كان حماس الجمهور على أشده في المدرجات، فمباراة نصف نهائي الكأس الإنجليزي بين فريقيْ بولتون وتوتنهام قد أوشكت على الانتصاف، وما تزال النتيجة سلبية. فجأة، وفي الدقيقة 43 من عمر الشوط الأول، يسقط لاعب نادي بولتون، باتريس موامبا أرضًا دون وجود التحام كروي يفسر إصابته.

هرع الفريق الطبي إلى أرض الملعب لإسعاف اللاعب. مرت بضع دقائق ثقيلة كأنها دهر، قبل أن يتوجه أحد أفراد الطاقم الطبي باتجاه حكم المباراة، وهو يشير إلى منتصف صدره، في إشارة مخيفة لا تحتمل التأويل .. إنها أزمة قلبية! ليتحول حماس اللاعبين والجمهور إلى صدمة هائلة ودموع وأدعية وابتهالات، لا سيما وقد بدأ الطاقم الطبي في إجراء الإنعاش القلبي الرئوي.

لقد أصيب قلب موامبا بما يسمى بالرجفان البطيني، وهو أحد أشكال توقف عضلة القلب، حيث يرتجف البطين الأيسر للقلب – وهو المسئول عن توزيع الدم إلى كافة أرجاء الجسم – بمعدلٍ سريع للغاية، يجعل من المستحيل أن ينقبض بشكل فعال للحفاظ على سريان الدورة الدموية. في تلك الحالة، إذا لم يتم بدء الإنعاش القلبي الرئوي على الفور للحفاظ على الحد الأدنى من سريان الدم في الجسم، وإعطاء الصدمات الكهربية للقلب لتعيد النبض الطبيعي، فإن الوفاة تكون محتومة خلال دقائق معدودات.

نجا موامبا بأعجوبة بعد عملية إنعاش طويلة تجاوزت مدتها الساعة، وتخللها 15 مرة من الصدمات الكهربية للقلب بالقوة القصوى. لكن لماذا يتوقف قلب شابٍ رباضي عمره 23 عامًا فحسب؟

كشفت الأبحاث في الأيام التالية للواقعة إصابة موامبا بحالة نادرة في القلب، غالبًا ما تكون وراثية في يعض العائلات، تعرف اختصارًا بـ ARVC أو ARVD يحدث فيها اختلال في بنية البطين الأيمن للقلب، حيث تستبدل بعض العضلات فيه، بأنسجة ليفية، أو دهنية، ذات نشاطٍ كهربي مضطرب، يمكن أن تتولد منها اضطرابات كهربية خطيرة مثل التسارع البطيني أو الرجفان البطيني، والتي قد تسبب توقفًا مفاجئًا في عضلة القلب، وتتزايد فرص حدوث مثل تلك الاضطرابات الكهربية الخطيرة أثناء الانفعال الشديد، أو المجهود العضلي المكثف.

لم يكن موامبا استثناءً في ذلك الأمر، فحالة ARVC المرضية قد أنهت الحياة العملية للاعب الكريكيت البريطاني جيمس تايلور، بعيْد اكتشاف إصابته بها عام 2016م، بالمصادفة البحتة أثناء إجراء بعض الفحوصات الطبية لوعكة صحية ألمّت به.

ومؤخرًا، في شهر مايو 2019م، تناقلت وسائل الإعلام العالمية مثالًا صادمًا، وأقل حظًّا من السابقيْن، حيث توفي لاعب كرة قدمٍ هاوٍ في بيرو بأمريكا الجنوبية فجأة، بعد فترةٍ وجيزة من انتهاء إحدى المباريات، بعد تناوله كوبًا من الماء البارد في المنزل، عاجلته في إثره سكتة قلبية، لم يتلقَّ منها الإنعاش الملائم في الوقت المناسب.

اقرأ أيضًا: هل لكوبٍ من الماء البارد أن يقتلَ إنسانًا؟

مقطع مبسط لعملية الإنعاش القلبي الرئوي


الرياضة .. هل هي سلاح ذو حدين؟

من المعلوم بالضرورة للجميع أن الرياضة المنتظمة من أجَلّ ما يمكن للمرء أن يُهدي به صحته وحياته، فهي تجدد النشاط، وتقوي القلب، وتحسن كفاءة التنفس، وتنمي عضلات الجسم وقوته البدنية، و تقلل فرص الإصابة بأمراضٍ مزمنة خطيرة كالسكري والضغط وأمراض الشرايين التاجية للقلب، وجلطات المخ، والاكتئاب .. إلخ، بل قد تُحسن الرياضة المنتظمة صحة العقل وكفاءته، و نضارة الجلد.

إذن، فالاستنتاج المنطقي أن الرياضيين عمومًا أقل عرضة للأخطار الصحية من نظرائهم غير الرياضيين، وهذا بالفعل قد يكون صحيحًا، ولكن،تفاجئنا الوقائع من حينٍ لآخر ببعض الاستثناءات الصادمة، إذ يتعرض بعض الرياضيين لسكتات قلبية تودي بحياة البعض منهم على حين غرة. ومع التطور الكبير الذي تشهده فروع الطب المختلفة، ومنها طب القلب والأوعية الدموية، وكذلك علوم الجينات الوراثية الطبية، اكتشفنا العديد من الأمراض الكامنة، وأكثرها لحسن الحظ شديد الندرة، والتي غالبًا ما تصيب القلب وتزيد فرص حدوث الوفاة بالاضطرابات الكهربية الخطيرة التي تسبب توقف عضلة القلب.

لمزيد من حسن الحظ، فتلك المضاعفات الخطيرة لا تحدث عادةً إلا لقلة من المصابين بتلك الأمراض، إذ يحتاج تحفيز حدوث مثل تلك الاضطرابات الكهربية القلبية الخطيرة لوقوع مؤثراتٍ عاتية، مثل الضغط البدني والعصبي الشديد الذي يصاحب الرياضات عالية التنافسية، لكن في المقابل قد تحدث تلك المضاعفات في ندرةٍ من الحالات دون وجود مؤثرٍ واضح.


الوفاة المفاجئة للشباب … فتّش عن القلب

هناك بعض الحالات المرضية القلبية، وأكثرها أمراض وراثية – يكون هناك تاريخ عائلي واضح للوفاة المفاجئة في سن صغير – والتي تزيد فرص التعرض للوفاة المفاجئة، نتيجة الإصابة باضطراباتٍ كهربية جسيمة توقف عضلة القلب، أو مضاعفاتٍ أخرى.

من أشهر تلك الحالات، والتي يعزى إليها أكثر من ثلث حالات الوفاة المفاجئة بين الرياضيين الشباب، التضخم الانسدادي في جدران القلب، حيث يزداد حجم الجدار بين البطيْنيْن بشكل كبير، مما يضيق حجم الممر العلوي للبطين الأيسر، والذي يمر عبره تيار الدم الذي يُضّخُّ منه إلى الشريان الأورطي لتغذية كافة أجزاء الجسم بالدم. تزداد خطورة تلك الحالة ومضاعفاتها مع بذل المجهود البدني الشديد، والذي يزيد تسارع وقوة انقباض القلب، مما قد يعوق تمامًا خروج الدم من البطين الأيسر، كما أن هذا النسيج المتضخم يكون نشاطه الكهربي زائدًا عن الحدود الطبيعية، مما يسهل تولد اضطرابات كهربية جسيمة من خلاله تسبب توقف القلب، خاصة مع انقطاع الدم الذي يحدث أثناء النشاط الرياضي الكثيف.

أيضًا قد يعاني البعض من مسارات غير نمطية للشرايين التاجية الرئيسية المغذية للقلب، والتي تتوزع طبيعيًا في الطبقة الخارجية للقلب، لتجنب الضغط عليها أثناء انقباض القلب. في بعض تلك الحالات، يمر جزء هام من أحد الشرايين التاجية قرب أو داخل الكتلة العضلية، أو يتخلل مساره انحناءات حادة، أو انثناءات غير طبيعية … إلخ، مما يسبب انقطاع الدم عن أجزاء من القلب أثناء المجهود الرياضي الشديد، نتيجة تضاعف قوة انقباض القلب وتسارعه ، مما قد يسبب الاضطرابات الكهربي ة والوفاة المفاجئة.

هناك حالات وراثية أخرى تزداد فيها فرص الإصابة باختلالات كهربية خطيرة في القلب، مثل متلازمة بروغاد ا، ومتلازمات تطاول قطعة ك – ت في رسم القلب الكهربي .. إلخ.

قد يحدث أيضًا بشكلٍ نادرٍ التهاب فيروسي في عضلة القلب، يسبب ضعف عضلة القلب، وحدوث الاضطرابات الكهربية الخطيرة بشكلٍ تلقائي، أو مع بذل أقل مجهود. كما قد يحدث توقف القلب المفاجئ لدى بعض الرياضيين غير المصابين بالأمراض الوراثية المذكورة آنفًا، وذلك نتيجة الإصابة بضربة قوية للغاية في الصدر أثناء أحد الالتحامات، تؤدي إلى حدوث كدمة بعضلة القلب، أو يتصادف وقوع الضربة م ـع الفترة القصيرة للغاية التي يتزايد فيها التحفز الكهربي للقلب أثناء الدورة الكهربية القلبية المعتادة، مما يؤدي إلى حدوث الاضطرابات الكهربية الخطيرة كالرجفان البطيني.

لكن لابد من التأكيد على ندرة تلك الحالات ومضاعفاتها، حتى لا يتخلى البعض عن الرياضة الاحترافية وفوائدها الجمة باعتبارها أصبحت مكمنًا للخطر، بينما ننسى أسبابًا أُخَر هي الأخطر والأجدر بالانتباه. في الولايات المتحدة الأمريكية أظهرت الإحصائيات أن السبب الرئيس لوفاة الشباب الصغار هو حوادث السيارات، والتي تسبب أكثر من 2500 ضعف حالات الوفاة المفاجئة المتعلقة بالرياضة.


الرياضة شديدة التنافسية وبعض نواقيس الخطر

بقدر عظم الفوائد المختلفة للرياضة المنتظمة، بقدر ما ينبغي وضع العديد من الخطوط الحمر تحت الرياضات شديدة التنافسية وما يصاحبها من ضغوط هائلة على الأبطال الرياضيين، على المستوى البدني والذهني والنفسي، والتي لا شك تخصم كثيرًا من المنافع التي يتحصلون عليها من الرياضة.

تذكر بعض الإحصائيات أن رياضيًا محترفًا شابًا يتوفى في الولايات المتحدة الأمريكية كل 3 أيام، كما أظهرت أن احتمال تعرض الشباب من الرياضيين المحترفين لحدوث الوفاة المفاجئة ضعف معدلات تعرض نظرائهم من غير المحترفين.

وتؤكد نتائج دراسات أجرتها الرابطة الوطنية الأمريكية للرياضيين الجامعيين، أن أكثر الرياضيين تعرضًا لخطر الوفاة نتيجة موت القلب المفاجئ هم الذكور ذوو الأصول الأفريقية من محترفي رياضة كرة السلة، والتي تشتهر بضراوة المنافسة فيها، ودسامة المباريات، وكثافة البطولات، إذ يصبح هؤلاء أكثر عرضةً للخطر عشرة أمثال نظرائهم من محترفي الألعاب الأقل تنافسية. ويؤكد تلك النتائج، ما أظهرته بعض الإحصائيات في الولايات المتحدة الأمريكية من أن 67% من حالات توقف القلب المفاجئ للرياضيين المحترفين كانت من نصيب محترفي كرة السلة، وكرة القدم الأمريكية.


كيف يمكن للرياضي المحترف حماية نفسه من التعرض لخطر توقف القلب المفاجئ؟

على مدار السنوات الماضية، أجريت دراسات عديدة عن مدى جدوى إجراء مسحٍ عامٍ بالكشف الطبي على القلب، مع إجراء بعض الفحوصات مثل رسم القلب الكهربي، والموجات الصوتية على القلب، لجميع الرياضيين المحترفين الحاليين، وكذلك من ينوون مستقبلًا ممارستها. لكن تضاربت النتائج والآراء حول مدى فعاليةمثل تلك الإجراءات في الوقاية من هذه الظاهرة المخيفة، مقارنة بالكلفة المادية والنفسية الكبيرة لها.

تكمن المشكلة في أن بعض الحالات القلبية النادرة قد لا يكتشف وجودها الفحص الطبي الخارجي الدوري، ورسم القلب الكهربائي، وموجات القلب الصوتية. كذلك فالكشف الطبي على ملايين الأشخاص من أجل اكتشاف بضعة آلاف من المصابين الفعليين، سينجم عنه عدد غير قليل من التشخيص الإيجابي الخاطئ، مما يستلزم للمزيد من التحقق إجراء اختبارات أقوى وأكثر كلفة؛ مثل القسطرة القلبية التشخيصية، أو الرنين المغناطيسي على القلب، أو أخذ عينة من عضلة القلب وفحصها .. إلخ.

لكن عمومًا يمكن تركيز تلك الفحوصات على الشرائح الأكثر خطورة، كمن حدث لهم سابقًا توقف مؤقت في عضلة القلب، أو بعض الأعراض الخطيرة المرجحة لحدوثه مثل آلام الصدر، أو من يوجد في التاريخ المرضي العائلي لهم حالات من الوفاة المفاجئة خاصة في سن الشباب أو أثناء ممارسة الرياضة.

اقرأ أيضًا: مرض العصر .. قلوبٌ شابة في مرمى الموت.

كذلك يقع على عاتق المدربين دور هام في تقليل احتمالات تعرض اللاعبين لهذا الخطر المميت، وذلك بتقليل الضغط البدني والعصبي أثناء التمارين، و كذلك بالوعي بأعراض الخطر المذكورة سابقًا. كما يجب أن تتوافر في كافة الملاعب والأندية الرياضية أطقم طبية متخصصة للتعامل الطارئ مع حالات توقف عضلة القلب، وأن تزود تلك الأماكن بأجهزة الصدمات الكهربية الأوتوماتيكية للقلب، مع تدريب عامة الناس على استخدامها.

اقرأ أيضًا: كيف تتعامل مع حالة إغماء مفاجئ في الشارع؟

يجب على من يكتشف إصابته بإحدى الحالات المرضية التي تسهل حدوث توقف القلب المفاجئ؛ التوقف عن ممارسة الرياضة الكثيفة، وطلب المشورة الطبية المتخصصة للبحث في العلاجات الجذرية المتوفرة لبعض تلك الحالات (كالإزالة الجراحية، أو الكي لحالات التضخم الانسدادي لجدران القلب). كما يجب الكشف الطبي القلبي المتخصص على أقارب الدرجة الأولى والثانية لمثل هؤلاء المرضى، للكشف المبكر عن تلك الحالات التي كثيرًا ما تكون وراثية.