يسلك مسار التدريب فلا يزال يتعين عليه الذهاب إلى الاتحاد البرتغالي والقيام بدورات التدريب المعتمدة والنجاح بها.

ربما العامل الأخير الذي لا يمكن لأحد قياسه ولا إنكاره هو تلك الكاريزما التي يمتلكها هؤلاء المدربون. الحضور الطاغي والآراء الصريحة الصادمة ومواجهة الجميع دون محاولة المواءمة مع أصحاب النفوذ والسلطة في كرة القدم. فكر في جنسية واحدة غير البرتغالية تجمع شخصيات مثل مورينيو وجوزيه وكيروش ولن تجد بالطبع.

تلك الكاريزما تلعب دورًا هامًا للترويج لهؤلاء المدربين، فكرة أن المدرب البرتغالي قوي الشخصية وقادر على التعامل مع النجوم فكرة تلقى قبولًا لدى الإدارات والجماهير.

هناك طلب كبير على المدربين البرتغاليين في الوقت الحالي. لا أريد التقليل من شأنهم فهم جيدون لكن لديهم اتصالات دولية كبيرة جدًا. يمكننا أن نرى كيف يؤثر خورخي مينديز على العديد من الأندية الأوروبية.
أرسين فينجر

دعنا الآن ننتقل إلى الجزء الآخر: لماذا ينجح المدرب البرتغالي في مصر؟

دوري البطل الأوحد 

كل عوامل نجاح المدرب البرتغالي في العالم هي عوامل تألقه في مصر والمنطقة العربية بالطبع، لكن أهمها الخلفية الثقافية التي ليست ببعيدة زمنًا وشكلًا عن الواقع المصري والعربي.

يبقى في ذهن الكثيرين ما فعله مانويل جوزيه مع مدرب وادي دجلة السابق والتر ميوس إثر تعرضه لحادث خطير، حيث زاره البرتغالي في المستشفى وأهداه رواية مترجمة لنجيب محفوظ.

يستطيع مدربو البرتغال الانصهار جيدًا رفقة ثقافة العرب دون الشعور بالغرابة أو التقيد، مثلما شعر السويسري فايلر أثناء تدريبه للنادي الأهلي على سبيل المثال. هذا على الجانب الشخصي أما على الجانب الفني فهناك عامل في منتهى الأهمية.

الدوري البرتغالي هو الدوري الأصعب من حيث اللعب؛ لأن بعض الفرق لا تدرب لاعبيها على ما يمكن فعله كلاعب كرة قدم لكنها تلعب حتى لا تدع المنافسين يلعبون.
تياجو مينديز لاعب تشيلسي وليون السابق

الحقيقة أننا هنا بصدد شرح سبب منطقي للغاية وهو شكل الدوري البرتغالي. يسيطر على الدوري البرتغالي ثلاث فرق فقط تلعب دور البطولة بينما تكافح بقية الفرق لمحاولة التصدي لهم. وهذا بالضبط ما يجيده مدربو البرتغال ويجيدونه في مصر.

هذا التشابه بين الدوري البرتغالي والدوري المصري والدوريات العربية عمومًا جعل مدربي البرتغال على دراية كاملة بما ينتظرهم في دوريات الشرق الأوسط.

تلك ليست المرة الأولى التي يلعب خلالها فيريرا أو سورايش ضد فرق تتكتل دفاعيًا من أجل نقطة بالعكس، قد يكون سواريش ذاته قد فعل هذا خلال مشواره التدريبي مرات كثيرة.

لذا فالسمة الأساسية لمدربي البرتغال القادمين لمصر هو دراسة الخصم جيدًا وتنظيم فرقهم أولًا لعرقلة ما يمكن أن يفعله الخصم، أما إذا كانوا أصحاب اليد العليا في المباراة فهم حريصون على امتلاك الكرة في محاولات شتى لقهر هذا التكتل المضاد. حدث هذا رفقة باتشيكو وإيناسيو وألميدا، وتلك ليست خصائص مدرسة تدريبية بل شكل فني يتناسب مع المطلوب في مصر وما يجيده هؤلاء.

كما أن ثقافة تغيير المدربين حيث يعرف المدربون في البرتغال أنهم إذا خسروا مباراتين يتم طردهم يجعلهم أقدر على الخروج دومًا بأقل الخسائر، هذا ما يتناسب للغاية مع شكل المنافسة في مصر.

تطور لا ينتهي

تمتلك مصر الآن مزيجًا من مدربي البرتغال، رجل يمثل الحداثة وآخر يمثل الخبرة ولكن للعجب الاثنين يشعر معهما المصريون بالتطور دون وعي للكلمة. يتعامل المصريون مع فيريرا كونه خبير كرة قدم وهو أمر صحيح ولذا فهو يعيد تعليم اللاعبين طريقة اللعب والاستلام والتسلم والركض دون كرة والتحركات خلف الخطوط، وهو ما أكده اللاعبون أنفسهم.

أما في النادي الأهلي فقد تم الاستعانة بريكاردو سورايش أحد الأسماء الصاعدة في البرتغال والذي أتى ليبدأ الحديث عنه سريعًا كونه رجل تطوير كرة القدم في مصر حيث يستعين بأخصائي فسيولوجي وآخر مطور أداء بخلاف محلل الأداء وهكذا.

الحقيقة أن هذا يبدو مؤشرًا منطقيًا شكل الكرة المصرية والتي تبدو وكأنها دائمًا في حالة تطور. هل ترك فيريرا جيلًا من الزمالك مختلفًا عن أقرانه في فترة ولايته الأولى؟ هل سيتعلم المصريون أهمية وجود أخصائي فسيولوجي وآخر نفسي مثلًا من وجود سواريش؟ لا أعتقد.

في الحقيقة، يجب أن تستفيد الكرة المصرية بهذا التواجد البرتغالي القوي والهام، ويجب أن تكون تلك الاستفادة أوسع وأكبر من مجرد ألقاب يحققها أحد الأندية بل يجب محاولة اقتباس التجربة وإلا سنعيش أمد الدهر في ظل لاعبين قدامى يؤمنون بأن المدرسة الألمانية يجب أن تعود من أجل التنظيم والعمل البدني.